الثلاثاء، 10 فبراير 2015

فؤاد افرام البستاني - مع الأب شربل مخلوف.


مع الأب شربل مخلوف

فؤاد افرام البستاني

منشورات الدائرة بيروت 1981




هو كتاب أدرجه مؤلّفه في سلسلة كتب دعاها مكتبة الثقافة الروحيّة، وهي تضمّ إليه ستة كتب أخرى من أعماله وبأسلوبه الرائع الرشيق. يقدّم الكاتب مؤلّفه على أنّه حوار جرى مع الأب شربل مخلوف في دير مار مارون – عنّايا في الحادي والعشرين من حزيران العام 1878، وقد دوّنه من أجراه معه وأخفاه تنفيذاً لشرط المحاورين في قبول هذا الحوار، وهو ألا ينشر ولا يدفع الى الطبع قبل مرور مائة سنة وسنتين عليه. (سنعود لنبحث في هذا الشرط فيما بعد).

يستهلّ الكاتب مؤلّفه بحديث مع رئيس الدير في ذلك الوقت من دون أن يسمّيه، (وهو الأب الياس المشمشاني)، ويتبادل معه الحديث عن شؤون وشجون الطائفة في تلك الفترة ممّا يعيدنا الى أحداث تاريخيّة من أبطالها المستترة رستم باشا المتصرّف والبطريرك بولس مسعد من ناحية، والمطران بطرس البستاني الذي تمّ إبعاده الى القدس من ناحية أخرى. وسيتبيّن أنّ الأب الرئيس على علم بكلّ هذه الأمور وأنّه ممتنّ لحكمة المطران المذكور، ولطاعته بتنفيذه لأمر النفي طالباً من أبناء رعيّته عدم التحرّك منعاً لقيام فتنة قد لا تحمد عقباها. البداية إذاً، ثقافيّة تاريخيّة بامتياز، وإن كان مرام القارئ أن يلج سريعاً الى الحوار مع الأب شربل مخلوف، كما وُعد من خلال عنوان الكتاب.

ويلتقي مدوّن الحوار مع الحبيس الذي يرفض للوهلة الأولى الكتابة عنه بعد أن عرف أنّ زائره يكتب في "الكازتّات" أيّ الجنرنالات. فـ"الحبيس يعتزل الناس حتى لا يذكره الناس لا بالخير ولا بالشرّ. فهو ميت لدى العالم، حيّ بالمسيح". ولكنّه يعود ويتّفق معه على عدم نشر ذاك الحديث إلاّ بعد مضيّ مائة سنة وسنتين. لا نعلم بالضبط ما يعنيه هذا الرقم، أو إذا كان له من تفسير سيميولوجي خاص، ولكن يجوز لنا أن نفترض أن بعد مضي قرن على هذا الحديث يكون الناسك قد توفّي الى رحمة الله، وأنّه بذلك لن يكون مضطرّاً أن ينفيه إذا ما كان فيه شطط أو يؤكّده إذا ما كان مصيباً. ولكن من يعرف سيرة حياة القدّيس وطريقة عيشه قبل المحبسة وبعدها، ومن يعرف شيئاً عن روحانيّته وأساسها الموت عن هذه الدنيا ومغرياتها بالصمت الكبير، لا بدّ سيستغرب ليس فقط اللقاء بل الإتّفاق أيضاً، وأيضاً بعضاً من مضمون الحديث الذي سيلي.

تضمّن اللقاء ثلاثة مواضيع رئيسيّة: أوّلاً، في دور النسّاك وإذا ما كانوا عديمي الفائدة للمجتمع، ثانياً، في مسألة انبثاق الروح القدس المختلف عليها بين الكنيستين الشرقيّة والغربيّة، وثالثاً، في استلهام قضيّة المطران بطرس البستاني، راعي أبرشية صيدا وصور لبحث مسألة حسد الرئيس للمرؤوس، وجواز العمل السياسي للأسقف.

في المسألة الأولى، يردّد الأب شربل ما يعرفه وما يؤمن به وما عاشه كلّ حياته، وما يعرفه أيضاً محاوره جيّداً. فالنسك هو دعوة إذا لم تأتِك لن تكون حبيساً. ويكفي كلّ مؤمن أن يعيش "برضى الله ونعمته، قائماً بواجباته ومتمّماً وصاياه". أمّا الحبيس فيبقى "يحارب الشهوات بما يعاكسها من الفضائل كلّ حياته ... فيتّخذ الله وحده نصيباً له في الوجود". يحارب شهوة الغنى بالفقر، وشهوة اللذائذ بالعفّة والتقشّف، وشهوة الجاه بالتواضع والخشوع، وشهوة الغرور والتبجّح بالمعرفة والعلم والاعتداد بالنفس باكتشافه حكمة الله وبفضيلة الطاعة، وشهوة الثرثرة بفضيلة الصمت. وفي محاربته هذه للشهوات إنّما يترفّع عن العالم ليصلّي من أجل العالم، كلّ العالم. فهل بعد هذا يجوز السؤال إن كان مجدياً لمجتمعه في نسكه؟

في المسألة الثانية، فإنّ الله أرفع من أن تناله مقاييس العقل البشري. وهذا ما أوحاه الله الى القدّيس أوغسطينوس عن طريق ذلك الولد الصغير الذي كان يريد نقل البحر بصدفة الى حفرة صغيرة على شاطئ البحر الرملي. ويتساءل الأب شربل، ماذا نجني إن طمح عقلنا الصغير الى اكتناه الله سوى الغرور والكبرياء. فلنتواضع إذاً ولنعمل بالوصيّة الكبرى وهي محبّة الله ومحبّة القريب.

أمّا في المسألة الثالثة، وهي مسألة المطران بطرس البستاني، فيتحدّث الحبيس عن شر حسد الرئيس للمرؤوس. فإذا كان العكس وارداً بسبب ضعف الطبيعة البشريّة، فالأمر انتكاسة كبرى إذا ما حصل وهو يجرّ الويلات على المجتمع بأسره. حديثه هذا إشارة لرفعة مكانة المطران والتي ما استحسنها البطريرك. ثمّ إن الراعي لا بدّ أن يدافع عن رعيّته، فهو مسؤول عنها على كافّة الصعد. وبعمله هذا إنّما يقتدي بالمسيح، الراعي الصالح، ويكون من واجبه أن يسوس مجتمعه نحو الأفضل.

هذا باختصار مضمون الكتاب. وكما بدأه بمعلومة تاريخيّة، أنهاه بأخرى عن قداسة الأب شربل.

واضح إذاً، أنّ ما جاء به الكتاب عن مسألة الحبساء والنسك معروف تماماً من الرهبان والمكرّسين، ومن العلمانيّين أيضاً. وما جاء به في مسألة الجدل في الإلهيّات العقيم، والأجدى هو الإيمان بتواضع. وكذلك ما جاء به في مسألة دور الراعي مع رعيّته. وواضح أيضاً، أن هذا الحوار وظروف إقامته، وشرط الأب شربل تحديداً، المتقشّف، القليل الكلام، غير مقنع البتّة للذين سبروا سيرة حياته. ما نعتقده هو أنّ الكاتب أراد أن يدلي بأفكاره الخاصّة، فأسقطها على لسان الأب شربل لإضفاء مزيداً من المصداقيّة عليها. لم يكن الحوار مع الأب شربل مخلوف، بل مع الذات. لقد كان فؤاد افرام البستاني يحاور فؤاد افرام البستاني. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق