الأحد، 9 فبراير 2014

الأب فيليب شبيعة ... لات ساعة مندم


 
نشرت في الكتيّب الخاص به في الذكرى الأولى لوفاته

 
 


لات ساعة مندم

 
ما عرفت الرجل كمثل آخرين، وها أنا بفرح أكتب عنه !
 
ألمسألة أنّ اسمه على كلّ لسان، والألسن أجمعت على أنّ " بشرّي" كانت دائماً على لسانه. المسألة أذاً، أنّه أحبّ مدينته كما حلا لجبران أن يصف الحبّ يوم مولد هذا المحترم. فهو ما سجنها في قصيدة شعر. أحبّ طفلها وأباه، شبابها وطاقته، الطريق والحفر، الزواريب والاخبار ونبتة الحفافي. فأعطت محبّته ذاتها. أن يرحل هكذا رجل فخسارة بحجمه . أمّا أن تجد مثله اليوم فمسألة تضاف الى المسألة .
   
كم تمنّيت أن يكون عندي شهادة في هذا الكبير. كم تمنّيت لو بدأت ما أكتبه الآن بذكرى منه أو بحديث معه أو حتّى بقدّاس له أزعم أنّي حضرته. خاوية هي جعبتي من كلّ هذا. فكيف أتجاسر لأكتب، هكذا بكلّ وقاحة، عن رجلٍ أورث العلم لأجيال في بلدتي طيلة أربعة عقود وأنا لم أعرفه؟ حجّتي أن أكثر الذين كتبوا عن جبران لم يعرفوه. وأن الحديث عن هذا الأسقف بالذات أغرّ من سراب. وصْبابتي قد تروي وإن لم تكن غَيلاً. ثمّ إن عندي سببان :
كان سيادته يعي أن القلق للمجتمع جمود وأن الفرح فيه حركة تغيير مستمرّة. لهذا لبس جزمة "بابا نويل". إن انتعال هذا الحذاء الأسود الطويل ما كان بالأمر الهيّن في ذلك الوقت ولا هو هكذا الآن: اسألوا أولائك الذين يوزّعون هدايا اليوم سواء اتفقوا أم اختلفوا. وحده منذ ستّين سنة قام بالعمل. أراد فانطلق. وجسّد في انطلاقته ثقافة ما بعدها ثقافة. للّذين يغرقون في بحر النظريّات الثقافيّة أن يتذكّروا أنّ الرجل وهو دارس الفلسفة هنا وفي روما، لم يجلس في برجه العاجي بل ترك ليديه أن تفعل في مجتمعه فتنضح ثقافات.
شيء آخر .
 ما من شكّ أن هذا الجليل الراحل رغب في أن يخلق في مدينته جيلاً مترفّعاً عن الصراعات الرخيصة.  فكان له في كلّ نادٍ أو جمعيّة يدٌ مباركة، وفي كلّ مسيرةٍ قدم قائدٍ ثابتة. أراد أن يكون الجيل الطالع على يديه ناشطاً لخير مجتمعه، إذاً لذاته، مشغولاً عن سيناريوهات المتحلّقين حول نار الكوانين وعن حكي القرايا. إن كان ثمّة حركة اجتماعيّة وثقافية في بشرّي خلال العقود القليلة الماضية، فلهذا الجيل حقّ الإعتراف منّا بإقامتها . أجمل الأجمل أنّ الأب (دائماً أب وإن صار مطراناً) حلم ان تصبح بشرّي العائلات المتفرّقة، بشرّي العائلة الواحدة. إليك هذا الحالم الكبير ! والله لو اختصر العالم بلبنان ولبنان في بشرّي ولو سمح للشيطان أن يتغلغل في ثنايا الفكر على أنغام فأفآت لهيب نار الكوانين ، لقالت العقول أن الرجل يؤسّس لمذهبٍ هرطوقي جديد.
      ولكن ما لنا وللشياطين الآن ؟ نحن نتحدّث عن بارٍّ كاد أن يوزّع ريع حقوق "جبران" على عموم أهالي مدينته يوم كاد أن يصبح رئيساً للجنته الوطنيّة .
      ... ولات ساعة مندم .  


الد. طارق الشدياق
آذار 2002

السبت، 8 فبراير 2014

يا مار مارون

نشرت في جريدة الجمهوريّة بمناسبة عيد مار مارون في 8\2\2014.


يــــــــــــــــا مار مارون!


أناديك من عرين جماعتك، من أوديّة نسّاكك، من قلب لبنان.  أتوجّه إليك من منبت رجالك، بيدِ تخفي نصف وجهي خجلاً أو... مهابةً أو ... كهاربِ من فعلةٍ شنعاء.  وأحدّق بك بالنصف الآخر علّني أرى سمات وجهك فأدرك أحاسيسك، مرارتك أو رِضاك، وأنت تنظر إلينا. وإذ أتمثّلك واقف في العراء، تحدّق بغصنَي الصليب أمامك، لا أرى سوى عصاك، وقد نَعُمت فيها العِقَدُ من عرق يديك وهي تقبض بقوّة عليها، فأتيقّن، مرّة بعد، من مدى صلابتك وعمق ثباتك. ها إنّي أقف أمامك مصغياً أودّ لو تتكلّم ، لا فرق إن باركت أبناءك الذين صمدوا أمام المحَن وناضلوا للخير يوماً، أوغضبت من أبناء أبنائك الذين نسوا الرسالة واستجابوا لأنانيّتهم أيّاماً. مصغياً أنا، لأنّي في حضرتِك أطمح أن لا أكون إلاّ أذُن صاغية. ولكنّي أعلم أنّك قليل الكلام، كثير الصلاة. فاسمع إذن شكواي.
لا بدّ أنّك تودّ تذكيري بالسنين الغابرات، وهي سنوات اضطهاد طويلة رسّخت شعبك، صلواته والرجاء، عناده والصمود، صبره والرؤية. ورسّخت في أذهاننا صورة لرهبانك والجماعة عائدون من محاكاة الأرض بترنيمات المدائح والتسبيح والشكر، يعاهدونك بها إكمال المسيرة. يومها كان الثلج، كما قلوبهم، أكثر بياضاً، وخضرة جنائنهم المدرّجة، كما أياديهم، تنضح بركات. ارتوت الأرض، ونحن قابعون عليها اليوم، من دماء أياديهم وأقدامهم وشهدائهم، فتقدّست بهم أعمالاً وفكراً وشهادة حقّ، وعبقت بروائح بخورهم أودية قدّيسين، ومغاور حبساء، وشهداء حقيقة. ويومها التصقوا بكنيستهم، لا يفارقونها ولا تفارقهم، فارتضوا لها ما ارتضوه لأنفسهم، وكبروا بها وكبُرت بهم، وحدّقوا معاً إلى البعيد بأعين لا ترتجف.
أمّا اليوم ... يـــــا مار مارون!
يبدو أنّ أنفسنا قد هانت علينا لنعرف أنّ اللون ألأبيض الطاهر الثابت  القديم عند جماعتك  أصبح قديماً بالفعل، رجعيّاً في هذا الزمن البائس، وأنّه استبدل بألوان قوس القزح علامة تقدّم مزيّف؟ ومتى كان التلوّن تقدّماً؟ وما معنى "فليكن كلامكم نعم نعم أولا لا، وما زاد عن ذلك فهو من الشرّير"؟.
اليوم، أبناؤك متفرّقون، متباعدون ولا من يقرّب بينهم. متروكون  لحقدهم وغيّهم وشرّهم وأنانيّتهم الوقحة. مبادؤنا الأخلاقيّة تحوّلت إلى فقط أمنيات. فبإسم الحرّية غضضنا الطرف عن شهوة العين، وبإسم العلم  سمحنا لشهوة المال أن تمتلكنا، وبإسم حبّ الوطن تمسّكنا بشهوة السلطة. والحريّة والعلم وحبّ الوطن براءٌ من أحابيلنا والترّهات ومن خبثنا والنفاق، وهي ما كانت يوماً عائقاً متى كنّا روّاد النهضة في هذا المشرق الحبيب. مؤسّساتنا التربويّة والصحيّة بارعة في إدارتها الماليّة، "تشنّف" آذاننا بخساراتها كلّ سنة خدمةً للأبناء، و"تبهر" عيوننا بإقامة بناء تضيفه على أبنيتها كلّ سنة، وخدمةً أيضاً للأبناء. برامج شاشاتنا مبتذلة لأنّ العملة الخضراء باتت أهمّ من الترقّي. كتّابنا استسهلوا الآهات وأدخلوها بين دفّتيّ كتاب وأسموها أدباً حديثاً. انكببنا على الخدمات مؤكّدين حضارة الإستهلاك، وأهملنا الزراعة والصناعة وتطبيق العلوم. ورحنا نبكي كيف أنّنا نفقد الوطن الذي أولدناه من رحم معاناة قرون.   
أمّا قادتنا والمسؤولون فقابعون على بلاطة عروشهم الثقيلة ولا من يحاسب. مشطورون هم إلى نصفين، يفصل بينهما مستنقع الكراهية.  نصفان نحن جماعتك يا رجل الله. وكلّ نصفٍ يحسب نفسه الكلّ. متهافتون على كرسيٍّ باتت بسبب التهافت عليها كرسيّ من قشّ. يقاتلون حتى الله من أجل مصالحهم الفرديّة ولو اخترب البلد. الأسوء أنّهم يعملون، سواء أأدركوا ذلك أم لا، على تأسيس واقع جديد في جماعتك أساسه الحقد والكراهيّة. نصفان نحن، لا نتهادن ولا نتسالم، لا نتحاور ولا نتفاهم، بل نكره بعضنا البعض وندّعي أنّنا أتباع ملك السلام والحبّ. وهل بعد ذلك السوء سوء؟ ... بلى، واحدة فقط: الكلّ يتلقّى التصفيق الحاد من جماعته حتى يحمرّ الكفّان، وذلك على قاعدة إنّ كنّا لا نستطيع أن نحاسب فنحن نستطيع أن نصفّق.
يـــــــا مار مارون! ...
أعلم أنّك قد استمعت إليّ. وأعلم أنّك، بعد كلّ ما سمعته، ستدعوني إلى الصلاة. ولكنّي في ذكرى عيدك أريدك أن تعلم أنّي أدعوك لأن تضرب الأرض التي تقف عليه بعصاك، عصا الرعاية. فنحن بحاجة إلى صدمة زلزال تعيدنا إلى الرشد.
د. طارق الشدياق

الأحد، 2 فبراير 2014

مع "جبران المجنون" لوهيب كيروز

15\8\2010



1 -



ما أحزنني قطّ أنّك تعلم بوضوح أنّه لن يعطى لك أن تخرج " جبران المجنون" الى  المبصرين في "عتمة اليوم"[1]. وعكس ذلك، لكان أحرقني بنحيب غصص اللوعة. ذلك أنّ ما تعلمه بوضوح الرؤيوي، يا ناسك المتحف، أدركته، أنا، من جعبتي بخسارة من غاص رغماً عنه في لظى حضارة الإستهلاك ونفاياتها المعولمة. وأسباب عدم هذا الإخراج – إخراج "جبران المجنون" -  كثيرة كما قلت، لكنّي أستميحك العذر أن أنتقي واحداً منها فأنفث فيه غضباً مكبوتاً، وأكسر عنق صبابتي التي قد تروي وإن لم تكن غيلاً.     


السبب الذي انتقيته ... هو أنّنا لم نعد في زمن العمالقة.           
لقد رحلت ال "بيضاء بياض الثلج"[2] وما بقي سوى الأقزام. أنظر الى الفنّ المتلفز، فبين الخبر والخبر رقصة أجساد نحيلة تحار كيف تلتقط رأسها لخفّة وزنه، تقوم على إيقاع بطنِ أملس، لا سَبَد له ولا لَبَد، إبتلع من المال الأخضر حتى التخمة، فغرغر وعرعر واشتدّ وانتصب، وساد وماد وهاج وماج، ثمّ اهتزّ ووقف يتلقّى الشكر بتصفيق حادّ من مراهق جمُدت فروة رأسه، وما تحتها، بصمغ "السبايكي". لا ... لم نعد في زمن العمالقة. وما الزمن زمنك، ومسرحيّتك قد لا تراها على خشبة. وفي زمن اللاعمالقة يصبح رقصك الإيحائي -  ذلك الذي رسمته على إيقاع نبضات قلبِك حيث عبيط الدم يخرج الجهد من جبهتِك قطرات هي نجوم المبدع – حجّة عليك، وجبرانك المجنون أكثر جنوناً. ولكن ...           
أنا أعلم، وأنت تعلم، أنّ نبح الكلاب لا يضرّ بالسحاب، وأنّ البئر أبقى من الرشاء ... ولهذا رغبتُ وقلمي أن نصل الى وجه المصطفى من بوّابة "جبران المجنون" حيث الغرق الى قاع  الذات شرط وصول. قلت رغبت ولن أحيد عنها كلمة. ليس لتواضع منّي بل لأنّه إذا كانت الذات الإنسانيّة واحدة، فذات جبران وذاتك وذاتي واحدة. ولا يكمن الفرق إلاّ بشفافيّة المعرفة، وهي بلّورية عندكما، أمّا عندي فما زالت مادّتها كثيفة بعض الشيء، وهي ما زالت قابعة على بلاطة غير قادرة على التحليق، وإن كانت تملك نعمة النظر الى فوق حيث المحلّقين.
هل نبدأ؟ ...
...
سنبدأ ...

2 –

أنا أقول ما تقوله أنت من أنّ الحياة "لاتترقّى بضلع واحد"[3]، وأنّ التخلّف كما الترقّي عام. وربّما أزايد مردّداً بأنّ سرعة القافلة لا تقاس إلاّ بسرعة أبطأ بعير فيها. ولهذا أدرك كم هي شاسعة المسافة التي تفصلني - أنا على الأقلّ- عن جبران. فأغبطه على تفلّته "منّا" وإن جهد أن لا يقطع الحبل الذي كان يربطه بالقطيع ... الدليل وصيّته. جبران المجنون إذاً هو حقّاً مختلف، وقد يبدأ هذا الإختلاف من تفلّته هذا بالتحديد. قلت يبدأ لأنّ هذا الإختلاف سيتعاظم في "جوّانيّته"، كما توضح، بفعل "انعكاس قوى الطبيعة الديناميّة من لا وعيه على وعيه"، حتى مع هذا الإنعكاس يروح يتحوّل .[4]  
وإذ أتبعك فأتعرّف على طبيعة تمرحل جبران أردّد من ورائك، وإنّ باختصار شديد، "أنّه ومن عمليّة استبطانه الدائمة، يكتشف حياة ومبادئ الطبيعة - قوّتها وحركتها الديناميّة – فيستقرئ قدرتها السامية، ويتعرّف على ذاته، ويحرّر وعيه فتنبثق حكمته"[5] ... هل تسمح لي أن أختصر مستعيناً بِك بعد فأكرّر إنّه من " التوق المتواصل" للحكمة يغتنى حكمةً؟
ولكنّي أسأل: هل المسألة هي فقط مسألة انعكاس قوى الطبيعة من اللاوعي الى الوعي؟ أعني هل هي فقط هكذا؟ لماذا إذاً لا يصيب هذا "التوق المتواصل" كلّ الناس؟ وسأعيد السؤال بعد، وإن برزت أنانيّتي من تحت قشرة البصل. لماذا جبران خليل جبران وليس أنا؟ لماذا شربل مخلوف وليس أنا؟ لماذا ... ليس أنا؟ ...... هل المسألة هي مسألة إرادة لا أملكها؟ ... هل تسمح لي بأن أجيبَك بجواب المؤمن؟! وقد يكون الجواب الأفضل، والأشدّ إقناعاً ، وسأترك لقلمي أن يرميه على هذه الورقة بسرعة...   
المسألة عندي هي مسألة نعمة تؤتى من فوق.
قد لا توافقني ... أعلم ... عل أيّ حال، يمكنك أن تفسّر هذا الفوق كما تشاء، ولكنّها نعمة. وإذ هي كذلك، ما يكون فضل المنعم عليه؟ لا فضل له ربّما، سوى بتلقّفه هذه النعمة أو سوى بحملِه الصليب في الشهادة لناس عصره بما أُنعِم عليه. هو شاهد لعصره إذاً، شاهد لنعمته، معلّمُ، مؤثّرُ، مثالُ ... ولكنّه مختار، وقعت في قلبه نعمة. من هذه الزاوية أنا أرى جبران حيّاً ... مجنوناً. لقد أظهر نعمته نوراً يضيئ في زمن اللهث وراء كلّ شيء إلاّ النور. هو غيره العالم، تماماً كما الكثير من فلاسفة الألمان النهضويّين مثلاً، أو "البير كامو" في إنسانه هذا المجهول، والذي ما وجد له حلاً ليواجه به قدره، بل ويتحدّاه، سوى التضامن مع أخيه الإنسان ومحبّته، وغيرهم. بل تماماً كما القدّيسين في أعين المنغمسين في خيرات هذه الدنيا، فشربل مخلوف مجنون لمن حكمة الصليب عنده جهالة، كذلك القدّيس فرنسيس الأسيزي الذي ما همّه عراءه الذي أحرج به الناظرين إليه، فكان مجنوناً آخراً.  بل المسيح نفسه، عند البعض، مجنون حمل في قلبه بارانويا خلاص العالم فعُلِّق على خشبة ... جبران المجنون وهو واحد من هؤلاء المجانين في أعين الجاهلين "كان أقرب الى ذاته الحقّة" الجوّانيّة، الى "الحوريّة"[6] التي غاص فيها ليصبحا معاً جسداً واحداً وروحاً واحدة، الى الحقيقة، الى كلّ الحقيقة ... فاقتضى منك خلق واحد وعشرين شخصاً من المدينة المباركة  وقفوا على خشبة المسرح ليجسّدوا هذا القرب الجبراني من ذاته ... هذه النعمة ... بل اقتضى منك أن تتدخّل في الإخراج. فما نسيت النور وتلاعبه، ولا الأصوات إنّ أنّت أو هتفت، ولا الموسيقى التي أظهرت هيبتها جلالاً كما مع فاغنر، أو صخباً على الطريقة السترافنسكيّة، أو قدرة تمثّل حركة مع بيتهوفن ...
الى هذا الحدّ جعلتني أفتخر بجنون جبران يا رجل.
 
-3-
أستميحك الآن العذر لأدخل الى المسرح، فمسرحيّتُك بدأت.
... وأخذتني رهبة المشهد الأوّل. كنت أحدّق بالخشبة وأنا أسير لأجلس في أيّ مكان ... وأظنّني جلست على ... الأرض. ما أرهبتني الأعين المقلوعة أو الأيدي المقطوعة، ولا بقع الدم تحتها وفوقها. ولا صخب الموسيقى المرافقة أو بحّة الناي الحزينة. ولكنّ الفجأة سكنت نفسي وأنا أقرأ ما جاء في الكتاب، "إذا كانت عينُك اليُمنى تشكّكك ... وإذا شكّكتك يدك اليمنى ... "[7].
هذه الكتابات بالحرف الأسود العريض وردت في الأناجيل الإزائيّة كلّها على لسان قائلها يسوع المسيح[8]. ولكنّي تذكّرت أيضاً ما قاله بولس في إحدى رسائله[9] من أنّ الروح تحيّي أما الحرف فيقتل. وأنّنا تحرّرنا مع يسوع من الشريعة ... حتى نعبُد الله بالروح لا بالحرف. وهذا يعني أنّ التقيُّد بالحرف مميت وأنّه يجب أن نفهم بالروح تعاليم الربّ وبالروح نطبّقها. فما بال هذا الجيل من أجيال المدينة المباركة يحمل ما قطعه من جسده ليلقي به في الحفرة؟ هل هو عابد حرف؟
وعدت وأقنعت نفسي بأنّ جبران – عفواً عبد الله – متى أتى المدينة قاصداً الكنيسة سيثور عمّا سيراه. لقد اختلف مع رجال الكنيسة، هذا صحيح، لكنّه لم يختلف مع يسوع.
أقنعتُ نفسي وتيقّنت ممّا فكّرت به عندما رأيت حيرته الموجعة في المشهد الثاني، وما فعله بالكتابات والحفرتين في المشهد الثالث. وأظنّ نفسي ارتاحت مع رقاد عبدالله ورؤياه للموت، أو أنّها اعتبرت أنّ صحوة عبدالله ستكون من دون حيرة وارتباك. وأنّه متى صحا سيخرج من الخشبة مبتسماً بهزء، هزء ممّا رأى وهزء من نفسه. ولكن هذه حال من لن يصبح مجنوناً قطّ. وأنت أردته أن يصبح كذلك. أنا أيضاً. وهو نفسه.
سيستيقظ إذاً أشدّ حيرة:
من صور الموت والأمومة المتناقضة، من واقع أبناء المدينة المذري في ما يخصّ المعرفة واليقين، والمقرف (دعني أستعمل هذه الكلمة) في ما يخصّ الشكوك التي تجعلهم لا يشعرون بوجود الأمومة والتي تؤدّي الى الموت، موتهم. والحيرة الأكبر من ذاته وقدرتها على فعل شيء ما[10]. الأهمّ أنّ السؤال انطرح (سوأل جبران لذاته): "هل يستطيع فعل شيء ما"؟! وعندي أنّ السؤال هو من المسرحيّة لبّها، لا بلّ هو سبب وجودها. فلو رفض عبد الله فقط، الإلتصاق بالأرض، وأن يكون رسمةً من رسوم الأرض بقايا البشر، وأن يهوي من الحياة، وأن يختنق بغصص اليأس والخوف واللوعة، لو فعل كلّ ذلك فقط من دون أن يطرح السؤال على ذاته إن كانت قادرة على فعل شيء أو لا لما أبدعت مسرحاً، ولا أظنّك كنت قد كتبتها.
"هل أستطيع فعل شيء"؟! كم تساءلها كبار قبل! ...
شهداء صيدا يوم حاصرها الإسكندر فأحرقوا أنفسهم والمدينة.  علاّقة أمير صور يوم أراد الإستقلال لمدينته... فسُلِخ حيّاً. سليمان الحكيم في كلّ كبيرة وصغيرة ما توقّف عن ذكرها. هيرودس يوم التقى المجوس... فقتل أطفال بيت لحم. يوسف البتول يوم تمسّك ببرارته... فأتى بإمرأته الى بيته. الأمير فخر الدين يوم أراد بناء وطن ... فنُفي. يوسف مخلوف يوم رام خلاص نفسه والعالم ... فتنسّك. الأم تريزا يوم عشقت يسوع... فالتقته في كلّ معوز. حتى الثالوث الإلهي سألها يوم عظمت خطايا البشر... فتجسّد الإله. 
ولكن ...
عندما سأل عبد الله السؤال بدأ يتلمّس جسده وثيابه وكأنّ كائناً يهمّ بالإنبثاق من صدره[11]. لا أدري لما توقّعت أن تسبق هذه الحركة فترة صمت غير قصيرة، يكون فيها عبدالله جامِداً، جاحظ العينين كمن يفكّر، وجامعاً قبضتيه كمن يهمّ على حركة تصرّف ما. لا بدّ أنّه قبل أن شعر بانبثاق ذاك الكائن من ذاته، غاص في الفكر والتأمّل. ... فكر وتأمّل إذاً فترة صمت. 
-4-

قبل ذلك، أيقظت الأمومة المندسّة في ظلمة المسرح عبدالله من سباته، بلمسة من يدها الحنون لجبهته. فأشرق نور قويّ بدا وكأنّه يدخل ذات النائم. الأمومة، كأنّها أدخلت في ذات عبدالله وعياً علويّاً وإن على طريقة النتح[12]. هل أكرّر بأنّ المسألة هي مسألة نعمة منذ البدء؟ ...
وعيّ بالتأكيد ... سمح له أن يذدري الأرضيّ الثقيل محدّقاً بالشمس الواعدة في تلك السماء الزرقاء، وأن يسمح لقوى الطبيعة أن تتفاعل في ذاته وقت رام النور المطبوع دائرةً في وسط المسرح[13]. قوى الطبيعة ... ذلك العملاق! طبيعة نعم ... ترفض هذا العبد وكلّ عبد.
و ... (الواو الأولى)
" اللي بتملكو بيملكك وهو الّلي بيخوّفك ... ول ما بيحرم نفسو من ل بيملكو بيضلّ عبدو ... والعبد بيحبس الناس باليملكو ويملكُن ... وهن بيملكوه ... لما بيحرّر ذاتو من أهلو والناس والورتو بيضلّ أضعف منُن ...هنّ بيموتو. وهو بيضلّ عبدُن وعبد عتايقُن ..."[14].
و ... (الواو الثانية)
" إجمعوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يُفسِد السوس والصدأ أيّ شيء ... لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ... لا يهمّكم لحياتِكم ما تأكلون وما تشربون، ولا للجسد ما تلبسون[15] ... من أحبّ أباه أو أمّه ... إبنه أو ابنته أكثر ممّا يحبّني،  فلا يستحقّني... من حفظ حياته يخسرها[16] ... تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم[17]".
ال"واوان" تذدريان الأرضيّ الثقيل، خلاصتهما بضع كلمات: تحرّر من كلّ شيء.   لكن شتّان ما بين الأولى والثانية. مع الأولى تخرج من ذاتَك فتصبح مجنوناً ( طلاع من عبدالله وصير مجنون ... عيش لو، صير متل ما هو بدّو وبتلاقي حبيبتَك الحوريّه ... لم بتبلّش تجنّ بتبلّش تشوف الحوريّه ... وتعرفا"[18].
أمّا مع الثانية فإذ تخرج من ذاتِك تشهر قداستَك. فأنت نور مدينة لا تخفى على جبل. تحيا له, لله, لنبع المحبّة، ويأتي وابنه (من على الصليب) ليتناولا معك العشاء. عندما تبدأ قداستَك تراه ... وتعرفه.
صاحبنا اختار الواو الأولى، اختار الجنون ... اختار الحوريّة الأقوى من الموت ... فهي "لا تموت ولا تخلّف موت" ... وسيخرج من ذاته ويسافر معها[19]. بل سيخرج من كلّ أرضيّ ثقيل بإغلاقه باب منزله بقوّة، وسيخلع عنه ما كوّمته عليه الدنيا، ذاته الأولى والثانية والثالثة.  وسيقف عرياناً ليلتحف نور الشمس وسط فرح وتعجّب وتقليد أولاده له. يرفع يديه ورأسه للإنعتاق من الأدنى الجاذب، الى الأعلى الخفيف[20]. عبدالله أصبح مجنوناً. هو أراد ذلك، الحوريّه، العملاق، النعمة من فوق.
-5-

صورة المجتمع كما جسّدتها على خشبة المسرح جعلتني أهزّ الرأس بحسرةِ، موافِقاً بالطبع. هذا هو مجتمعنا بالضبط. منّا من هو مقيّد بشخص متعبُ بذهبه، ومنّا بفكرة، يحملها آخر برأسُ متعجرف[21]. الشخصان حاقدان على بعضهما البعض مع أنّ هدفهما واحد: إستعباد الخليقة. والخليقة لا تفعل إلاّ الدوران ... حولهما. وهكذا يمضي العمر تحدٍّ ثمّ استرخاء بعد تعب، فغطيط في نومِ عميق[22]. ثمّ ... يحدّثونَك عن الرأي العام. فإن تجرّأت على الضحك أو حتى على رسم ابتسامة يتّهمونَك بالجنون. هؤلاء المجانين يقولون أنّك مجنون! ... مجانين ...
وقدِم عبدالله وأولاده، شبه عراة، محاوِلاً إيقاظ المدينة. وهو يستطيع المحاولة على أيّ حال، والمدينة لن ترفضه، عذره أنّه مجنون.  "يا ناس، يا ناس، رجّال مجنون جايي عا المدينة"[23] ... وسيقبل عبد الله العذر مقتنعاً ... "سقط آخر قناع. تعرّيت. صرت حالي[24]". وسيبدأ برقصة اليقظة. رقصة رائعة كما تخيّلتها في قراءتي لما دوّنته من ملامح لها[25]. ولكن ... لم تفلح. فعبدالله أدرك أنّه عاجزُ "عن إيقاظ الراقدين ومواجهة الظلمة"[26]. وإذ تعب من الرقص استراح على حجر.
يقيني أنّه لن يستطيع مطلقاً إيقاظ الناس وإنارة الظلمة. ولن أكتمَك سرّاً بأنّي رحت أُزايد في التحدّي أنّه لن يستطيع. عذري السبعة آلاف سنة الأخيرة. فتاريخها مدوّن، وكثرُ كانوا الراقصين على أنغام غطيط الراقدين الذين ما زالوا راقدين. ولم يكن شبح الموت إلاّ ملازماً لهم، مهدّداً برفرفة من جناحيه. ما همّ إن تألّم عبدالله ومسك رأسه بيديه بقوّة. فكم من عبدالله تألّم على مرّ السبعة آلاف سنة؟! لا لن يستطيع ... أتحدّى ...
وانبثقت الحوريّة من عبدالله[27] ...
ومعه، راحت ترقص وترقص ... وراح يرقص معها ويرقص ... فأيقظا المدينة بعد جهد ليبتلعها النور. أعلم أنّي متسرّعُ بعض الشيء. هل كان لي أن أتحدّى؟! ... لماذا فعلت؟ ... ما عزّى غروري هو هذا "البعد جهد[28]". فالإيقاظ لم يتمّ بسرعة النور.
أغلقت الكتاب قليلاً ورحت أفكّر بهذه الحوريّة. يا لقدرتِها على الإيقاظ! أتدري بماذا تمثّلتها؟...لقد تمثّلتها "عطر الليل" كما في مسرحيّة فخر الدين للرحابنة، بل كما في كلّ مسرحيّات الرحابنة. المدينة استيقظت، الناس جميعاً. اندهشوا وتساءلوا ... ورقصوا ورقصوا ... وفرحوا حتى شكّلوا كأساً لا أخاله غير مقدّس، تحت صورة وجه المصطفى.
لقد انتهت المسرحيّة[29] ... لقد انتهيت من المسرحيّة ... أعادني نور الشمس إلى واقعي حيثّ ترّهات جمّة عليّ معالجتها.


[1]  - مقطع خاتمة – مدخل. ص. 5.
[2] - Blanche neige.
[3]  - مقطع جبران في أخصب وأصخب مراحله. ص 9.
[4]  - مقطع جبران المجنون في أبعاده الجوّانيّة. ص 9.
[5] - المقطع ذاته. ص. 10.
[6]  -  مقطع الجنون الراقص العاري -  الصفحة 11
[7]  - الفصل الأوّل – مسرح ودكور – الصفحة 21.
[8]  - أناجيل متى ومرقس ولوقا.
[9]  - الرسالة الى رومة – الفصل 7 – الآية 6.
-  [10]  مقطع “ أضواء على حالة عبدالله المستيقظ من حلمه". صفحة 37.
[11]  -  المشهد السادس. بداية الفقرة الأولىز صفحة 37.
[12]  - المشهد الخامس: رؤيا الأمومة المحجوبة وراء المدينة. صفحة 36.
[13]  - المشهد السادس من صفحة 37 الى42.
[14]  -  المشهد السابع صفحة 45 – 46.
[15]  - إنجيل متى 6: 19 – 25.
[16]  - إنجيل متى 10: 37 - 39
[17]  - إنجيل يوحنا 8: 32.
[18]  -  المشهد السابع. صفحة 49.
[19]  - المشهد الثامن. صفحة 52 – 53.
[20]  -  نهايات المشهد العاشر. صفحة 59 – 60.
[21]  - الفصل الثاني: إعداد المسرح. صفحة 65.
[22]  -  المشهد الأوّل من الفصل الثاني: حركة المسرح. صفحة 66 – 67.
[23]  - المشهد الثاني من الفصل الثاني. صفحة 69.
[24]  - المصدر نفسه
[25]  - المصدر نفسه. صفحة 70-71.
[26]  - المصدر نفسه
[27]  -  المشهد الثالث من الفصل الثاني. صفحة 73.
[28]  - " بعد بضع دورات يقوم بها المجنون والحوريّة يبدي المقيّدون بعض ليونة". المشهد الخامس من الفصل الثاني. صفحة 75.
[29]  - الصفحات الأخيرة من الكتاب.

السبت، 1 فبراير 2014

طاولة مستديرة مسيحيّة؟


طاولة مستديرة مسيحيّة؟

 

قراءة باردة للأزمة في لبنان، من وجهة نظر مسيحيّة.

 

"لبنان دائماً في خطر" عبارة ما ابتدعها "ميشال شيحا" عبثاً، ولا أراد بها زرع اليأس في قلوب أبناء هذا الوطن المتنوّعين في أديانهم وثقافتهم، وتبصّرهم للأمور الراهنة ورؤيتهم للمستقبل حيث تكثر وجهات النظر. هي حقيقة أراد مطلقها أن ينبّهنا الى أنّ قدرنا يكمن في مواجهة الأخطار المحدقة دوماً بنا. ولعلّه قصد أنّ من واجبنا البقاء متيقّظين ساهرين لدرء الأخطار من أيّة جهة أتت. والحال، قد لا يكون غريباً ما نشهده اليوم من أزمة كبرى تطال كيان هذا البلد الذي أجمعنا على حبّه. فما نعيشه اليوم سبق أن عاشه آباءنا وأجدادنا من قبل. وإنّ صفحات التاريخ تزخر بالأزمات والحروب والتعدّيات المختلفة و ... الإشاعات. أمّا الغريب في الأمر هو أنّنا، ومنذ مئات السنين، ما زلنا – نحن وآباؤنا والأجداد – غرقى في مستنقع الأزمات، وما استطعنا حماية لبناننا الذي أراده الله رسالة الى كلّ العالم. وكلّ ما فعلناه هو أنّنا صدّقنا – ببراءة طفوليّة - أنّنا بلد الإشعاع والنور.

 

-1-

إنّ أقسى ما يمكن أن يقوم به عقل أحدنا في ظلّ هذه الظروف المأساويّة التي نعيش هو قراءة باردة للوقائع المتبدّلة دوماً وفي كلّ يوم يمرّ. "أقسى" لأنّنا لسنا بعيدين عن الأحداث بل في صلبها نتخبّط، وقد نكون وقود نيرانها المستعرة. ثمّ كيف يمكن ترويض أحاسيسنا ومشاعرنا المختلفة وغرائزنا وفي البلد ألف من يثير فينا جمرات الإصطفاف المتعدّد: إصطفاف طائفي، مذهبي، عقائدي ... ؟ قد تبدو كلمة "أقسى" تشاؤميّة إذا ما عدنا بالذاكرة الى الماضي القريب، ماضي الصراعات الدامية والنزاعات العبثيّة، أو إحباطيّة إذا ما رغبنا ( وهذا أقلّ الإيمان) في استشراف المستقبل. ولكنّها الكلمة الألطف لوصف واقع الحال. هي كذلك لأنّه إذا أضفنا إلى مأساويّة الظروف التي نعيش عصبيّتنا وتعصّبنا وميلنا الى الإنجرار وراء الشرور ضدّ بعضنا البعض، ثمّ أضفنا غرائزنا الملتهبة حقداً وقدرتنا الفائقة على الشتم والسباب وكراهيّتنا الدفينة وسهولة العداوة والشقاق، وأضفنا كذلك رغبتنا، غيرةَ وحسداَ، في "تكسير بعض الرؤوس"، والدسّ الرخيص لإثارة الحساسيّات، أيّ الشائعات التي بتنا نضاهي ببدعها أكبر شركات الإنتاج في العالم للأفلام العلميّة-الخرافية (Science-fiction).،إذا أضفنا كلّ ذلك وأكثر ممّا فاتنا ذكره لاتّضح لنا أنّ كلمة أقسى هي ألطف الألطف. ومع هذا تبدو لنا المحاولة –القراءة الباردة- واجبة وإن كانت مغامرة. هي في كلّ الأحوال مغامرة المؤمن بهذا الوطن، وطن رسالة يقدّمها لكلّ العالم، لا وطن يستقبل رسائل كلّ العالم.

 

-2-

بدايةً، لا بدّ من تحديد نقطة إنطلاق زمنيّة وذلك لسببين أساسيّين: أوّلاً لوضع بداية ونهاية لقراءتنا ممّا يقصّر طول الكلام الذي وإن صيغ بعبارات ذهبيّة يبقى من فضّة. ثانياً كي لا "نشرد" في أفكارنا التي لا بدّ ستتّصل بوقائع سنوات الوصاية، أو سنوات الحرب، أو ما قبل ذلك بما يسمّى سنوات الجمهوريّة الأولى، وحتى لسنوات الإنتداب والمتصرّفيّة ونظام القائمّقاميّتين، والى عهد الإمارة وزمن الحكم العثماني، بل الى آدم نفسه، الإنسان الأوّل، فنجد أنفسنا أمامه نحاكمه على ما فعلت بنا يديه.

أمّا البداية التي حدّدناها هي نفسها ما قد يجمع عليها كلّ الجالدين ذواتهم بقراءة باردة للأحداث الراهنة مثلنا. عنيت بها فترة التمديد لرئيس الجمهوريّة السابق – إميل لحّود - وما تلاه. فمنذ هذا الوقت ولأربعة أشهر تلته، أيّ في الزمن المحصور في بدايات العام 2005، حصل انفجار هائل في لبنان تمثّل بأحداث ثلاثة كبرى: تمديد ولاية الرئيس قسراً وإغتيال عنيف لرئيس الوزراء الأسبق وإنسحاب سوري قسري من لبنان وبشكل دراماتيكي. هذه الأمور الثلاث تلاحقت في زمن قصير نسبيّاً حتى ليبدو الإرتباط فيما بينها قابلاً لأن يكون حقيقيّاً أو منطقيّاً على الأقلّ. ولكن ... منذ ذلك الوقت وحتى اليوم يكون قدّ مرّ من الزمن أكثر من ستّ سنوات. فهل ما زالت منطقيّة ذاك الإرتباط سارية حتى الآن؟

الجواب على السؤال ليس بديهيّاً، ويقتضي للإجابة عليه الإشارة إلى أمور أخرى.

فمنذ العام 2000، عام تحرير الجنوب وربّما قبل، لم تعد سوريا وحدها في لبنان، وإن كانت موجودة بقوّة سياسياً وعسكريّاً ومخابرتيّاً بحيث أنّها أوجدت أو أقامت دولة لبنانيّة موالية لها مئة في المئة. فبعد هذا العام دخلت مع سوريا وبقوّة، إيران التي، على ذمّة البعض، أنشأت "حزب الله" في النصف الأوّل من أعوام الثمانينات. أضف الى كلّ ذلك، أنّه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحّدة الأميركيّة وخاصّة في العام 2004، دخل الغرب بقوّة الى ربوعنا حتى بات لبنان حقيقة، وكما في الأزمنة الغابرة، ساحة صراع مفتوحة على مصراعيها. وعليه،  قد يتّضح أنّ الأزمة اللبنانيّة الراهنة الناتجة عن انقسامات حادّة في النظرة الى الهويّة اللبنانيّة والمتمثّلة بمحاولة إلحاقه في ركب الآخرين وهم كثر، لا تكمن فقط بسبب الموقف من المحكمة الدوليّة. وفي اعتقادنا، إنّ من لا يرى سوى ذلك إنّما هو مبسّط للأمور ومسطّح لها بشكل وهمي. فالكلّ أجمع على تبنّي إنشاء المحكمة الدوليّة (هم لا يستطيعون غير ذلك بداعي أخلاقي على الأقلّ). والكلّ أجمع على فكرة توسيع الحكومة من أجل المشاركة (هم لا يستطيعون غير ذلك بداعي التوافق الوطني على الأقلّ). وإنّ المعادلة التي طرحت في زمن ليس ببعيد، والتي تقضي بمقايضة المحكمة الدوليّة بالثلث المعطّل لم تعد لتقنع أحداً. أسباب الأزمة في وادِ آخر. فمع وجود مخابرات كلّ الدول في لبنان وبالتالي كلّ الأفكار ووجهات النظر والتدخّلات والعقائد نرى أنّ السبب يكمن في صراع على خيارات وطنيّة كبرى في ظلّ هذا الوجود الدولي المتصارع. وأنّ المسألة تكمن في الإجابة على سؤال أساسي وإنّ كان قد أصبح شعار تفكهة مؤخّراً: لبنان الى أين؟

 

-3-

يبدو أنّه من المبكر الإجابة على هذا السؤال، ليس فقط لأنّ الصراع ما زال في أوجّه وحسب، بل لأنّ الكلّ متردّد في حسم الخيار لمصلحته. هل لأنّه ما زال في ضمير كلّ اللاعبين إقتناع ولو بقدر حبّة خردل، أنّ أخذ لبنان الى محور من المحاور أو الأصح إلى محور من المحورين يفقده معنى الرسالة، وبالتالي مبرر وجوده؟ ربّما ... نتمنّى ذلك على أيّ حال. الخيار إذاً ليس محسوماً. أمّا الدليل على ذلك فيكمن فيما جرى في الحرب الإسرائيليّة العدوانيّة الأخيرة، وما تلاه.

إنّ صراع المحاور في هذاه الحرب واضح ولا داعي للشرح أو للإثبات. ولكنّ الخطِر في الأمر يكمن في المفاعيل السياسيّة التي برزت بعد الحرب. فأثناء العدوان ولأكثر من شهر، ظهرت الحكومة، كلّ الحكومة بمن فيها المستقيلين في ذلك اليوم أو بعده بقليل، في حالة من الإنسجام والتضامن والتماسك قلّ نظيرها. وأجمع الكلّ أنّ المشاركة الوطنيّة حقيقيّة وكاملة. والبعض من المعارضة وصفها بحكومة المقاومة. فلماذا بدأ الإنقضاض عليها بعد الحرب؟ وما معنى كلّ كلام التخوين الذي صدر؟ وأيّهما نصدّق، التخوين والعمالة أو التضامن والمشاركة؟ لقد انطلقت المعارضة، وتحديداً الفريق الشيعي، من هذه الحقبة للمطالبة بالثلث المعطّل. لم تعد المعارضة تثق بالحكومة. والحكومة بدورها فقدت كلّ ثقة بالمعارضة بعد كلّ الذي فعلته. وهدّد الفريقان بكشف أوراقهما، أوراق الخيانة وأوراق محاضر المفاوضات التي كانت تجري. وعدنا الى بدء. فالأزمة ليست هذه أو تلك. هي في الجواب على السؤال الوحيد: لبنان الى أين؟ هي في الصراع الدائر على حسم الخيار الوطني الكبير. في ميثاق الجمهوريّة الأولى وردت عبارة "لاشرق ولا غرب". يقيننا أنّها ما زالت تصلح لبقاء هذا الوطن وحمايته، مع كلّ التعديلات التي لحظها "السينودس من أجل لبنان" من حيث العلاقة مع قضايا هذه المنطقة من العالم.

 

-4-

في خضمّ المخاض الدائر حالياً لحسم هذا الصراع، جرت كلّ الإغتيالات ومحاولات الإغتيال التي تلت استشهاد رئيس الوزراء السابق. ولكن ... لا بدّ أن نسأل لماذا طالت الإغتيالات بنسبة كبيرة المسيحيّين؟ ( أكثر شهداء تلك الحقبة، مع الذين نجوا من الإغتيال، مسيحيّون). هذا لا يعني أنّه لو طال الإغتيال غير المسيحيّين لكنّا في حالة أفضل. ولكنّ السؤال مطروح. وقد تكثر الأجوبة أو محاولات الأجوبة. في اعتقادنا أنّ المسيحيّ وحده إذا ما اغتيل لا يثير غضب شارع عربيِّ واحد. بعكس ما هو الحال لواغتيل سنّي أو شيعي. الحديث عن هذا الأمر قد يكون أكثر إيلاماً من وضع الأصبع على الجرح. ولكنّه واقع للأسف. في مقابل ذلك ما هو وضع المسيحيّين اليوم؟ انشقاق بدل وحدة، واختلاف بدل تضامن. هلا وعينا هذا الأمر؟ هلا اقتنع المسيحيّون بضرورة التماسك والتضامن ضرورة وجوديّة لا بديل عنها، بل ضرورة وطنيّة تبقي لبنان وبالتالي تفيد الشريك الآخر أيضاً؟

في النصف الثاني للقرن التاسع عشر برز عند المسيحيّين زعيم بارز لقبه "شيخ شباب إهدن" وهو يوسف بيك كرم الشهير. وكان أمثاله ينتخبون من عموم الأهالي وذلك بعد ثورة الفلاّحين التي قادها في كسروان في ذلك الزمن شيخ شباب ريفون طانيوس شاهين. وسرعان ما أصبح يوسف بيك كرم بدعم من فرنسا، زعيم الموارنة الأوّل بل زعيم المسيحيّين الأوحد. وبالطبع لم يرق الأمر لا للدولة العثمانية ولا لبريطانيا العظمى اللتين كان يهمّهما نجاح داود باشا أوّل متصرّف على لبنان. فشجّعوا لمناوأته جاراً، بيك من بكوات بشرّي (جارة إهدن) المنتمين الى عائلة حنّا الضاهر. (أظنّه راجي بيك حنّا الضاهر، إن لم تخنّي الذاكرة). واستطاع راجي بيك أن يناوئ يوسف بيك بمساعدة "الخارج". هل من الضروري أن نذكر أنّ النتيجة كانت وبالاً على المسيحيّين في كلّ مكان؟ للّذين لا يعرفون سبب الحساسيّة المفرطة بين البلدتين والباقية للأسف حتى اليوم نحيلهم الى ذاك الزمن تحديداً. إنّنا لنتساءل، لماذا لا يعيد التاريخ نفسه في كل مكان على هذه الأرض كما يعيد نفسه عندنا؟ كنّا بين "بيكين" في كلّ حقباتنا التاريخيّة المتلاحقة ولا داعي لذكر الأسماء. وما زلنا بين "بيكين" حتى يومنا هذا. تاريخنا تاريخ انشقاق لم يتغيّر. أمّا السبب فلا يحيد عن تسابقنا الى الزعامة. نحن لاهثون من دون كلل الى أمجاد السلطة وبريقها. لقد فُطمنا على ذلك، وإنّنا لنندهش إذا ما وجدنا مسيحيّاً واحداً (وليس بالضرورة زعيماً) لا يركض لاهثاً باتّجاه الصفوف الأماميّة حتى ولو أدّى ذلك به الى تعبِ مضنِ على مختلف الأصعدة.

هذا هو واقعنا اليوم. واقع قد يريح الآخرين ولكنّه لا يريحنا. الأكثر إيلاماً هو سهولة انتشار الإشاعات المغرضة والمفرّقة بين من يفترض بهم أن يكونوا موحّدين. وعلى أيّ حال متى كان المتفرّقون بحاجة لإشاعات تفرّق ما بينهم؟ ولكن لوجود هذا الكمّ من الإشاعات علامة أو إشارة لا بدّ من تسليط الضوء عليها نصيغها بصيغة سؤال: كيف يمكن لإشاعة أن تنشر بهذه السرعة في مجتمع واعِ لمصيره ومدرك أنّه مجتمع رسالة، مدّعِ للثقافة ومؤمن "مسيحيّاً" إلى حدّ كبير؟ يقيننا أنّ مجتمعنا سطحيٌّ في كلّ ما يدّعيه. وعيُه مسطّح كما إدراكه، وثقافته مبسّطة كما إيمانه. وإنّنا لنعتذر عن هذا القول إذا ما أصاب كلامنا البعض القليل الواعي منّا.

قد تبدو هذه الصفحات جافّة. وهي لكذلك. عذرنا أنّنا لا نصف فصل الربيع على أعالي سلسلة جبال المكمل. ولكنّنا نتساءل كيف تُبتدع الإشاعة؟ ومتى؟ ومن يؤلّفها؟ وكيف لها أن تنتشر بسرعة تكاد تجتاز سرعة الضوء؟ أإلى هذا الحدّ نحن متخلّفون؟ ... هل نعتذر مرّة أخرى؟

لنذكّر بإشاعتين سرتا في زمن الإغتيالات البائس:

إثر استشهاد الصحفي سمير قصير قيل أنّ السبب يعود إلى علاقة غراميّة مع إحداهُنّ، وأن ذويها انتقموا منه بقتله. نسى أصحاب هذه الإشاعة ومبدعيها نضال سمير قصير من خلال مقالاته في سبيل الحرّية والديمقراطيّة في لبنان والعالم العربي. أرادوا تشويه سمعته ليُقتل مرّتين. من قال إذا أردت أن تقتل شخصاً فأطلق عليه إشاعة؟!!

وإثر مقتل جبران تويني سرت إشاعة أنّه كان يعاني من أزمة ماليّة حادّة وأنّه لم يكن ليستطيع إيفاء ديونه وديون الصحيفة التي يمتلكها من والده. فتمّت تصفيته لهذا السبب. بقيت الصحيفة من بعده ولم يعد أحد يذكره أو يذكر الإشاعة. أهل إلى هذا الحدّ هانت علينا أنفسنا حتى نتجرّأ على إهانة الشهادة؟

يبدو أنّنا بحاجة لتثقيف عام أكثر من غيرنا. بحاجة لأن نعرف أن نتواضع. بحاجة لأنّ نترحّم على من قال قديماً "لا تصدّق كلّ ما تسمع، فما أكثر الإشاعات الكاذبة"، أو من قال "من الحكمة أيضاً أن لا تصدّق كلّ ما يقوله الناس ولا تسرع الى إفشاء ما سمِعت أو صدّقت"). هذه المرّة لن نعتذر من أحد.

 

-5-

الحديث يقودنا الى النظر في احتياجاتنا نحن المسيحيّين حتى لا نبقى في ظلامة الجهل، وأن نكون فقط شعب الربّ وغنم مرعاه لا شعب وغنم مرعى أيّ إنسانِ آخر. بالطبع أنّنا، وعلى المدى القريب، بحاجة لمصالحات عديدة فيما بيننا ولقاءات وحوارات صادقة. وتبيان الحقائق بعضنا لبعض والهواجس والمخاوف بصراحة حتى ولو ظهرت وقحة. وقد تكون الكنيسة هي المهيّأة للعب هذا الدور. فهي الوحيدة القادرة على المبادرة ولمّ الشمل.

ولكنّنا، على المدى البعيد، بحاجة لسدّ ثغرة ثقافيّة تتعلّق بنا كشعب ومؤسّسات. ونحن قادرون على ذلك لأنّ معظمنا متعلّم ومنفتح على الحضارات والعلوم العالميّة المتعدّدة. وقد لا "نقطف" ثمرة سدّ هذه الثغرة إلاّ بعد حين، ولكنّنا بحاجة لأن نبدأ، لأن ندخل حقيقةً القرن الواحد والعشرين. وهنا أيضاً للكنيسة الدور الأوّل. ما سنقترحه يصبّ في رؤيتنا أنّ الحاجة الأساسيّة تكمن في أن نكون متماسكين متضامنين، أصحاب رؤية مستقبليّة لنا في هذا المجتمع وهذا المكان من المنطقة. ونختصر ما نراه من حاجات بأمور ثلاثة.

أوّلاً، خلق ثقافة المؤسّسة والعمل الجماعي. (Institutionnalisation)

نحن نملك مؤسّسات كبرى. والكنيسة تملك المئات منها. هذه المؤسّسات هي في جزء من معانيها ضامنة لوجودنا. ( مدارس، جامعات، مستشفيات ... ). ولكنّ الفرد هو أساسها. هذه المؤسّسات بحاجة الى مأسسة أيّ الى خلق نظام يحميها وينمّيها ويبرز فائدتها للجماعة. فلا تهتزّ عند خروج فرد منها أو دخول آخر إليها. المأسسة تساعدها لتقوم بدورها الرؤيويّ الهادف الى تنمية الجماعة شكلاً ومضموناً. بالإضافة الى ذلك يجب خلق ثقافة العمل الجماعي الناظر دوماً الى الرؤية إن كان في المؤسّسات أو في الجماعات. أيّ خلق ثقافة العمل الفريقي بمعنى (Team) وليس بمعنى (Group). فالمعنى الأوّل (Team) يفيد وحدانيّة الأهداف وليس فقط توزيع الأدوار كما في (Group). فإذا زلّت قدم أحدنا بادر الجميع لمساندته. وهكذا نستطيع تحقيق الكثير ونحن سائرون الى الهدف. هذه الثقافة هي ثقافة مسيحيّة بامتياز إذ تقوم على نكران الذات وبعد النظر والإبتعاد عن الغرور، فنعود جميعاً الى تواضع المسيح. ولنتذكّر دائماً أنّ الله عندنا ليس فرداً، إنّه ثالوث. والمسيح ما عمل وحده بل مع إثني عشر. والخاطئ من بيننا تنتشله الكنيسة في كرسي الإعتراف وسرّ التوبة وتعيده الى الجماعة. و ... أعمال المجمع الماروني الأخير كانت أعمال فريق.

ثانياً، خلق ثقافة حسن المشورة.

ونعني بهذا ثقافتين متلازمتين: ثقافة التواصل وثقافة حل النزاعات. التواصل يزيل كلمة مقاطعة من قواميسنا. ولا يثير المشاعر في النفوس. ويزيل من عقولنا مبدأ اللإقناع بالقوّة. لسنا أغراباً بعضنا عن بعض وكلّنا نجهد في مركب واحد، في بحر ندر ما كان هادئاً. ثمّ إنّ وجودنا دائماً معرّض للخطر. إنّها الحقيقة التي منها يجب أن ننطلق. هذه الثقافة يجب أن تقوم حتى في داخل البيوت ومع أفراد العائلة بين الأهل والأولاد أوّلاً. عندها قد لا نسمع في وسائل الإعلام تراشقاً مخجلاً في أكثر الأحيان بين سياسيّينا. ثمّ لنتعلّم من الغرب المتمدّن ثقافة حلّ النزاعات. ثقافة استيعاب غضب الآخر وكبر النفس وكبر العقل. إنّ ثقافة حلّ النزاعات تشبه الى حدّ كبير تقاسم قالب الحلوى بشكل يظنّ كلّ واحد أنّه حاز على القطعة الأكبر. مؤسف أن تكون بعض نزاعاتنا دمويّة ولكنّه مخجل أنّنا لم نسعى بعد لحلّها.

ثالثاً، خلق ثقافة القائد الرؤيوي.

لسنا بحاجة الى مديرين. فالمديرون كثيرون. نحن بحاجة الى قادة. الفرق هو أنّ القائد يملك رؤية ويجهد ليصل بشعبه إليها كهدف. فالرؤية تؤسّس لقيم مشتركة بين أعضاء الفريق. وهذا عمل القائد. ولا تخشى من التغييرات لو وجب اعتمادها. وهذا عمل القائد أيضاً. القائد متواضع صادق أمين. هو مخطّط ومنظّم، مشارك مع الآخر، يلهث وراء المشورة ويقبل بمبدأ المساءلة. القائد لا يعتقد أنّ " الله خلقه وكسر القالب".

 

إن خلق هذه الثقافات بات ضروريّاً. ومثلها كمثل من يزرع شجرة الزيتون، عليه الإنتظار بصبر لسنوات ليأكل منها. لكن ... يجب أن نبدأ. ونقطة البداية لا نراها إلاّ من خلال إعلام مسيحي واعِ ومدركِ ورؤيوي، كذلك من خلال مؤسّساتنا التربويّة. وندرك أنّ ما ذكرناه بحاجة للكثير من التوضيح وجمع الآراء والأفكار (brainstorming)، وبالتالي للكثير من الإجتماعات من المهتمّين على طريقة الطاولة المستديرة.

في 1\9\2007