الأربعاء، 29 يناير 2014

يسوع جبران

 
يسوع جبران


ألقيت هذه المحاضرة في رعيّة "القيامة" – الرابية.


12\1 2010.
 
 
 
يسوع كما رسمه جبران
 
 
 
  

          قليل هم المهتمّون الذين بحثوا في تأثير يسوع المسيح في حياة جبران وعلاقاته الإجتماعيّة، وبالتالي في كتاباته المتعدّدة ورسومه الوافرة. وعليه فإنّ ندرة المراجع التي يمكن الإستناد عليها في هذه العجالة تحتّم علينا العودة الى سيرة حياته الغنيّة بالأحداث ، والى رسائله الغزيرة الى الكثيرين، والى كتاباته المنشورة منها وغير المنشورة بغية الإنتقاء منها ما يفيد الموضوع ويسلّط الضوء على فكر جبران بشأن يسوع من ناحية، وعلى المشاكل التي اعترضته في عمق إيمانه والحلول التي حاول اجتراحها لها. وهكذا، رأينا أن لا نغوص في دراسة نفسيّة على غرار ما فعله الدكتور غازي براكس[1] مثلاً، في دراسته النفسيّة المستفيضة عن جبران حتى لا نقع في الدهاليز الفرويديّة وقد تخطّاها الزمن مع علماء اجتماع آخرين أمثال "يونغ" وغيره. والحال، كان لا بدّ من انطلاقة للبحث، التي أردناها ثابتة وإنّ بالحدّ الأدنى. فكانت من معطيين واضحين عند جبران نفسه:

          - قيمة يسوع وأهميّته الكبيرة في نفس جبران الى درجة التماهي به.

          - والخلاف الكبير مع رجال الإكليروس، الذي بدا وكأنّه وصل الى نقطة اللارجوع.
 

          فمن الثابت أن جبران أحبّ يسوع الى درجة العشق فأراد التماهي به إنّ في علاقاته مع الآخرين أو في كتاباته ورسومه. هذا الحبّ الكبير كان المبرّر الوحيد لردّة فعله القويّة على الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري, عندما نشر هذا الأخير مقالاً يصف فيه ضعف ووهن يسوع مقارنةً بأنبياء آخرين امتشقوا السيف ليفرضوا الوحي على الشعوب. فكتب ردّاً عنيفاً بيّن فيه مدى قوّة يسوع اللامحدودة. تلك القوّة التي وحده من يمتلكها يمكن أن يسلّم نفسه للموت اختياراَ[2].

          ومن الثابت أيضاً، أنّ الخلاف مع رجال الإكليروس كان قد بلغ حدّاً كبيراَ، رأت فيه الكنيسة تمرّداً لا مبرّر له. أمّا القشّة التي قصمت ظهر البعير فكانت ذلك المقال الشهير الذي كتبه جبران بعنوان الكاهن والشيطان- وسيكون لنا عودة إليه فيما بعد- وكانت نتيجته أنّ حذّر بعض الأساقفة على المؤمنين في أبرشيّتهم قراءة مؤلّفاته.

 
          1 -   التماهي بيسوع

          في بيئة محافظة ومتديّنة فتح جبران عينيه على الربّ المخلّص. سمع أهله والناس يتحدّثون عنه، عن ألمه وموته وقيامته، فعشقه قويّاً في صلبه على الخشبة وتمثّله شخصاً من أوجه أهل مجتمعه، وهام به هياماً وراثيّاً نقله إليه جوّه الديني، من خلال صور تملأ البيوت، وكثرة معابد ومناسك، منتشرة في بلدته والقرى المجاورة وخاصّة في وادي قنّوبين[3].
 

          يوم الجمعة العظيمة كان يوماً مميّزاً عنده. في هذا اليوم سيموت المسيح، وسيجمع جبران باقات الأزهار ليضعها على نعشه في الكنيسة، كأنّه يعتبره ملجأ له يلوذ إليه في ساعات الألم والوحدة. فهو كما يسوع متألّم من فساد هذه الحياة الأرضيّة، فقير مثله، يعيش في جوّ محفوف بالسموم ولدى عائلة غارقة بالخلافات المتواصلة.
أمّا ليلة الميلاد فكانت مصدر فرح داخلي لا يوصف. لقد كتب ذات مرّة لبربارة يونغ يصف لها تلك الليلة قائلاً: " كنت أمضي ليلة الميلاد وسائر أهل القرية الى الكنيسة، كنّا نسير في الظلام فوق الثلج الصامت العميق على هدى المصابيح، وعند منتصف الليل، كانت الأجراس تقرع فتصاحبها أناشيد الشيوخ والأطفال، وكان سقف الكنيسة الصغيرة يبدو لي أنّه ينفتح على السماء" [4].
 

          هذا الجوّ الديني العفوي، المفعم بأفكار بيئته ومشاعر أهل مجتمعه، جعل من جبران الطفل إنساناً مهووساً بشخص المسيح، وأصبحت محبّة يسوع هاجساً لديه. فصار المسيح يتراءى له في الأحلام وفي اليقظة ويشغل تفكبره وخياله. كتب لماري هاسكل يقول: " المسيح لا يتراءى لي بالحلم إلاّ في وطني لبنان".[5] وكان صادقاً في ذلك، فالمسيح الذي يعرفه هو مسيح بيئته ومجتمعه. وعندما سألته ماري هاسكل عنه قال: " إنّي مستعدّ لأن أعطي أيّ شيء لو استطعت أن أخبرك عن عينيه، فأنا لم أشهد لهما مثيلاً، إنّهما ليستا حزينتين ولا فرحتين، لكنّهما مليئتان بالحياة والحيويّة، والذكاء والبساطة، إنّهما كبيرتان وعلى غاية في العمق، ولا ضعف فيهما كسائر العيوب الكبيرة، إنّهما تنطقان بأبلغ ما تنطق به الرجولة" [6].
 

          هذا الهوس بالمسيح، وهذا الهاجس الذي تملّكه في كلّ كيانه الى أعماق جوارحه، كان لا بدّ أن يقوده الى حدّ التماهي به. ففي مقال خاص بالطفل يسوع كتب يقول: " كانت حياتي حزناً، فصارت فرحاً، وستصير غبطةً، لأنّ ذراعيّ الطفل يسوع قد ضمّتا قلبي وعانقتا نفسي"[7].
 

          ومن يقرأ سيرة حياته بإمعان، مدقِّقاً ببعض التفاصيل، لا بدّ سيكتشف محاولات جبران المتكرّرة والمستمرة في تقليد المسيح في كلّ شيء تقريباً، حتى في تعابيره التي وضعها بدقّة متناهية في مؤلّفه الأشهر "النبي"، وفي علاقاته مع الآخرين سيّما أعضاء الرابطة القلميّة التي أسّسها في المهجر. وقد آثرنا في هذه العجالة أن نقف على بعض الأحداث التي تفيد الموضوع وتظهر ما رمينا إليه.
 
          ولنبدأ بيوم ولادته.

          إتّفق الباحثون على أنّ سنة 1883 هي سنة ولادة جبران, لكنّهم اختلفوا على اليوم والشهر. وتحلّقوا فريقين: الأوّل يزعم أنّه ولد في السادس من كانون الأوّل، والاخر في السادس من كانون الثاني. وقدّ أكّد ميخائيل نعيمه أنّ جبران نفسه أسرّ له أنّه ولد في كانون الأوّل ولكنّه آثر أن يقول أمام الغير أنّه ولد في كانون الثاني[8].  أمّا السبب لذلك، كون جبران يعتقد أنّ المسيح ولد حقيقة في السادس من كانون الثاني، اليوم الذي تعيّد له الكنيسة مستذكرةً معموديّة يسوع. هذا التاريخ تعتمده بعض الكنائس يوماً لمولد المسيح، أشهرها كنيسة الأرمن الأرثوذكسيّة. وسواء ولد جبران في هذا التاريخ أو ذاك، فمن الواضح أن مسألة التماهي بيسوع كانت تتملّكه بعمق.
 

          مسألة أخرى: من المعروف أنّ جبران كان يحبّ الإنعزال والوحدة بقصد التأمّل، منذ طفولته. ويبدو أنّ هذا الأمر كان يزعج والدته. وعند إلحاحها المتكرّر ليخرج من المنزل ويلعب مع الأتراب، خرج من عزلته الى الرفاق الذين كانوا يلعبون ما يعرف اليوم بإسم "اللقّيطة". وفيها أنّ أحدهم عليه أن يلتقط الرفاق، ومن يلتقطه يخرج من اللعبة. فإذا استطاع التقاط الجميع يربح اللعبة. وعليه, فإنّ الرفاق سيهربون من طريقه لأيّ مكان حتى لا يدعوه يحقّق هدفه. وكانت البيوت قريبة من بعضها، يفصل بينها زواريب ضيّقة بحيث لا يبتعد سقف البيت عن الآخر سوى متر أو أقلّ. في أثناء اللعب، ركض الرفاق من أمام ملتقطهم، وبعضهم صعد الى الأسطح الترابيّة عن طريق سلالم هي دائماً مرفوعة أمام كلّ بيت. كان جبران من هذا البعض، فلحقه الملتقط، فحاول القفز من سقف الى سقف كما الآخرين. لكنّ قدمه خانته فسقط في الزاروب بين البيتين، وأغمي عليه. تبيّن فيما بعد أنّه "كسر كتفه"، وسيخضع لعلاج كان سائداً في ذلك الوقت، وهو عبارة عن خشبتين طويلتين توضعان بموازة الكتف من الخلف ومن الأمام، ناحية الصدر، ثمّ تربطان جيّداً لمدة ثلاثة أشهر لتمنع بذلك أيّ حركة وتسمح للعظم أن يلتحم. والحال ستكون يديّ جبران مرفوعتان فوق الخشبتين. سيستغلّ جبران هذه الحادثة فيما بعد ليكتب لماري هاسكل في معرض حديثه عن يسوع، "أنّه صلب كما المسيح لكن لثلاثة أشهر"[9]. 
 

          مسألة بعد: سيعود جبران الى اعتزال الناس ونشدان الوحدة والتأمّل على غرار ما كان يفعل يسوع الناصري بعد هذه الحادثة. وسيحاول التشبّه بالناصري شكلاً. فإذا عدنا الى وصفه المسيح المترائي له لماري هاسكل، أدركنا أنّ هذا الوصف لا يبتعد كثيراً عن ملامح جبران نفسه. ومن المعروف أنّه خلال دراسته في معهد الحكمة، كان يسدل شعره على عنقه تشبّهاً بصورة المسيح في الكنيسة. وصدف أنّ أستاذ اللغة العربيّة في المعهد كان الأب يوسف الحدّاد، الذي ما إن رأى شعر جبران المنسدل على عنقه حتى شدّه به طالباً منه قصّه كما شعر الرفاق. فنظر إليه جبران قائلاً، " سأفعل إنّ سحبت صور المسيح من الكنائس."[10]. وسنعود الى الحادثة لاحقاً.
 

          هذا ما كان عليه جبران في طفولته وصباه. براءة واضحة جليّة في ما خصّ يسوع والإيمان. فأيّ مصير كان ينتظره؟ يجوز لنا أن نردّد ما ردّده البعض عن أن الأب الحدّاد نفسه كان يردّده عندما علم بموت جبران: " لو بقي جبران في بلدته بقرب وادي القدّيسين، لكان سلك درب القداسة"[11].
 

              2 – الخلاف مع رجال الدين:

           براءة جبران الأوّلية ( في طفولته وصباه)، ستتعرّض للكثير من التشويه كلّما كبر في السنّ. هذا التشويه ناتج في اعتقادنا عن رهافة حسّ جبران من جهة وقساوة الواقع الذي كان سائداً في ذلك الوقت والذي تمثّل في كلّ ما يندرج تحت عنوان "السلطة الأبويّة"[12]. والحال يكون تمرّد جبران وثورته موجّهان بالدرجة الأولى الى السلطة الأبويّة بمعناها العام. فهو لم يكن على انسجام مع والده كما كان الحال مع والدته، وعلى خلاف عنيف مع الإكليروس، وعلى تمرّد ثوريّ – وقد نقول تحريضي- على الحكّام. وهكذا كان الأب، والأب الكاهن، والحاكم يمثّلون مواد خصبة للحرب التي أعلنها جبران على أكثر من جبهة. وسنذكر تالياً بعض الأمور المثبتة أو المعروفة بهذا الخصوص:
 

               يبدو أنّ والد جبران، خليل، لم يكن بالمستوى الفكري أو على الأقلّ بمستوى الطموح التي كانت عليه والدته كاملة رحمه. فهو عاجز عن اتّخاذ القرارات الحاسمة، ميّال الى الهدوء في كلّ شيء حتى في الفكر. أمّا هي فكانت حيويّة ونشيطة، وطموحة، والأهم أنّها كانت ذكيّة الى درجة الدهاء. فمن الطبيعي أن تكثر الخلافات العائليّة، التي كانت تنتهي بغلبة الأب لأنّ المجتمع أعطاه سلطة الأولويّة. ولا بدّ أن الولد، جبران، تأثرّ بهذا الجوّ المسموم وكان يرى الدموع في عينيّ والدته التي كان يحبّها حتى العبادة. ووعى باكراً أنّ السلطة الذكوريّة محت الحقّ الذي كان يرى أمّه عليه. أمّا ردّ الأمّ فكان دائماً بالصبر، واحتمال العذاب تيمّناً بعذابات يسوع، وأنّ الفرج لا بدّ آتِ لأنّ الرجاء من صلب الإيمان. وهكذا أدرك جبران أنّ أمّه أقرب الى يسوع الذي أحبّ من أبيه[13]. فحاك ثورة غير معلنة على أبيه، بأن أهمله وما عاد ليذكره حتى أمام نفسه[14]. كثيرون هم الباحثون الذين ربطوا علاقة جبران بوالده بعقدة أوديب، إلاّ أنّه في رأينا كان بعيداً كلّ البعد عن هذه العقدة. فهو وقف بجانب الحق الذي كان يرى أمّه عليه. والموضوع لا يحتمل أبعد من هذا التفسير.
 

           أمّا بشأن السلطة الدينيّة فكان جبران يسمع ويحفظ في السرّ بعض الظلم الذي كان يفعله الإكليروس مع الناس البسطاء، ولعلّ حادثة دير مار ليشع كانت الأبرز، وقدّ جسّدها جبران كتابةً في قصتّه "يوحنّا المجنون"[15]. وكان يعلم أنّ كلامهم لا يقبل النقاش، مسموع من العامّة من دون جدل. وكان يدرك كيف كانوا يقفون مع الحاكم القويّ، الظالم ضدّ أبناء الرعيّة المساكين إذا ما وصلتهم شكوى بهذا الخصوص. فأعلن الحرب عليهم بعد رحيله الى الولايات المتّحدة، وهاجمهم بأعنف ما يمكن أن يكون عليه الهجوم، لأنّهم في اعتقاده لم يعرفوا يسوع إلاّ من خلال ذواتهم ولأجل ذواتهم.  ونعتهم بأبشع النعوت.
 

             قال في يوحنّا المجنون: " تعال ثانية يا يسوع الحيّ واطرد باعة الدين من هياكلك، فقد جعلوها مغاور تتلوّى فيها أفاعي روغهم واحتيالهم ..."[16].  وتتالت الهجومات العنيفة، واصفاً إيّاهم بالخونة والذئاب والطامعين والمحتالين. وقال في خليل الكافرعن الكاهن: " هو مخلوق عجيب له منقار نسر، ومقابض النمر، وأنياب الضبع، وملامس الأفعى"[17]. ولعلّ الطامة الكبرى كانت في مقاله الشهير بعنوان الشيطان[18]. يقال أنّه بعد هذه المقالة أمر بعض الأساقفة في أبرشيّاتهم الناس بحرق كتب جبران أو على الأقلّ بعد قراءتها.
 

            كذلك كان له موقف من السلطة السياسيّة. ولعلّ البداية كانت مع قصتّه وحلا الضاهر، التي كانت نسيبة الحاكم الذي ساءه أن تكون قريبة من جبران الفقير حيث لا حسب ولا نسب[19]. وتوالى الهجوم التحريض على الإقطاع السياسي وظلم الحاكم: إنّ في مرتا البانية[20]، أو في وردة الهاني وصراخ القبور[21]، أو في الأجنحة المتكسّرة وكثير من المقالات في "دمعة وابتسامة" و "العواصف" و"البدائع والطرائف"، حتى أعلن في مقالة "يا بني أمّي" حقده على الناس أجمعين التي بلغ فيها التحريض أوجّه: " أنا أكرهكم يا بني أمّي لأنّكم تكرهون المجد والعظمة. أنا أحتقركم لأنّكم تحتقرون نفوسكم. أنا عدوّكم لأنّكم أعداء الآلهة ولكنّكم لا تعلمون"[22].
 

           3 – يسوع جبران:

            بعد كلّ هذا النزاع الذي بدا وكأنّه لن ينتهي، كان لا بدّ لمفكّر عظيم كجبران أن يقع في مشكلّة فكريّة على الأقلّ. فهو يؤمن بيسوع الذي أصبح هاجسه، يلهج به ليل نهار، مهووس به مثالاً أعلى، وفي الوقت نفسه هو على خلاف مع الإكليروس الذي يبشّر بيسوع، ويحمله الى الناس، ويعلن بشارته. يبدو إذاً أنّ في المشكلة أمراً غير سويّ. وكان لا بدّ له من إيجاد الحل. فكان ما كتبه كما التالي: "مرّة كلّ مائة سنة يلتقي يسوع الناصري بيسوع النصارى، في حديقة بين جبال لبنان، فيتحادثان طويلاً، وفي كلّ مرّة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: أخشى يا صاحبي أنّنا لن نتّفق أبداً أبداً"[23].
 

           واضح إذاً أنّ هناك تمييز بين يسوع الذي أرسله الله الى الأرض منذ ألفيّ سنة، وهو يسوع الذي يعرفه جبران، ويسوع الذي يعبده البشر اليوم، وهو يسوع رجال الدين، الذين لا يمكن إلاّ أن يكون مزيّفاً كما هم مزيّفون. لقد رأى جبران حلاّ لمشكلته في أنّ رجال الدين المسيحيّين لم يفهموا رسالة يسوع ولم يدركوا عمق معناها فشوّهوا صورته. فمن هو يسوع جبران؟
 

           هو وليدة كلّ المؤثّرات التي دخلت ذهن جبران منذ طفولته. ففي طفولته وعاه طفلاً في مغارا، عذباً بريئاً، وفي أوّل صباه في بوسطن عرفه من خلال الكتاب المقدّس، ثمّ من خلال ديانات الشرق الأقصى[24]، ثم تأثّر بفريدريك نيتشه وكتابه الشهير "هكذا تكلّم زرادشت"، فأعلن يسوع إنساناً متفوّقاً. يسوع إذاً هو إنسان ارتقى الى الألوهيّة بجهد كبير متغلّباً على كلّ مفاسد هذه الدنيا. وبالتالي فإنّ كلّ إنسان يستطيع، كما يسوع، أن يرتقي الى الألوهيّة بسيرهم على درب يسوع. فالإنسان في رأيه " إله يرتفع الى ألوهيّته ببطء شديد"[25]. ففي مقال حفّار القبور أشار جبران الى أنّ الإنسان هو الله، وأنّ الإله المعبود ليس سوى الإنسان مكتملاً، بالغاً، في أقصى تطوّره الذاتي، كمال الألوهة[26]. ولأنّ العمر لا يكفي لتحقيق هذا الهدف، فهذا الكمال لا يبلغ مداه إلاّ عبر التقمّص[27] ... كان يقول لماري هاسكل، في الإطار ذاته، أنّه عاش حيواته السابقة في بابل والهند ومصر قبل لبنان[28]. وكان يردّد: "قليلاً ولا ترونني وقليلاً وترونني، لأن إمرأة أخرى ستلدني"[29]  ممّا لا ريب فيه، أنّ عقيدة التقمّص حصّنته ضدّ الشعور بالخوف من الموت، وهو الوحيد في صومعته، وجعلته "يطمئنّ الى عودة يوصل فيها ما انقطع"[30].
 

           إذاً من طفل في قريته قاسى البؤس والألم والتمزّق والقلق، فآمن بعفويّة صادقة، الى تلميذ في معهد الحكمة شهد نظم الكنيسة الكاثوليكيّة وتصرّفات بعض رجالها، فنقد وشكّك، خرج جبران من عهديّ الطفولة والصبا رجلاً مؤمناً بالمسيح على طريقته[31].
 

           4 – عند ساعة الحقّ:

              في أواخر حياته، كان الحنين ليسوع يملأ قلب جبران. ويبدو أنّه كان متأسّفاً لصراعه الطويل حول الربّ. وفي ساعة مواجهته الموت، في غرفته في مستشفى "سانت فينسنت" في نيويورك حيث كان حاضراً كلّ من ميخائيل نعيمة وبربارة يونغ وشقيقته مريانا[32] ينتظرون أن يلفظ من أحبّوا أنفاسه الأخيرة، دخل كاهن ماروني الغرفة معه الزيت المقدّس وقربانة صغيرة[33]. وتفاجأ الجميع باستفاقة جبران وابتسامته للكاهن والإشارة إليه ليتمّم واجباته الدينيّة. فتقدّم الكاهن ومسحه بالزيت المقدّس وناوله جسد الربّ، ولفظ جبران بعدها النفس الأخير. لقد تصالح مع الإكليروس ومع الربّ في آخر لحظة.
 

            إنّ في صراع جبران فيما يخصّ يسوع والإكليروس لعبر وأمثولات كثيرة، وفي هذا تكمن أهميّته. ولا تقتصر أهميّة جبران في هذا الموضوع وحسب، فهو فارس من فرسان النهضة، من مجدّدي اللغة العربيّة، ومدافع بارز عن المظلومين وخاصّة المرأة في بلادنا المشرقيّة. فهو أوّل من ترك المرأة، في مؤلّفاته، أن تتكلّم عن وجعها واستبداد الآخرين بها. وهو الأديب اللبناني الذي نال شهرة واسعة في كلّ أرجاء الأرض ويكاد يكون الوحيد الذي ترجمت مؤلّفاته الى أكثر لغات الأرض. لقد قال كلمته ومشى "فتناقلتها أجنحة الهواء، والتقطتها آذان العاشقين، عاشقي فنّه المبدع، عاشقي زمانه الذي لا زمان له، عاشقي أحلامه وتمرّده وجنونه، عاشقي رسمه وشعره وفنونه، عاشقي الحياة طريقاً رسم الموت نهايتها"[34].

 

 

 

 

 

 

 

 




[1]  -  "جبران خليل جبران, دراسة بسيكولوجيّة مبنيّة على التحليل النفسي" – غازي براكس.
[2]  - راجع مقالة يسوع المصلوب – من كتابه العواصف".
[3]  - غسان خالد. "جبران الفيلسوف". مؤسّسة نوفل، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان , 1983. خاصة في الصفحة 25
[4]  -  جميل جبر،"جبران في عصره ةآثاره الأدبيّة والفنّية"،مؤسّسة نوفل، الطبعة الأولى، بيروت – لبنان. ص.189.
[5]  - غسان خالد . المرجع ذاته.
[6]  - جميل جبر. المرجع ذاته.
[7]  - مقال "الطفل يسوع" من مؤلّفه "دمعة وابتسامة".
[8]  - ميخائيا نعيمه. "جبران خليل جبران". مؤسّسة نوفل, الطبعة العاشرة، بيروت – لبنان. 1985.
[9]  - راجع رسائل جبران الى ماري هاسكل والتي جمعتها السيّدة "فيرجينيا أوتو سالم" في كتاب بجزئين صدر تحت عنوان "نبيّ الحبيب".
[10]  - هذه الحادثة كان يخبرها الأب الحدّاد نفسه.
[11]  - رأي شخصي مستمدّ من تحليل لسيرة حياة جبران.
[12]  - راجع دراسة غازي براكس النفسيّة عن جبران.
[13]  - راجع كل من  ميخائيل نعيمه. "جبران خليل جبران". مؤسّسة نوفل, الطبعة العاشرة، بيروت – لبنان. 1985.
      وجميل جبر،"جبران في عصره ةآثاره الأدبيّة والفنّية"،مؤسّسة نوفل، الطبعة الأولى، بيروت – لبنان.
[14]  - نادراً ما أتلى جبران على سيرة أبيه, وإن بكاه يوم توفّي
[15]  - القصّة الثالثة من كتابه عرائس المروج.
[16]  -  الرجع نفسه
[17]  - من خليل الكفار في مؤلّفه الأرواح المتمرّدة.
[18]  -  مقالة من كتابه العواصف
[19]  - جميل جبر،"جبران في عصره ةآثاره الأدبيّة والفنّية"،مؤسّسة نوفل، الطبعة الأولى، بيروت – لبنان. (يجدر    
       بالذكر أنّ الكثيرين لا يعترفون بحقيقة هذه القصّة.
[20]  - من كتابه عرائس المروج
[21]  - من كتابه الأرواح المتمرّدة
[22]  - مقالة يا بني أمّي من كتابه العواصف.
[23]  - مقال من كتابه رمل وزبد.
[24]  - لا ننسى أنّه قطن وعائلته في الحيّ الصيني في بوسطن.
[25]  - راجع غسّان خالد في كتابه جبران الفيلسوف ص 228.
[26]  - حفّار القبور من كتابه العواصف
[27]  - المرحع ذاته
[28]  - راجع نبّي الحبيب لفرجينيا سالم أوتو
[29]  - المرجع ذاته.
[30]  - راجع غسّان خالد (المرجع السابق).
[31]  - يسوع وجبران للدكتورة كارول الخوري.
[32]  - راجع كتاب ميخائيل نعيمة عن جبران خليل جبران.
[33]  - هذه الرواية غير محقّقة وإن كان ألمرجح هو الخوري إسطفان الدويهي.
[34]  - يسوع وجبران – د. كارول خوري.

 

هناك تعليق واحد:

  1. سلام الله سيد طارق، شكرا على مقالتك التي تشير وتلقي الضوء على شخصية فذة هامة تضارع الأنبياء في أعمالهم العالمية الخالدة الحقة- ألا وهو جبران. ولكن سيد طارق، اسمح لنا بتعليق نضيء فيه على أمور وردت في مقالتك.
    الدكتور غازي براكس في كتابه الفذ، أضاء النور حول جبران متناولا حياته بإخلاص تام منذ طفولته حتى وفاته دون تعاطف مع أكليروس او أي جهة أخرى فكلنا بشر خاضعون للتجارب. لقد تناول كتاب الدكتور غازي حياة جبران الأديب الملهم منذ طفولته، حيث نرى فيه ميله قليلا نحو المادة في طفولته إلى شخص روحاني محض، إنسان ملهم بكل معنى الكلمة في مراحل سنه المتقدمة، وكتابه ليس دراسة فلسفية كما تتطرقت إليه. كان جبران مكرسا لله لا لرجال الإكليروس كما هو حال أيامنا هذه. انتقد المجتمع متنبئا بما ستقول به الأيام عن أي أمة تأكل مما لا تحصد وتحسب كل قبيلة فيها أمة.
    كان هدف جبران توعيتنا إنسانيا بنبذ المظاهر البراقة التي يتبعها أغلب الناس اليوم، بل التمسك بكلمات الله كما قالها السيد المسيح له المجد.
    أما عن قصة ابتسامه للكاهن في لحظة انتقاله عن حياة المادة الأرضية الفانية فهي إشاعة تتناقلها الأقلام المغرضة والممالقة.
    هذا رأينا.
    ولكم منا وافر الاحترام.
    يوسف قبلان

    ردحذف