الأربعاء، 26 أغسطس 2020

غسل الأيادي السوداء

 

الإنفجار الكبير: غسل الأيادي السوداء.


وصار الذي صار...


بات الحزن والقلق والغضب والقرف والخوف واليأس يلاحقنا حتى ونحن نيام في مضاجعنا. وبتنا نهرب من أسرّتنا الى الأبعد، الى الغرف المجاورة، الى الشرفات، الى ما نعتقده الأبعد. ولكن الى أين المفرّ؟ وكيف نهرب من ذواتنا وقد لاففتها صور الدماء وذهول الجرحى والموت والدمار ولامبلاة المسؤولين. بحزن نسترجع كلّ صور الشاشات الأليمة، وكلّ صور وتعليقات وأفلام مواقع التواصل الإجتماعي القصيرة. نسترجع الإنفجارات الصغيرة، والإنفجار الكبير. ونسترجع صورة "العصف" البيضاء والسوداء والبرتقاليّة. وبغضب نسترجع تصريحات المسؤولين الذين يحاولون إقناعنا أنّهم غير مسؤولين. بغضب نسمعهم يؤكّدون بعيونهم البلقاء أنّهم غير معنيّين. صحيح أنّهم عرفوا بخطورة ما كان مختزناً ولكن الأمر ليس من صلاحيّتهم، وهم تالياً لا يعرفون شيئاً. ألمسؤولون أقوى منّا نحن الذين لا نعرف كيف نهرب من أسرّتنا الى الأبعد ومن قضايانا الى العدم ... المسؤولون؟! لقد اعتادوا على الهرب.

ما كان لموت الطفلة "ألكسندرا" أن يزرع في نفوسنا الغضب لو أن وفاتها حدثت بسبب مرضٍ أو حادث عرضيّ. أمّا أن يخطف هذا الإنفجار ابتسامتها بإهمالٍ مِن مَن فقد إنسانيّته فالأمر جلل، ويزداد تعاظماً في كلّ ثانية تمرّ. وما كان لموت ذلك الشاب المطمور في حفرة تحت الركام ليدمينا لو سقط بزلّة قدمٍ فيها. أمّا أن يسحبه "العصف" المتفجّر الى الحفرة التي حفرها به، بجسده، ويضعه فيها جثّة هامدة فالأمر جلل، ويزداد تعاظماً في كلّ ثانية تمرّ.  وما كان لتلك السيّدة لو انتابتها دوخة أخلّت بتوازنها فسقطت على السياج المعدني لأدراج البناء أنّ تهزّنا لو لم يحملها الإنفجار في الهواء، ويخبطها على ذلك السياج عند خاصرتها في محاولة لشقّها نصفين، كما تعجز عن تخيّله وتصويره أفلام الرعب، فالأمر جلل، ويزداد أيضاً تعاظماً في كلّ ثانية تمرّ. وآخرون كثر، وصور لهم لا تحصى، والمشاهد مبكية في كلّ وقت نسترجعها، ولكلّ واحد قصّته المحزنة ومشهده المدمي للقلوب. أمّا للمسؤولين جميعاً فلهم قصّة واحدة عنوانها: غسل الأيادي السوداء.


ليس على شفاه أصحاب القصص هؤلاء، المتعبين والمرهقين، الجرحى والمفجوعين، المصدومين والضائعين، العراة من بيوتهم ومن عائلاتهم وقد تشرّد الكلّ، سوى كلمتين إثنتين: "الدولة غائبة"، الدولة ليست معنا في هذا الوقت. هاتان الكلمتان ليستا للسؤال عنها. هم لا يريدونها ولا يثقون بها، ولكن هذا لا يعني أن تكون غائبة. يقولونها ببعض حزن وببعض يأس وبكثير من القرف. ورغم ذلك يبكون غيابها إذ يبكون حالهم. سيظلّون يسألون عنها: "أين الدولة؟"... أين أصبحت الدولة؟... لم يعد السؤال يهمّ أحداً من أولائك الذين تلقّوا صفعة الإهمال بصدورهم، أولائك الذين اهتزّت أجسادهم بوتيرة أسرع  من اهتزاز الزلزال الذي حصل، وصرخوا بأعلى من صوت الإنفجار الذي دوى. لم يعد السؤال يهمّهم وما عاد أحد منهم ليسأل عن الدولة المنتحرة، فالأموات لا يسألون عن الموتى. ولكنّهم يتحسّرون على مئة سنة مرّت على إنشاء بلدهم، وعلى كلّ تعب الأجداد وذلك العرق والقلق والسهر والخوف، وكلّ تلك الصلوات. لا يسألون عن السلطة ولكنّهم يرسمون علامات القرف من مسؤولين أميع من العلق وأقذر من القيء.

وعندما يأتي المساء، ويفرش السكون هيبته على الجميع، يجلس أصحاب القصص هذه في صدور بيوتهم المفتوحة الى الخارج حيث لا جدران ولا أبواب ولا شبابيك، ولا حتى سقوف، وينظرون الى المرفأ، الى مسرح الجريمة حيث باتت الشمس تخجل من أن تغيب كما في العادة، فيروا جبروت الغرب، أساطيل وطائرات، حاملات رعب ومدمّرات، راسيات لتمنع المرفأ من الرحيل الى مكان آخر. ويشعروا بأنّ المكان الآخر يرصد هذه القدرة والزبد يفأفئ فوق لعابه. غرب ما شاء يوماً أن يترك هذه الخاصرة الشرق أوسطيّة، وأن يرحل عنها ولا يعود يسأل، وشرق ما كان يرى في كلّ الغابرات من السنين إلاّ هذه الخاصرة الشرق أوسطيّة التي كانت تستهويه وما زالت الى الآن. خاصرة تثيره، تجذبه وتزيد من شطط لعابه فيأتي إليها مالكاً من دون أن يسأل قبولها. وهم، أصحاب القصص، فيما يرونه ويشعروا به يدخلون لعبة الأمم التي أوشكت أن تنتهي. ويرسمون خارطةً سايكس – بيكويّة تنسيهم حزنهم والآهات، ويزداد اشمئزازهم لمسؤوليهم الغائبين والذين ينتظرون مثلهم نهاية اللعبة ليعرفوا كيف سيقتسمون القالب الجديد.

وإذ يحين موعد سماع صوت جرس كنيستهم يستعيدون حال عشيرتهم المزرية. أين كانوا وأين صاروا. فيبكون بؤسهم والتفاهات، تخلّفهم والعقد، جنون عظمتهم وفراغات الرؤوس. ويشعرون بلعيان النفس إثر سماع جماعتهم يتراشقون السخافات، ويتقازفون الإهانات، فيعودون بالحنين الى زمن ولّى، الى قادة عرفوا قيمتهم بعد رحيلهم، الى قادة كبار، حافظوا على كبرهم رغم كلّ أخطائهم.  ويتساءلون هل يبكون سخرية الأقدار أم سخرية أولائك المرضى، الأميّين، الصبية المشاكسين، المراهقين المتخلّفين وقد نصّبوا أنفسهم زعماء، وقد قاربت أعمار البعض منهم أن تلمس العقود التسعة من الزمن. يبدو أنّ الزمن لو جار على جماعة، أصابها أين مكان، في كلّ جهة، في كلّ ثوابتها، في كلّ منظوماتها. ولكنّهم لا يستسلمون ولن يفعلوا. يفكّرون بأجدادهم، أولائك الأبطال، الذين قبعوا كما هم في أماكن وعرة، لسنوات طوال. في الماضي كان إسم تلك الأماكن وادي قنّوبين، واليوم إسمها منطقة المرفأ. وكما كان لتلك رجالها وقدّيسيها، سيكون لهذه رجالها وقدّيسيها أيضاً. وكما كان لتلك رجال نهضة عظماء غيّرت وجه الشرق بأكمله، سيكون لهذه أيضاً رجال نهضة عظماء وسيغيّرون العالم بأسره. 


 


 وتمرّ الساعات ويشتدّ السكون، وتسدل ستارة حلمهم وبؤسهم وحزنهم وقرفهم، ويرجعون رؤوسهم الى الوراء وينظرون الى الأعلى مستعطفين.




الأربعاء، 22 أبريل 2020

من زمن الكورون



- 1 –
"وجبل الربّ الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حيّة." ومنذ ذلك الوقت، والإنسان الذي يأخذ من نسمة الحياة تلك، يتنفّس من هواء هذه الدنيا ليبقى ويستمرّ. فماذا لو أصيب جهاز التنفّس هذا فتعطّلت عمليّة التنفّس تلك برمّتها؟ إذذاك ستظهر مسألة وجود الإنسان في خطرٍ محدق وسنعود حتماً الى صراع البقاء. الوجود كلّه سيكون في معرض الخطر الكبير ذلك أن الشاهد عليه – الإنسان – في خطر الزوال. وعندما لا يكون هنالك شاهد عليه فهذا يعني أنّ الوجود ذاته في موضع شك.

- 2 -
 فيروس الكورونا الذي ظهر في أواخر العام 2019، هذه الجرثومة المجهريّة، المنعدمة الوزن والحجم، يكمن عملها في "مخزن الهواء" – الرئتين، الضروري لتجديد وتنظيف الدم، ولتغذية خلايا العقل الثابتة الغير متجدّدة. ولكن... نحن نؤمن بأن هذا الفيروس الذي يتعرّض للنظام الطبيعي، الكوني، الدقيق سيكون تعرّضه هذا، سبباً لزواله، إذ لا يمكن لأيّ كائن، أيرى كان أم لا يرى، أن يعيق مبدأ الخلق الإلهي. ونحن، بإيماننا هذا، ندفع تلقائيّاً عن أنفسنا كلّ يأسٍ وإحباط، وننصرف للعمل متيقّنين من الفوز، أو لنقل من ربح الحرب.

- 3 -
الحرب على هذا الفيروس تكمن في العودة الى أصالة الطبيعة التي أمعنّا لسنوات وسنوات في تجريحها وخدشها وتشويهها بكلّ ما قدّمه لنا الوجود من إمكانيّات. هذه الحرب فيها من المسألة البيئيّة ومن مسألة النظافة الذاتيّة، كما ومن مسألة الترقّي ألإنساني العام بمعناها الثقافي الوازن، الشيء العارم. وفيها أيضاً من مسألة العلوم الطبّية والإحصائيّة الحسابيّة ومن تطبيق أمني للقوانين المعتمدة في هذه الحرب، الشيء الكثير. مسألة واحدة لا يمكن أن تدخل في هذه الحرب وهي الأسلحة الفتّاكة التي أنفقت عليها الدول الأموال الطائلة، فكسدت في مخابئها إذ، تيقّن الجميع، أن لا نفع منها أمام هذا الجزيء الذي لا يرى، تماماً كما لا نفع منها في كلّ وقت ذلك أنّ الضرر ما كان يوماً نافعاً.

- 4 -
في الحرب على فيروس كورونا المختبئ في صغره، يظهر واضحاً عجز الدول، كلّ الدول. فهي ضعيفة أمام قوّة هذا الفيروس الناعمة، ولا حيلة لديها سوى الإنتظار والتسليم. وهي سلّمت بسرعة هائلة وما زالت تنتظر. تنتظر بفارغ الصبر اكتشاف لقاح أو علاج، والبعض راح يتحدّث عن حرارة الصيف لتوقِف انتشاره بين الناس، وتضع حدًا لخطره على وجودهم. وهذا لعمري، حديث العاجز بامتياز.

- 5 -
نحن، للحقّ، نواجه جرثومة لا نستطيع الإحاطة بها. وكلّ ما نقدر عليه هو عزل أنفسنا "نكايةً بها" حتى لا ننقلها للآخرين. فهل نحن أمام صراع بقاءٍ جديد؟ نعم، ولكنّه صراع جماعي، يمارس على هيئة جماعات وعلى نحو منظّم. في صراع البقاء هذا، تبرز الوحدة الإنسانيّة كواحدة من أدوات هذا الصراع الأهم والأنجع. أن رعاية المريض والاعتناء به تجود بها النفوس الكريمة، النفوس التي تتحلّى بقدر كبير من الشهامة. هذا الأمر هو كلّ المعنى الإنساني لوجودنا.

- 6 -
نحن في تصدّينا لهذه الجائحة نعمل وفق خطّتين استراتيجيتين أساسيتين: الأولى تقضي بتعقّب الأفراد المصابين وعزلهم ضمن المجتمع بهدف إيقاف انتقال المرض إلى باقي السكان. والثانية تقضي بعزل المناطق (والناس) بعضها عن بعض لإبطاء انتشار المرض في المجتمع بشكل عام.  واضح إذاً، أنّ العمل من أجل السيطرة على هذا الجزيء إنّما هو عمل سلبي لا يعتمد على المواجهة المباشرة، بل يقوم على الإختباء منه حتى "لا يرانا ولا نراه".

- 7 -
لا بدّ ستعلّمنا هذه الجائحة أموراً مجبولة بالتواضع:
أوّلاً، تواضع الدول العظيمة إقتصاديّاً وعسكريّاً لأن فيروسا لا يُرى كان قادرا على تمريغ سمعتها الى ما دون الأرض. وثانياً، التواضع المتعلّق بأهمّية اعتماد الشفافيّة المطلقة في كشف حقيقة ما يجري لاتّخاذ القرارات السريعة والجريئة والصائبة. ففي بعض الدول لم يتمّ الكشف، وعن قصد، عن خطورة هذا الفيروس إلا بعد أن تفشّى... إنّ تعاستهم لأتعس من جهالة المساكين.

- 8 -
لنقتنع، بسبب هذا "الكورونا" بالذات، أنّه مهما انقسمنا واختلفنا وتباعدنا، لسبب سياسيّ أو غير سياسيّ، بأنّنا نبقى نتشارك بحمل أرواح فيها من نفحة الله ما يجعلنا أسياداً على الكون برمّته، بما لا يسمح لنا أن نتكبّر على ابعضنا البعض. فيروس كورونا جاء برسالة واضحة لنا: اتحدوا وعودوا لإنسانيتكم فما أنا في النهاية إلا رسول للإتّحاد فيما بينكم بمحبة وسلام. ولعلّ هذا الأمر هو الدرس الأكثر أهمّية.

- 9 –
لقد فرض علينا هذا المجهريّ أن ننعزل لكي نسلم. وفي العزلة سعادة متأتّية من ابتعاد واحدنا عن الخطايا والمعاصي وأهل الباطل والتقرّب الى الله بالصلاة والصوم. وفيها سنبتعد حكماً عن المحاباة، والممالقة، والمداهنة والخداع والمواربة في رضى الناس، وعن الخصومة والمناكفة وترك اللسان على سجيّته وهو مصدر الشرور. وفيها أيضاً سنبتعد عن شرور الناس وحسدهم، وسوء ظنّهم ونميمتهم وطمعهم.وفيها أيضاً وأيضاً  استثمار العقل لزيادة المعرفة وتوظيفها في التفكّر لما هو في ترقّي الإنسان. للعزلة وجه إيجابيّ إذاً.

- 10 -
واضح أنّ الفيروس أصاب الكرة الأرضيّة بشلل ظاهر على مختلف الصعد. إقتنعنا جميعاً أنّنا لا يمكن أن نعيش إلاّ معاً. وما يصيب واحدنا في زاوية من زوايا الأرض يتأثر به من يحيا في زاويتها المقابلة. بات علينا أن نتخلى عن فكرة النجاة الفردية.

- 11 -
سيشهد العالم ركوداً إقتصاديّاً هائلاً. كما سترتفع معدّلات البطالة في أكثر الدول. ولكن بين أن يبقى الفيروس "يسرح ويمرح" في أنسجة سبعة مليارات من الخليقة أو أن تتراجع الدول إقتصاديّاً، يبقى الخيار الأوّل هو الأصعب.

- 12 -
وهكذا، يظهر لنا هذا الفيروس الماثل في الذهن وفي الواقع، أن الخروج عن المسيرة الكونيّة المنظّمة بدقّة انتحار مؤكّد. ولقد خرج الإنسان بالفعل، عن المسيرة الطبيعيّة التي ما كان يجب أن يتخطّاها. لقد أهملنا بيئتنا فأمعنّا في تشويهها. وباتت الأرض، كلّ الأرض، تعتمد في تنقية هوائها على غابة واحدة عندنا هي غابة الأمازون. وما أدرك المرء أنّه عندما ثقب طبقة الأوزون إنّما أطلق العدّ العكسي، وإن بطيئاً، لانتحاره. وأمور أخرى من الجرائم البيئيّة التي لا تعدّ ولا تحصى.

- 13 -
إنّ كلّ عملٍ لا يفيد ترقّي الإنسان يجب أن يزال حتى من التفكير به. ثمّ إنّ مثل هذا العمل هو فساد أكيد. من هنا ضرورة الدعوة للتغيير. التغيير الحقيقي في الفكر والقول والفعل، على أن يبدأ المرء بهذا التغيير من شخصه هو بالذات. وقد باتت الدعوة لتلبية حاجات النفس والروح وليس حاجات الجسد فقط أكثر من ملحّة.

- 14 -
نحن ننتظر المتغيّرات الأكيدة. فما بعد الكورونا لن يكون كما قبلها. ستقوم تغيّرات في الكثير من الدول وأولها، ربّما، في الصين وإن أثبتت أنها الأقوى إلى الآن في مواجهة الوباء، حيث الشفافية مع شعبها وشعوب اللآخرين واجب إنساني. وقد يحصل تغيير في أوروبا نفسها، وفي أميركا أيضاً. ستتخلّى الكثير من الدول عن عنجهيّتها واستكبارها ولا شكّ. قد يخسر مثلاً الرئيس الأمريكي رهان الفوز بولاية ثانية في تشرين من هذا العام، نظراً لتداعيات الفيروس الإقتصاديّة. وقد تعي شعوب بعض الدول الشموليّة، الديكتاتوريّة، خطر عدم السير في الركب العالمي، خطر على وجودها بالذات.

- 15 -
أمّا عندنا، فنحن نتطلّع الى تغيير كبير في مختلف ما تعوّدنا عليه من باليات، حتى ولو لم يعِ البعض الحقائق التي تكشّفت عن هذا الفيروس، حتى الآن.




الأحد، 11 أغسطس 2019

ورحلت "مي منسى"


ورحلت "مي منسى"

يوم لم تعد تستطيع الفراشة الإقتراب أكثر من النور




كنت أعلم أن رحيل الفراشة "مي منسّى" لن يمرّ دون أن اكـتب شيئاً عنها. وكنت قد تعرّفت عليها عن كثب في قاعة المحاضرات في فندق "فينيسيا" منذ حوالي العشرين سنة من الآن، يوم كان وفداً من الأدباء اليونان يحاضر عن مكانة جبران خليل جبران في اليونان. وكنت أعرف أنّها من صحفيّات النهار البارزات، ناقدة فنّية وأدبيّة تناولت شخصيّات مهمّة، لبنانيّة وأجنبيّة، في نقدها، الذي خلا دائماً من السخط والغيظ والغضب والإستياء والحنق وحتى الزعل وهو أضعف الإيمان. بعضهم كان يهاجم قلمها المعجب بكلّ شيء كما كان يقول. ومن هذا البعض كان أحد زملائها (لا حاجة لتسميته) في "النهار" وقد عرف كناقد فنّي من الطراز الأوّل. ولكن الفراشة، كانت ابتسامتها من الأعماق، وحبّها صادق، لأنّ تؤمن أنّ في كلّ عمل إنسانيّ ملامسة إبداعيّة يكفي أنّ تتلمّحها حتى لا تعود تكتب إلاّ عنها.



قرأت أنّها قالت مرّة: "نموت حين لا يعود ثمة إنسان نودّ العيش من أجله". كانت ميّ تريد العيش من أجل كثيرين: إبن وهو أحد أسباب ابتسامتها، وأقرباء ورفاق عمل، وبالأخصّ من أجل شقيقتها الحائزة على جائزة ال غونكور الفرنسيّة للشعر... فينوس خوري – غاتا، والتي تكبرها بسنتين. وكانت تناديها بتوأم روحي. وإذ أدركت الفراشة أنّ شعر شقيقتها كافٍ، كما كان دوماً، لإسعادها، وأنّ الزمن البائس الذي نعيش فيه جعل من كلّ من نلتقي به عجينة كآبة، والأهم أنّ أكثر المعارف (الحبايب) رحل يوم انتصرت البداوة على الحضارة، والرصاصة على القلم. التويني والتويني والقصير و ...  يوم أدركت كلّ هذا أدركت أنّ اللحاق بهم لم يعد ينتظر. رحلت وتركت ذاتها هنا: روايات مبتسمة كما المؤلّفة تتحدّث عن الوجع. روايات بقيت لأنّها "انتعلت الغبار ومشت". أمّا هي فرحلت الى حضن أمّها، عادت إليه على صورة الجنين. هناك فوق الى بشرّي عادت، الى مرتع طفولتها وزمن قراءتها لكتابها الأوّل. وسيذيب دفء اللقاء مع الأم رقع الثلج حتى ينبت الأخضر ولا يذبل بعد. ستنام في حضن أمّها كما في وضعيّة الجنين، وسيرتاح الرأس تحت الرأس وستشعر باليدين تغمر رأسها.



بعد أن ضحكنا معاً من ذلك المحاضر اليوناني الذي كان ينسب أقوالاً له وهي لجبران قالت: هلا أدركت الآن عظمة جبران؟!



 سيبقى مثواكِ يا ميّ حيّاً الى الأبد لأنّك ستبقين الإبتسامة على ثغرك الى الأبد. 

                                                                     د. طارق شدياق

السبت، 3 أغسطس 2019

بشري


 بشرّي


يا قطعة من القلب، يا جوهرةً على سجيّتها تعكس النور أضعافاً، يا متّكأ السماء يوم السماء تتعب من التحليق ... يا شامخةً كما الأرز، ومتواضعةً كما الوادي المقدّس... يا أرض الينابيع والجمال... يا نسائم الشفاء ... يا بشرّي يا عروسة الشرق.


بكِ عرفت فضائل المحبّة والأخاء والتعاضد ... لأنّ فيكِ من يسمع، ويفقه، ويردّ. في قلبكِ حنوّ لأنّ في رأسك شموخ. وفيك العضد لأنّ زادك نخوة وإقدام. وفي عقلك رؤية ثوريّة محكمة. أنتِ رفيقة الحزانى لأنّ في قلبك رحمة، وأمّ الغريب لأنّك محبّة صافية. 

وبكِ أيضاً عرفت الغضب والكيد والنكايات... لأنّ فيك أيضاً من لا يسمع ولا يفقه ولا يردّ إلاّ بردّات الفعل الغرائزيّة الفالتة في مكان، وتلك الكلمات القاسية التي تطفو بفطرة وتلقائيّة.وما أن تلفظينها، تلك الكلمات، بجهارة ملفتة حتى تلفظينها عنك بجدارة مدهشة.   

وبكِ يا بشرّي عرفت جمال الوحدة الإنسانيّة يوم تجب، وبشاعة التفرقة في ساعات التخلّي. وأنتِ وحدة وتفرقة في آن ... علو وهبوط مستمرّ كمن يركب الموجة... ولكن تقدّم مستمرّ، فالموجة أبدأً في حراك.

الثلاثاء، 16 يوليو 2019

بعد رصاصة الرحمة، هل من قيامة؟


بعد رصاصة الرحمة، هل من قيامة؟

من صفات النفس أنّها "أمّارة بالسوء" وهي بذلك تظهر صورة الضعف البشري بجلاء. ومن صفاتها أيضاً أنّها لاهثة وراء الحقيقة بالفطرة بالرغم من أنّ الحقيقة، تجرح في أكثر الأحيان كما يقال. ولهذا يمكننا، على الأقلّ، أن نصف  كتاب "رصاصة الرحمة" للإعلامي المميّز الأستاذ "كلوفيس شويفاتي" بأنّه كتاب جارح، يخلق غصصاً في الحلق وأسفاً في قلب قارئه. وقد يبدو للوهلة الأولى أنّه يندرج ضمن خانة الكتب التاريخيّة. فهو يصف بدقّة مرحلة الحرب الشرسة التي اندلعت بين "أبناء الخندق الواحد"، أيّ بين الجيش اللبناني بقيادة الجنرال ميشال عون، رئيس الحكومة العسكريّة في ذلك الوقت، والقوّات اللبنانيّة بقيادة الدكتور سمير جعجع. وقد استند الكاتب على الكثير من المراجع الموثوقة والشهادات الحيّة، وراجع تقارير إعلاميّة كثيرة ليقترب من حقيقة الأمور التي بدت جارحة بجلاء ما بعده جلاء، ووضوح كاد أن يكون كلّ الوضوح. وللحق لا يبتعد الكتاب من أن يكون مرجعاً تاريخيّاً عندما تأتي الساعة ويحين الوقت الذي لم يحن بعد، ولكنّه الآن هو عمل أرشيفيّ وتوثيقيّ بامتياز. ولأنّه كذلك وُجب التنويه بجهد الكاتب الكبير، ومتابعته ومثابرته وصبره الذي يشهد له، متخطّياً الغصص من مرارته وحزنه على كلّ ما جرى، مرارة وحزن إبن هذا الوطن وديمومته وتاريخه وحامل إرث الأجداد المتراكم من مئات السنين. 

لن نأتِ على مسألة التعرّف على الكتاب بذكر مضمونه، ليس لأنّه مكتنز وحسب بل، لأن اختصاره في عجالة كما هي عجالتي هذه ضرب جنون لن يفي بأيّ غرض. فالكتاب يحوي من يوميّات الحرب، بل من ساعاتها، الشيء الكثير ممّا يفرض على المهتمّ بتلك الأحداث أن يقرأه بتمعّن ذهنيّ وهدوء فكريّ، وأن يتحلّى بسلام داخلي وصبر العالم لكي يستطيع الإحاطة بمفاصله. عندها فقط يمكنه أن يأخذ العبر التي من أجلها كان الكتاب. وهكذا، يمكننا أن نتعرّف على صورة الحرب التي جرت، على بشاعتها وبؤسها، وعلى النفق التي زجت فيه أناساً أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل ممّا حصل.

والحال، فلنسجّل بعض الملاحظات من وثائق الكتاب نفسه:
أوّلاً، وبحسب الكتاب، يبدو إن مصالح القادة الذاتيّة، في ذلك الوقت، هي التي كانت فوق كلّ اعتبار وليس أيّ أمر آخر. فالرئيس الجميل أعطى أوامره للجيش، وهو القائد الأعلى، للتصدّي لدخول جماعة "حبيقة" المناطق الشرقيّة في العام 1986، ولم يعطِ أمراً مماثلاً للتدخّل في حرب الجبل، وإن فقط فصلاً بين المتقاتلين، والتي وقعت قبل ذلك بثلاث سنوات تقريباً.
ثانياً، المناطق الشرقيّة، كما كانت تعرف أيّام الحرب، كانت فعلاً تفتقر لقادة يستهيبون الحرب الداخلية، الحرب فيما بينهم، تماماً كما كان الرئيس شمعون يستهيبها يوم وحدّ الشيخ بشير البندقيّة المسيحيّة، وقضى على ميليشيا حزب الوطنيّين الأحرار في نهار واحد.
ثالثاً، ودائماً بحسب الكتاب، لم تحرّك الحكومة العسكريّة ساكناً يوم أجبر الرئيس الجميل على مغادرة لبنان بعد أن سيطرت "القوات اللبنانيّة" على قضاء المتن عسكريّاً، إذ لا ضير من إبعاد منافس سياسي من أمامها.
رابعاً، بدا واضحاً من السياق العام للكتاب أن الجنرال عون صمّم على إنهاء القوّات إذ أورد الكتاب أنّه استمهل البطريرك مهلة زمنيّة بعد لتحقيق مبتغاه.
خامساً، بدا واضحاً أيضاً أن الحقد الدفين في القلوب ظهر في الأفعال. لقد اتّصل أحد القادة العسكريّين بالأباتي "نعمان" وهدّده قائلاً بأنّه إذا تابعت القوّات قصف الجيش في "القليعات" بمدفعيّة ال 240 فسيقصف بكركي ويدمّرها، ممّا جعل الأخير يستشيط غيظاً ويهينه واصفاً المتقاتلين بأبشع النعوت أقلّها "المجانين".
سادساً، ومن جنون ذلك الوقت أنّ أحد القادة فضّل قصف موقعاً فيه جنوده بشكل هستيري وعندما سئل عن السبب قال: "أفضّل قصف موقعنا ولو أصبت رفاقي من أن يقع الموقع في اليد المقابلة".
سابعاً، ومن الجنون أيضاً، أن مقاتلاً سأل قائده متى تنتهي هذه الحرب فأجاب، عندما يدخل السوريّون المناطق الشرقيّة.
ثامناً، ألمقلب الآخر من الوطن أيّد كلاميّاً الجيش، فألوية الجيش في مناطق الإحتلال أصدرت بيانات تدعم رفقائها في السلاح في حربهم ضدّ القوّات اللبنانيّة. كذلك فعل بعض السياسيّين ( الرئيس الحصّ، عبدالله الراسي، حركة أمل...) تماماً كما فعلت وسائل الإعلام السوريّة. لكن هؤلاء لم يؤيّدوا رفاق السلاح في حرب التحرير. وحده وليد جنبلاط عبّر من مكنونات القلوب يوم وصف ما يجري بأنّ "الذئاب تأكل بعضها".
ولكن... كان واضحاً أيضاً أنّ في حرب التحرير ساندت القوّات الجيش. فالخصم مشترك. حتى إذا ما غاب الخصم فلن يعود هنالك شيء مشترك.
وهكذا، تكون المصلحة الذاتيّة هي الغالبة، وأنّ الكره للقوّات اللبنانيّة من الجميع تقريباُ هو السائد ممّا يستدعي سؤآلاً عن الأسباب الكامنة ورائه.
ولكن ما لنا ولهذا الأمر الآن؟ فإذا أردنا أن نرتجي ممّا حصل دروساً وعبر وجب علينا التوقّف عند النقاط التالية وقد أشار إليها الكتاب صراحةً.

أوّلاً مراجعة الذات:
وهذا لا يعني مطلقاً ما يعرف بالنقد الذاتي. الأمر مختلف تماماً. ذلك أنّ  الإنطلاق لا بدّ أن يكون من عتبة مفادها أنّ الكلّ أخطأ. إنّه اعتراف صريح بالخطأ مرتكز على النتيجة التي وصلنا إليها، وهو ليس نقداً ذاتيّاً يحتمل المناقشة. "لقد أخطأنا"، هي العبارة الواجب الإنطلاق منها في عمليّة التصحيح البنيوي، الكياني والوجودي للجماعة التي ننتمي إليها. وسيتبعها حتماً سؤآلاً بديهيّاً عن "بماذا أخطأنا؟ وبحقّ من؟" ومهما تعدّدت أماكن الخطأ وظروفه فلا بدّ أن تتّجه الآراء لتتجمّع في خطأ أساسي يتناول وجود الجماعة. "لقد أخطأنا" إذاً بحقّ الناس. ولا يتشدّقنّ أحد علينا أن حياته كانت على كفّ عفريت، فقد كانت حياة الناس جميعاً على كفّ عفريت. فعندما كان الناس يخبّئون رؤوسهم في أشباه الملاجئ، تماماً كما تخبّئ النعامة رأسها في الرمل، كانوا يترقّبون الموت في كلّ حين. إنّ لبنان المحاذي لإسرائيل والغارق في حروب معها، ما فكّر سياسيّوه يوماً ببناء ملاجئ للناس. مراجعة الذات إذاً تقتضي رؤية كلّ الشوائب والإعتراف بالخطأ العام، واللامبالاة التي ما انفكّت تدكّ مضاجعنا جميعاً الى يومنا هذا.

ثانياً تنقية الذاكرة:
في ذاكرتنا جميعاً بشاعات قد تفوق الجمالات التي فيها. أن أكون واعياً على ما في ذاكرتي يعني بالضبط أن أقوم بغربلة مضمونها، فأتعرّف على ما فيها وأجمع المماثلات كلّ على حدة. بعدها يصار الى طرح البشاعات خارجاً لتدوسها الأرجل أو تحرق في النار. إنّ عمليّة الطرح هذه هي ما نعنيه بعبارة تنقية الذاكرة. فكلّ بشاعة يجب أن نزيلها، وأن نحاول أن ننساها، وأن لا نعود نتحدّث عنها. فنبقي على الجمالات حيث الحديث عنها يقرّبنا بعضنا من بعض، ويحيي محبّتنا المتبادلة، ويعيدنا الى إنسانيّتنا التي يرضى عنها الله، لا الى غرائزنا التي يستند عليها الشيطان. تنقية الذاكرة، تعني أن نضع وراء ظهرنا كلّ تصرّف نخجل أنّنا فعلناه، وأن نسامح ونغفر لكلّ فعل أثار حقدنا وغضبنا تجاه الآخر. فنبدأ بعلاقة جديدة، وبولادة جديدة، مع الآخر الذي نجهدُ، تماماً كما هو يجهدُ، لكسب سلام داخلي ضروري لكلّ ترقّي على جميع الأصعدة، خاصة الصعيد الوطني. تنقية الذاكرة هي عمليّة مشتركة ولا يمكن أن تكون أحاديّة، إذ ذاك فهي عرضة للسقوط.

ثالثاً السير الى الأمام:
إذ بدأنا عجالتنا هذه بأنّ النفس أمّارة بالسوء، فمن الواضح أن إزالة الحقد، وهي شرط أساسي للرقيّ والتقدّم، مسألة تبدو، للوهلة الأولى، صعبة بمكان. ولكن، لا بدّ لملكة النسيان الإنسانيّة أن تلعب دورها في هذا الأمر. وهي لن تفعل فعلها الإيجابي إلاّ إذا كان لدينا ما هو أبعد وأعمق وأجدى من الحقد، وهو الوجود بذاته. إنّ وجودنا يحتّم علينا العمل على إزالة كلّ حقد وبغض وحسد وأنانيّة وغرور. ووجودنا، وهو دائماً مهدّد، مسألة قائمة في هذا الشرق منذ أجيال، وهي دائماً بحاجة لإعادة نظر وتفكير وبناء. فالوجود وهو، في عقلنا وفي قلبنا، في مرتبة أعلى من أيّ شعور آخر، وحده كفيل بأن ينسينا الحقد بعضنا على بعض. إنّ إزالة الحقد تقتضي التفكير دائماً بتثبيت الوجود وصيانته. وإذ تجثم مسألة وجودنا في عقلنا وقلبنا ووجداننا، لا بدّ أن ترافقها رغبة صادقة بالسير الى الأمام. والعلم مفتاح تثبيت هذا الوجود. ثمّ إنّ إرادتنا في رفع شأن هذا الوطن تقتضي الإستفادة من العلم للعودة الى ما كنّا عليه، الى الجودة والإتقان عمليّاً وإجتماعيّاً ونفسيّاً. إنّ مثالنا في ذلك هي شعوب سبقتنا في تطبيق ما نقول: الشعب الألمانيّ استطاع بصراعه للبقاء وإرادته في الوجود بعد الحرب العالميّة الثانيّة، بعد أن تمّ تقسيمه وتقسيم بلاده شرّ تقسيم، أن يزيل كلّ الشوائب والإحباط واليأس ويغدو أكبر قوّة إقتصاديّة في أوروبا. الشعب البولندي لا يقلّ عنه بأساً. فيوم حاولت كلّ من ألمانيا النازية، ثمّ الإتّحاد السوفياتي على محو بلاده من خارطة أوروبا تمسّك بوجوده وأفشل المحاولتين. أمّا نحن فلم ينقصنا شيء في الماضي  ولن ينقصنا شيء الآن، سوى تلك الرغبة والإرادة في البقاء على عزّة وشموخ.

هل لنا أن نذكّر بالإرشاد الرسولي وقد جهّز لأجلنا؟! هل يذكره أحد من الذين تسلّموا المقدّرات؟

وبعد... كلّ هذه الثوابت – الركائز موجودة في كتاب الأستاذ كلوفيس شويفاتي، رصاصة الرحمة، وإن بين السطور. وقديماً قيل ويل لكاتب لا يرى أبعد من كلمته، وويل لقارئ لا يقرأ بين السطور. فبحقّ الجهد الذي بذل لإتمام هذا العمل المفيد لا بدّ لنا من  ملاقاة المضمون بالرغبة الصادقة في تغيير كلّ نهج غير سويّ لا يتعارض مع تاريخ طويل على هذه الأرض هو كلّ الهويّة.
الجدير ذكره أنّ للكاتب مؤلّفات أخرى بات من المهمّ الإطلاع على مضمونها. فالأمر يستحقّ والمستقبل بات أسرع من سنينه.

الاثنين، 30 يوليو 2018

هوية من تاريخ


هويّة من تاريخ


ما كان التاريخ يوماً تاريخ أرض جامدة بل، هو دوماً تاريخ الشعوب. فالناس هم الذين يرسمون مسيراتهم على دروب هذه الحياة، فيصنعون تاريخهم ويتناقلونه. ويرسّخون بذلك هويّتهم التي تشدّهم، بعضهم الى بعض، مجموعات تنمو وتبقى وتستمر. والحال يبدو لي أنّ سؤآلاً من مثل "ما هي هويّتك؟" يعني بالضرورة "ما هو تاريخك؟" والعكس صحيح. الإجابة على هذين السؤالين أتى بوضوح في كتاب علميّ تاريخيّ للباحث "فادي توفيق كيروز" بعنوان "هويّة من تاريخ". كتاب يبحث في تاريخ الشعب المسيحي في لبنان فيجلو هويّته ويثبتها خوفاً عليها من الضياع وعلى هذا الشعب من الإندثار وبالتالي الموت.



 الكتاب يستند على ما اتّفق على تسميته عالميّاً بالمدرسة الحديثة في التاريخ. قوامها متغيّرات عديدة قامت على تطوّر نظام المعلوماتيّة وبالتالي على سهولة تبادل المعلومات من جهة، وتطوّر التكنولوجيا بصورة عامّة وبالأخصّ: تحديد صبغة الحمض النووي، والتصوير الثلاثي الأبعاد، ودقّة استعمال الكربون الشعاعي ... الخ. ويستند الكتاب أيضاً على أرشيف المكتبات العالمية الكبرى ذات الصلة، وهي متعدّدة، وأهمّها مكتبة الفاتيكان التي فتحت لمراكز الأبحاث والتي تملك أرشيفاً ضخماً للمعلومات، كما أرشيف بعض المتاحف من مثل متحف برلين والقاهرة وإسطنبول. كما يستند أيضاً على جهد الباحث الشخصي في اكتشافات عديدة قام بها في وادي قنّوبين، في مغاوره وحتى صخوره الخارجيّة ودروبه الوعرة، دارساً المستندات التي وجدها والكتابات المحفورة والأواني القديمة والألبسة وحتى المومياءات التي بقيت على حالها تقريباً لأسباب مناخيّة مؤآتية. الكتاب إذاً هو، بوضوح، كتاب علميّ، ولأنّه كذلك، فلا يقبل مضمونه الشكّ به...
أهمّ ما في الكتاب هو تسلسله المنطقي في بحثه التاريخي الطويل الممتد منذ ما قبل التاريخ وحتى إعلان لبنان الكبير في بداية القرن المنصرم. إنّه للحق تاريخ شعب مسالم بالفطرة ولكنّه يستميت في الدفاع عن أرضه التي يعتبرها مقدّسة. فهو أوّل الشعوب التي استقرتّ في أرضها وأنشأت مدنها فغلبت صفة "كنعان" والتي تعني المستقرّ على هويّته. وهو للحقّ أيضاً، تاريخ شعب مبدع خلاّق ولكنّه فرديّ النزعة وليس مفطوراُ على العمل كجماعة. لقد اخترع الأبجديّة وأهداها للعالم، ووضع مبادئ علمَي الملاحة والتجارة وغيرها من الإبداعات الكثير، وهو استمات عبر القرون لكي يحافظ على حريّته التي من دونها لا يحلو له عيش. لقد استطاع الأجداد أن يصمدوا طيلة سبع مئة سنة تقريباً في أرضهم، بالرغم من كلّ المخاطر والحروب والحصارات التي طاولتهم، فصمدوا صموداً يكاد يكون أسطوريّاً عجزت عن تفسيره مراكز الأبحاث التاريخيّة في العالم. خاضوا معارك بطوليّة وتحمّلوا بصبر بطوليّ أيضاً كل حصار وظلم وانتقام. واستطاعوا بفكرٍ فذّ أن يستفيدوا من خبرتهم الحياتيّة هذه ليكملوا إبداعاتهم التي نجهد كي لا تكون قد انتهت، فأحدثوا نهضة فكريّة من حواليهم ما زالت كلّ المجموعات تنهل منها، وأبدعوا في مسألة حقوق الإنسان ليرسموا بذلك صورة العدالة لكلّ الأمم. كان ذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين تقريباً. ولكن ماذا فعلوا بعد ذلك؟ وما هو الحال الذي هم عليه الآن؟
عند إعلان لبنان الكبير كانوا يملكون من أراضي لبنان أضعاف ما يملكونه الآن، ذلك أنّهم كانوا يعرفون هويّتهم فيرفعونها عالياً ويتمسّكون بأرضهم. أجدادنا أورثونا وطناً جميلاً نظيفاً بعد ما حافظوا عليه بدمهم ودموعهم وعرقهم، فهلاّ سألنا أنفسنا أيّ وطن سنورثه لأولادنا؟ إنّ الخوف من ضياع هذه الهويّة، وبالتالي من ضياعنا جميعاً، هو سبب وجود هذا الكتاب. هل من المفيد أن نذكر إنّ "بولندا" تعرّضت لأقسى الإحتلالات في تاريخها، ولأبشع محاولات الإلغاء إن من النازيّين أو من السوفياتيين ولكنّهم، وبسبب تمسّكهم بهويّتهم، صمدوا بشكل أسطوري، ثمّ ساهموا مع البابا يوحنّا بولس الثاني في إسقاط الإتحاد السوفياتي الذي حاول إلغاءهم؟

قد يطرح شاكٍّ أو متذاكي، وأمثاله كثر بيننا في هذا الزمن البائس، انتقاداته من باب مسألة العنصريّة والطائفيّة وحتى المذهبيّة لينقض أهميّة الكتاب التاريخيّة ولغرض في نفسه لن نغوص فيه الآن. وذلك بسبب أنّ الكتاب يطرح تاريخ فئة واحدة في لبنان الذي يضمّ فئات أخرى غيرها. ويعتقد أنّه بذلك يستطيع طمس الحقيقة الى الأبد، ناسياً أم متناسياً أنّ الحقيقة ستظهر عاجلاً أم آجلاً، إذ هي صنو النور الذي متى حضر طرد العتمة من دون إذنها وحلّ مكانها. وللحقّ، إنّ الكتاب حدّد منذ البداية أنّه يُعنى بتاريخ المسيحيّين في لبنان وبشكل واضح، ولم يقل أبداً أنّه كتاب تاريخ كلّ طوائف لبنان. وعليه، إنّ تاريخ المسيحيّين هذا يستند الى مستندات لا تقبل الشكّ وهو هكذا بالضبط، أيّ كما جاء في الكتاب. فحبّذا لو يأتي من يكتب تاريخ الطوائف الأخرى بشكل علميّ دقيق كما تمّ الحديث عنه سابقاً، فيعرف كلٌّ منّا تاريخه ونتقارب على هذا الأساس، ونعلي من شأن هذا الوطن الذي نحبّ جميعاً. وهكذا إنّ أيّ انتقاد مستند الى مراجع علميّة سيكون حتماً مرحّباً به، أمّا كلّ انتقاد آخر، شعبويّ، عصبيّ، غرائزيّ، سخيف فلا يستحقّ حتى الردّ عليه.

  إنّ مسألة كتابة تاريخ موحّد للبنان لن تحلّ أبداً. فالكتاب المفترض هذا لن يرى النور حتى ولو صدر بالقوّة والقهر. فلا يمكن أن يصدر كتاب موحّد يساير كلّ الطوائف من دون أن يكون كتاباً كاذباً. ألم نجرّب الكذب في تعاطينا بأمور مختلفة؟ وعلى ماذا حصلنا؟ ألم نلبس أقنعة ليست بأقنعتنا وامتشقنا هويّة أو هويّات ليست بهويّتنا؟ فهل أستطعنا أن نتجنّب بذلك حروبنا الداخليّة والإضطرابات؟... فلنجرّب الصدق ولو لمرّة واحدة، فلنجرّب الحقيقة. ألا يستحق منّا هذا البلد أقلّه هذه التجربة؟