الثلاثاء، 28 يناير 2014

الجلجلة.


  


 نيسان 2004

ثلاث صلبان تحمل ثلاث جثث خافضة الرأس، مغمّضة العينين على  وجوه مصفرّة، جامدة التعابير. السواعد المفتوحة الى الأعلى، تستقبل  الموت المتربّص بتلك القامات منذ زمن، تقبض على المسامير خوفاً من أن يبدّل الردى غايته. مرفوعة هي الى ما فوق الرأس، ترسم، ساخرةً من أركون هذا العالم، علامة انتصار.  أمّا الجسد فمنهدل الى ركبتين مطويّتين، لكانتا عاجزتان عن حمله، لولا مسامير الرجلين الغليظة، وقد تحوّلت سنداً يبقي الأجساد معلّقة على خشبات الذلّ والعار، وقد طواها الموت بعد طول صراع.

            إنّهم يرقدون بسلام، ينهون عذابات كبيرة وآلام مبرحة، وصفها تعجيز، والكلام عنها لا يتمّ من دون قبضة جبين.

           ظلمة المكان، كان يمكن أن تكون أشدّ هولاً لولا صوت الريح، تتلاعب بما انسدل من شعر رؤوس المحكومين في الأعلى، وبعباءات النسوة الساجدات الى الأرض، ينظرن الى فوق، وقد غطّت الدموع المحرقة في عيونهم الرؤية، فتجمّعت الصلبان الثلاث في واحد وهّاج، كأنّه السيف غرز في الأرض انتصاراً. إنقطعن عن العويل، وصمتن عن النحيب، فأحدهم  فوق تنبّأ لنفسه بهذا المصير. ثمّ إنّ صدورهن أفرغن كلّ ما احتوته من آهات الحزن وعبرات اليأس.  كنّ ينتظرن مجيء السلالم. واحد من المعلّقين فوق، يحمل على رأسه إكليلاً من الشوك، وفوق الشوك، لوحة تعرّف به: إنّه ملك اليهود.  هو السيّد الذي في الوسط، ومن أجله ستأتي السلالم إذ يجب إنزاله.


            لقد تمّ كلّ شيء.

            أمام هذا المشهد الرهيب تثيره فيك كلمة الجلجلة، لا بدّ ستسمع صوت طنين جرسٍ متقطّع، آت من بعيد، من لامكان. إنه جرس حزن. وستعود إليك هذه الصورة كلّما سمعت الصوت ذاته، ترجع صداه أخاديد الوديان، ليعلن عن موت تحقّق. إنّه علامة الرحيل الى ما بعد الموت، لكنّه طنين جذّاب، يدعوك الى التأمّل في ما أنت عليه الآن، وفي ما ستصيره غداً.  الوصول الى هذا الموت المحقّق هو نهاية طريق وعر، ضيّق وشاق ومتعب، مشى عليه ذلك المعلّق تحت يافطة: هذا ملك اليهود. وها كلّنا سائرون عليه، إذ لا طريق سواه مآله المجد.  

           الطريق صعب. أمّا باب الدخول فضيّق، ضيّق وكأنّنا لن نخلص إلاّ فرداً فرداً. يمكن لنا الإفتراض أن السير على هذا الطريق ليس نزولاً، لأنّ في النزول شيء من سهولةٍ، أقلّه في الإنزلاق. وهو ليس سهلاً على الإطلاق. إنّه طريق صاعد الى حيث النور، وكما أنّ النور يغطّي كلّ شيء ويدخل الى كلّ شيء، فهو أعلى من كلّ شيء. لهذا لا يمكن للسائر على هذا الطريق الوحيد إلاّ أن ينظر الى الأعلى في مسيرته الشاقّة. إنّه يصبو الى فوق، فينسى الضيق والوعورة، ويألف اللآلام والعذابات والمحن المختلفة مبتسماً للنور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق