السبت، 3 يناير 2015

حول كتاب الموسيقى لجبران خليل جبران

 
 






حول كتاب الموسيقى



لجبران خليل جبران


"الموسيقى"، كتاب جبران خليل جبران الأوّل. صدر في العام 1905. وقد أصدره أمين الغريِّب في نيويورك على مطبعة جريدته المُهاجر في حزيران 1905، بعنوان "نبذة في فنّ الموسيقى". (نسخة هذا الكتاب موجودة حاليًّا في مكتبة معهد هارفرد، بوسطن.) الكتاب، وهو لا يتعدّى بضع صفحات، يبحث في تأثير الموسيقى في النفس البشريّة. هو إذاً لا يتناولها بحدّ ذاتها كفنّ مستقلّ، أو كعلم محدّد وأصول وتاريخ، بل يصف انعكاساتها على نفس من يسمعها بكلمات شعريّة، عاطفيّة، إنسانية راقية. والحال، فإنّ البحث في الموسيقى وفق هذه المعطيات سيتّخذ مع جبران منحى مختلف. سيدع الموسيقى تفعل في نفسه ونفوس الآخرين ما تفعله، ولن يكون تحديده لها إلاّ وفق ما تحدثه في القلوب وتثيره من مشاعر في النفوس.


تأثير الموسيقى في النفس البشرّية
الموسيقى هي أوّلاً، بحسب جبران كما ورد في كتابه المذكور، صوت النفس، وبالتالي لغتها. والنفس وهي غير مرئيّة، وغير صائتة، سترى في الجسد أداة تعبير عمّا يخالجها من مشاعر مختلفة. فمتغيّرات السمات والأسارير، ورسم الابتسامات بانفراج الشفتين أو رسم علامات الحزن بزمّهما، أو إصدار التنهّدات والآهات، أو غيرها من حركات الجسد، إنما هي تعابير لحالة النفس ولمشاعرها المتغيّرة على الدوام. 
إن أجمل صورة لفهم هذا التحديد هي صورة حبيبان يجلسان بالقرب من بعضهما البعض ويتحدّثان ليظهرا حبهما المتبادل. وهي الصورة التي رسمها جبران بكلمات عاطفيّة رائعة، في بداية كتابه. "جلست بقرب من أحبّتها نفسي أسمع حديثها...". حبيب يجلس بالقرب من حبيبته يصغي لكلامها. كلام لا بدّ سيرافقه تنهّدات وأصوات زفير ابتسامات، وستتقطّع الألفاظ حيناً لتعود فتلتقي حيناً آخر، وقد يختفي بعضها لتختبي بعض الكلمات بين الشفاه. عندها ستتحوّل العبارات إلى نغمات إذ سيغيب الفهم عن القول، وسينشغل القلب "عن جوهر حديثها بجواهر عواطفها المتجسّمة بموسيقى هي صوت النفس". ولن يعود الحبيب يسمع سوى نغمة الصوت التي تهزّ القلب وتظهر عواطف النفس الدفينة. الموسيقى هي هذه النغمة التي قد تعلو مع الآهات وتخبو مع البسيطات من التنهّدات والتي سيسمعها جيّداً الحبيب. وهي حديث النفس للنفس، وخفقان القلب للقلب، وتبادل ابتسامات الشوق من دون ألفاظٍ ولا عبارات. إن حديث الحبيب للحبيب لن يبقى منه سوى نغمات تسحر الذات لتنتشي وتطرب لها النفس فتثير الجسد.
والنفس أيضاً، وهي "زهرة ليّنة"، تهزّها نغمات الطبيعة: وشوة النسيمات لزهور الحقل، قطرات الندى المتساقطة، خرير "الجداول على الحصباء"، تنهيدة الأمواج على الشاطئ، صوت سقوط المطر على أوراق الشجر أو على بلّور نافذة... أو تغريدة عصفور تنادم "زهور الحقل... أم أغصان الشجر... أم الطبيعة بأسرها". وكلّها موسيقى تناجي النفس وتتحدّث معها، وإن لم تكن متأتّية من عزفٍ على آلة. سيشعر صاحب هذه النفس "أنّ قلبه يفقه ويفهم مفاد جميع هذه الأصوات فيهتزّ لها تارة بعوامل الطرب، ويتنهّد طوراً بفواعل الأسى والكآبة".
ستفعل الموسيقى إذاً في النفس ما سيهزّ أوتار العواطف، وستستحضر الذكريات، حزينة كانت أو مفرحة. فالنغم سيطبع سامعه بنوعه؛ فإما حزين، يعود بالنفس إلى ذكرى مآسيها وضعفها وسقطاتها، وإمّا مفرح فيفرح سامعه ويذكّره بالماضي السعيد. "فقد تخرج من عينيك دمعة محرقة أثارتها لوعة نأي حبيب... أو من بين شفتيك ابتسامة كانت والحقّ عنوان السعادة والرخاء". وقد يبتدع صاحب هذه النفس لحناً ونغمةً فرِحة ليظهر حالة نفسه السعيدة، أو لحناً مغايراً ونغمة حزينة ليظهر الأسى التي تشعر به.
أمّا أهمّ صفات الموسيقى فهي أنّها كما الحبّ، يعمّ تأثيرها الناس، كلّ الناس. فقد "ترنّم بها البرابرة في الصحراء، وهزّت أعطاف الملوك في الصروح. مزجتها الثكلى مع نوحها، فكانت ندباً يفتّت قلب الجماد. وبثّها الجذلان مع أفراحه فكانت إنشاداً يطرب مغلوب الأرزاء، فقد حاكت الشمس إذ أحيت بأشعّتها جميع زهور الحقل". وبهذا الأمر ستنضم الموسيقى إلى إثنين يوحّدان بين البشر: الحبّ والموت.

تأثير الموسيقى في نفوس الجماعة
ويشير جبران في كتابه الى حقيقة مفادها أنّ الموسيقى لا تفعل فعلها في نفس الفرد فقط بل، في نفوس الجماعة أيضاً. إن نظرة سريعة على منزلة الموسيقى عند الأمم الغابرة تؤكّد عظمتها عند البعض منها وقدسيّتها عند البعض الآخر. فهي عند الكلدانيّين والمصريّين القدماء إله عظيم مقتدر. وهي عند الفرس والهنود روح الله بين البشر.
أمّا عند اليونان والرومان فهي إله يدعى "أبولون"، يقف منتصباً، يحمل قيثارته، ينظر الى البعيد والى عمق الأشياء ويلاعب الأوتار بيمينه. وهكذا يبتدع رنّات هي صدى صوت الطبيعة. وإذ يأتي جبران على ذكر أسطورة "أور فيوس" الموسيقي الروماني يبيّن مدى تأثير موسيقاه على الحيوان والنبات والجماد. ويذكر ما تردّد عن أنّ "أور فيوس"، يوم توفّيت زوجته، أبكى بموسيقاه الطبيعة بنغمة لوعته، فساعدته الآلهة للقاء حببته في عالم الأرواح. "أور فيوس" هذا، ستقتله فيما بعد بنات الأحراج وسترمين برأسه وقيثارته الى البحر، وستصوغ الأمواج أصواتها ندباً وحزناً لتملأ الأثير. يدرك جبران أنّ ما أتى عليه من حكايات الأساطير هذه قد لا تكون سوى خرافات ولكن، "ما ضرّنا لو دعونا تلك الأقوال مبالغة شعرية مصدرها رقّة العواطف ومحبّة الجمال وهذا في عرف الشعراء الشعر".
ويتابع جبران في كتابه سيره والموسيقى عبر الأجيال ليتوقّف أمام رسوم الأشوريّين حيث تتقدّم الفرق الموسيقيّة مواكب ملوكهم. ثمّ ليتوقّف أمام مزامير داود وقد تحوّلت أناشيد صلاة، وأمام أصوات الأبواق في آخر الدهر تحملها ملائكة من السماء. ولكنّه بعودته تلك الى الغابر من الأزمان، ما أراد أن يقنعنا بصدق كلامه عن نظرة الأمم الى الموسيقى بقدر ما أراد أن يظهر أهميّتها في نفوس الشعوب في كلّ زمن. ما كان همّه تاريخ الأمم بمراجعه ومستنداته ووثائقه بل، كان همّه أن يظهر أهميّة الموسيقى في هذا التاريخ. عنده أنّ الموسيقى ترافق النفس البشريّة في كلّ مكان وزمان. تسير أمام الجند لتجدّد الشجاعة على الكفاح في ساحات القتال، ويشير بمرارة أن "كذا يستخدم ابن آدم أقدس ما في الكون لتعميم شرور الكون". هي رفيقة الراعي وعلى هديها تأمن الأغنام المرعى. وهي تخفّف التعب عن المسافرين منذ زمن القوافل وحتى اليوم. ... "ولا بدع، فالعقلاء في أيّامنا هذه يربّون الضواري بالألحان ويدجّنونها بأصوات عذبة".
أمّا في مراحل حياة المرء، فالموسيقى هي الشاهدة لمسرّته كما لحزنه. فعند الولادة هي أغاني فرح وأناشيد ابتهاج وحبور وتهليل وهتاف، وهي الدواء لبكاء الرضيع تناوله له أمّه بصوتها الموسيقي المملوء رقّة، وعند الزواج هي أهازيج فرح وأناشيد مسيرة الإنسان اللاتتوقّف. أمّا عند الموت، فهي ندب وآهات ونغمات حزن وكمد ولوعة.

تأثير النغمة الموسيقيّة الشرقيّة
وقبيل أن ينهي جبران كتابه يصف حال السامع لموسيقى المنشد المنغّم. فمعه تستفيق العواطف المكنونة، وتنتعش القلوب، وتصدر عن السامع كلمة آه. والكلمة على صغرها ما هي إلاّ اهتزاز النفس وقد عبّرت عنه بصوت عاطفة. "آه كلمة صغيرة ولكنّها حديث طويل". فالموسيقى، إذاً، كما الشعر والرسم وفنون أخرى، "تمثّل حالات الإنسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضّح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول في الخاطر وتصف أجمل مشتهيات الجسد". ويبدو أنّ جبران يستلذّ بسماع الموسيقى الشرقيّة، فيتمثّل نغمة "النها وند" بالنفس الحزينة بسبب فراق حبيب أو لوداع وطن. مثلها في ذلك كمثل شجرة في فصل الخريف، تتساقط أوراقها ولكنّها تتشبّث بالصبر والأمل. أمّا إذا ما انقطع الأمل وزال، كما في مثل موت الحبيب ورحيله عن محبّيه، فتغور الموسيقى حزناً كما في نغمة "الأصفهان". ولكنّ للموسيقى نغماتها الفرحة أيضاً، كما في مثل نغمة "الصبا"، المعبّرة عن شغف الفرحة بلقاء الحبيب أو بقطفة نجاح. كذلك في "الرصد" إذا ما تلقّت النفس رسالة من غائبٍ تحيي الأمل باللقاء.
وينهي جبران حديثه عن الموسيقى بصلاة إليها، هي التي وُجدت مع الوجود وما غابت عنه كبعضٍ من فنون أخرى. هي مرافقة للنفس البشريّة لتعلّم الإنسان أن يرى بسمعه وسمع قلبه. " تكاثري يا عواطف النفوس وتعاظمي يا مشاعر القلوب وارفعي أيادي ذوي الأيادي لبناء الهياكل لهذ الآلهة العظيمة ..."
**
  وبعد ... سيضع جبران نفسه، من خلال كتابه الأوّل هذا، في مصاف الأدباء الرومنسيّين. وسيقوم بعد ذلك بالتصدّي لمشكلات العالم الاجتماعية بكلمات ملؤها العاطفة والمشاعر الإنسانيّة الصادقة، لتنتشر كتبه في زوايا الأرض الأربعة.
في 3 كانون الثاني 2015  
د. طارق إميل شدياق.
 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق