الجمعة، 19 سبتمبر 2014

بعد موتك رسالة إليك ... (كتبت إثر موت السيّد هاني فحص)


( كتبت إثر موت السيّد هاني فحص)

بعد موتك، رسالة إليك...

كانت بداية معرفتي بك يوم سمعتك تتحدّث عن الفكرة اللبنانيّة، أنت الذي كنت مقرّباً من اليسار اللبناني، من كمال جنبلاط وجورج حاوي، والعضو في "فتح" ذلك الزمن، والحاصل على الجنسيّة الفلسطينيّة في هذا الزمن. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أدرك لماذا يطلقون عليك لقب "السيّد المشاكس". كان حديثك عنها يشبه نسائم الربيع تنساب على الوجوه الورديّة الممتدة من جبشيت في النبطيّة إلى بشري الرابضة على كتف الوادي المقدّس. حديثك عنها لم يكن يشبه أبداً حديث كبار، كانوا يغالون في شرحها. بل كنت الأبرع، والأهمّ. محبّتك للبنانك تجلّت يوم قلت: " لبنان بلا مسلمين سنة وشيعة ليس له دور وبلا مسيحيين لا طعم له". وأدركت أنّي أمام واحد من كبار المنظّرين للفكرة اللبنانيّة لا يجاريه في هذا التنظير أحد سوى اثنين جعلانا نؤمن بها حقًّاً: البابا يوحنّا بولس الثاني، وقبله الدكتور شارل مالك.

وعندما التقيت بك، كنت أودّ أن أسمع منك عنها المزيد ممّا سمعته. ولكنّك رغبت أن تحدّثني عن براءة "الضيعة" اللبنانيّة إنطلاقاً من ذكريات طفولتك في "جبشيت"، القرية التي لا بدّ تفتخر أنّها أنجبتك، يا سيّد الإعتدال. حديثك يومها عن "المونة" اللبنانيّة، وعن طريقة تحضيرها، كان أجمل كلام من إبنِ إلى أمّه. وسألتك لم لا تدوّن ما تقوله الآن في كتاب، لا بدّ سيكون هداية لجيل اليوم. وأذكر أنّك ابتسمت متأوّهاً. يومها قلت لي: "في عمر الشباب يأخذنا الحلم بالنصر، النصر على كلّ شيء. أمّا في هذا العمر، فندرك كم نحن صغاراً أمام ثبات "الضيعة"، وعظمة عاداتها وتقاليدها". هل تعلم أنّ يومها كان أهمّ ما حفر في قلبي هو حديثك عن طعم "اللبنة" التي كانت تحضّرها أمّك، والذي ما كان له مثيل على الإطلاق؟

هل سبق ورأيت وجهاً طافحاً بالنور يبكي؟ أمّا أنا فقد رأيته يوم رأيتك تبكي. كان ذلك، في تلك الأمسية الشعريّة، وكان الشاعر يلقي قصيدته عن الحوار الذي دار بين "شربل مخلوف" قدّيس لبنان وبين أمّه، والذي ما أراد رؤيتها. وعندما مسحت دموعك كنت تقول: "إنّ أمّهاتنا قدّيسات". اليوم أدرك تماماً خسارتنا لك، وخسارة لبناننا لك يا صاحب العمامة النبيلة. اليوم أدرك أصالتك اللبنانيّة، يا رجل الحوار، يا مشاكس، يا سيّد الثقافة.    

الأحد، 14 سبتمبر 2014

إفتتاح ثانويّة بشرّي

 
 
 


أيّها الحضور ...

نعم ... هي لجنة جبران، كما تمّ ذكره، التي وهبت هذه الأرض لبناء هذه الثانويّة. الأمر بدأ منذ أربعين سنة تقريباً، وفي بداية الحرب اللبنانيّة في العام 1975، وتحديداً زمن اللجنة التي ترأّسها المرحوم البروفسور إميل جعجع. لقد رأت لجنة جبران الوطنيّة آنذاك أهميّة أن يكون في بشرّي ليس فقط ثانويّة، بل أيضاً مدرسة مهنيّة، فاستقدمت الآلات والتجهيزات الضروريّة لذلك من عدّة دول في أوروبأ. وكان العزم أن تنشأ هذه المدرسة – المهنيّة - في العقار التابع لها حيث مؤسّسة الرؤية العالميّة اليوم. لكن مستوعبات هذه التجهيزات التي تمّ استيرادها، تمّ أيضاً سرقتها من مرفأ بيروت إبّان الحرب المشؤومة، وكان هذا الفعل بداية المعاناة التي ستطول حتى هذه الأيّام.
وحدث أن أقرّت حكومة ذلك الزمن، تحديداً في العام 74، مشروع تجمع المدارس، فسارعت لجنة جبران لتقديم الأرض هنا حيث ثانويّة اليوم، والأرض هناك للمهنيّة على أن تقام كلّ من المدرستين وفق مشروع تجمّع المدارس المذكور. لكن المشروع نفسه ألغي فيما بعد لتطول المعاناة أكثر فأكثر.
وبعد أكثر من عشرين سنة، وتحديداً في العام 1999، أبدت وزارة التربية رغبتها في بناء المدرستين شرط تقديم الأرض هبةً ليصار إلى البناء، فما كان من اللجنة في وقتها، وكانت برئاسة الأستاذ فؤاد حنّا الضاهر، وهي التي لُدغت من الجحر مرّتين، أن طلبت الإطّلاع على الخرائط الهندسيّة المعدّة للمشروع، وكان قدّ جهّزها لوزارة التربية المهندس "سيزار عرنوق". وبعد الإطّلاع والموافقة، تمّ مسح العقارين هنا، 2556 و 2557 بإسم وزارة التربية من ضمن بروتوكول لإقامة الثانويّة المطلوبة. وكان ذلك في حزيران من العام 2000.
وككلّ المشاريع في زمن الحرب، خطى هذا المشروع بسرعة فائقة نحو الأدراج ليقفل عليه. وكان يجب ان ننتظر العام 2005 حيث جرت أوّل انتخابات نيابيّة بعد انسحاب الجيش السوري، وكذلك العام 2009، ليقوم سعادة نائبي بشرّي بفتح الأدراج المقفلة ونفض الغبار عن مشاريع كثيرة وغربلتها من جديد ثمّ إدراجها في استراتيجيّة إنماء شاملة بدأت منذ العام 2005. والأمر لم يكن من دون عقبات، فقد تمّ إلغاء مشروع بناء المهنيّة، فسعى النائبان إلى تحويل المبلغ المرصود لها لإتمام بناء الثانويّة التي نفتتحها معاً اليوم.

أيّها الحضور ...

ما كان القصد من هذا السرد التاريخي المختصر جدّاً أن نبرز معاناة ما أو أن نظهر الشعور بالقلق الذي كان ينتاب الجميع، بل لنؤكّد على أمر أساسيّ ولنفتح نافذة مستقبليّة. أمّا الأمر الذي أودّ التأكيد عليه، فهو أن لجان جبران المتعاقبة وحتى اللحظة كانت دائماً أمينة لوصيّة جبران نفسه. لقد أراد أن يكون ريع حقوقه الأدبيّة والفنّية لإنماء مدينته للخير العام، فكنّا جميعاً وما زلنا ملتزمين تلك الوصيّة. الثانويّة هذه هي للنفع والخير العام. أكثر من ذلك، إنّ كلّ الهيئات الإداريّة للجان جبران الوطنيّة تصبح فور تشكّلها جبرانيّة الهوى والنزعة. وعليه لقد عملت بما قاله لها وللملايين، أن "عندما تريدون أن تعطوا، أعطوا من قلبكم ونفسكم وروحكم، أعطوا حتى الوجع". ونحن أعطينا من قلبنا ونفسنا وروحنا عشرة آلاف وواحد وسبعين متراً مربّعاً لبناء الثانويّة.
أمّا ما هو بشأن النفاذة المستقبليّة التي ذكرتها سابقاً، فإنّي أريد أن أؤكّد، أنّنا في لجنة جبران ندرك أن هذه الثانويّة، ككلّ الثانويّات في لبنان، هي دار تعليم. ولكنّنا في الوقت نفسه ندرك وبشدّة أنّها أيضاً دار تربية وطنيّة. وشتّان ما بين الكلمتين. البعض منّا يذكر ولا شكّ، أنّه في زمن الحرب - حرب ال 75 – سال حبر أقلام بغزارة وكُتبت مقالات ودراسات بكثرة تتحدّث عن لبنان الجديد. وكان الكلّ متّفقاً على أنّ تنشأة جيل جديد على المعرفة والثقافة والحضارة والقيم والأخلاق والوطنيّة أمر يكاد يكون الوحيد الذي سيمكّننا من دخول لبنان الجديد الذي كنّا نحلم به ولا نزال. بعد أربعين سنة، إذ ننظر إلى الحال الذي نحن فيه في وطننا، لن نرى أنفسنا إلاّ على انقسام شديد، وطائفية حمقاء ومذهبيّة عمياء، وعلى بغضٍ وكراهيّة لبعضنا البعض. بعد أربعين سنة، لم ننشئ جيلاً جديداً، ولم نحصل على لبنان جديد.
نحن ندرك أنّ هذه الثانويّة وثانويّات لبنان كلّها هي دور تعليم وندرك أيضاً أنّها دور تربية وطنيّة. ولو عدنا إلى ما قبل الحرب في العام 75، البعض منّا يعرف أنّ أسئلة عصر النهضة، تلك التي طرحها كبار روّادها والخاصّة بحقوق الإنسان، ما زالت مطروحة حتى الآن ومن دون إجابات. إنّي أحدّثكم الآن وأمامي تمتثل صورة جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وعبد المسيح حدّاد ونسيب عريضة ووليم كاتسفليس، وأيضاً صورة مارون عبّود وإيليّا أبو ماضي والياس أبو شبكة ورئيف خوري والشاعر القروي، وأيضاً صورة أحمد فارس الشدياق والشيخ العلايلي وأيضاً الإمام الأوزاعي، كما تمتثل أمامي صورة النهضويّ الأوّل المعلّم بطرس البستاي وكلّ البساتنة الذين لحقوه واليازجيّين وأوّلهما إبراهيم اليازجي، وأسأل أين أيجابتنا على الأسئلة التي طرحها هؤلاء القمم؟ أيننا من حقوق المرأة، ومن حقوق الطفل، ومن الحريّات عامّة: حرّية المعتقد والتعبير والإختلاف الفكري؟ أيننا من العدالة وسيادة القانون؟ أيننا من حقّ التعليم والإستشفاء وغيرها ...؟
هذه الأسئلة طرحت منذ منتصف القرن التاسع عشر، منذ أكثر من مئة وخمسين سنة. وقد دخلنا القرن الواحد والعشرين من دون الإجابة عليها. السبب، أنّنا عملنا على التعليم أكثر ممّا عملنا على التربية الوطنيّة.
ولكنّنا في لبنان، أيّها الحضور، قد تآخينا مع الأمل ومع الرجاء. الأمل بأن الأمور ستصطلح في يوم ما. وعلى هذا الأمل نستمرّ جميعاً في هذا الوطن العزيز. وإذ كان الأمل موجوداً فلا يسعنا اليوم إلاّ أن نهنّئ الجميع بهذه الثانويّة، بشرّي أوّلاً بإسم سعادة نائبيها الكرام، ووزارة التربية بشخص معالي الوزير، ومجلس الإنماء والإعمار بشخص رئيسه، كما إدارة الثانويّة وهيئتها التعليميّة. وأفرد شكراً خاصّاً لرفاقي في لجنة جبران الوطنيّة وأردّد معهم ما يجب ترداده في هذه المناسبة، أنّ: "أمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
شكراً.    

السبت، 6 سبتمبر 2014

تجربة أو حبّ.

 
أتساءل إذا ما كان من الضرورة لمن يستذكر سيرة حياته أن يتناول حبّه الأول، أو "تجربته" الأولى، وأن يغوص في تفاصيل دقيقة، ما كانت لتعني له شيئاً في ذلك الزمن، زمن بدايات المراهقة. ألبعض في محاولته هذه، يعطي الأحداث تفسيراً مفعماً بالعبر والدروس وكأنّه الحكيم الأعظم، ويضفي عليها بعضاً من السحر والغموض ليثير الإعجاب والدهشة. فالمغامرة صعبة، وهو - البطل - أنجزها تامّةً، بعد ما عانى كثيراً، ولقي من الصعوبات ما يهدّ الحيل ويقصم الظهر، " ويا لهذا الفتى !". وإنّي، وإن كنت لا أودّ أن يفهم إنّي أنفي أهمّية المغامرة الأولى، أو أخفّف من صعوبتها أو حتّى، أن أنكر تأثيرها على النفس فيما بعد، أودّ أن أشير الى قناعتي في هذا الموضوع، وخلاصتها أنّ الحبّ الأول ليس حبّاً. ليس حبّاً حقيقيّاً صافياً قد نلتقيه فيما بعد، وقد لا نلتقيه أبداً. ألحبّ الذي يصير فيه الإثنان جسداً واحداً حقّاً. هو بالضبط – الحبّ الأوّل - إظهار لرغبة جنسيّة، حديثة، جامحة، تكوّنت في الذات للمرّة الأولى، ولا بدّ أن تطفو. هي بحقّ تجربة أولى. وهي واجبة الحدوث حتّى يتمّ ما كتب على الإنسان أن يكونه. أمّا أن نغالي بالحبّ الأوّل، وببراءته وأنّه "ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل " ... أعتقد بأنّي أكوّر شفتيّ استهزاءً عند سماعي هذا اللّحن.


الجمعة، 5 سبتمبر 2014

مفاعيل صدفة.

 
كثيراً ما تضعنا الصدفة – أو ما نسمّيه بالصدفة – في مواقف حرجة، نتمنّى فيها لو أنّنا ما خلقنا ولا رأت عيوننا بشاعة هذه الدنيا وترّهاتها. وقليلاً ما نعي أنّنا نصنع الصدفة بأنفسنا. فالخطأ إذا ما كشف، والسرّ إذا ما أعلن، فبالصدفة. وننسى أنّ ما من خطأ إلاّ وسيكشف، والمكتوم إنّما هو معلوم مؤجّل، وأنّ الأسرار، مهما غرقت في الخفاء، لا غطاء لها إلاّ أوراق تين.
الأقلّ، أنّ بعضاً من هذه الصدف تغيّر مجرى حياتنا الى جهة نجهلها، الى حياة أخرى، نحن أبعد، أكاد أقول، حتى عن التفكير بها. في تلك المواقف الصعبة، القاسية، سيدرك واحدنا ماهيّة ما يتردّد على الألسنة عن العرق البارد المتصبّب من الأبدان، وكيف تكون قشعريرة الأجساد ورجفتها، الناتجة عن الخوف والغضب والفجأة، وعن الرغبة بالإنتقام. ونحار لو نستطيع الهرب. لكن الى أين؟ أو لو نستطيع النسيان، والصورة تقبع في أعماق رؤوسنا، جامدة، لا تهتزّ، تذكّرنا دوماً بأنّنا من النكرات، وأنّنا لا شيء أمام رغبات الآخرين وأحلامهم وطموحاتهم اللاتنتهي، وأمام الكذب والنفاق والإنتهازيّة من أجل المصالح الذاتيّة، الأنانيّة.


بارانويا الزمن الأوّل


بارانويا الزمن الأوّل



في الزمن الأوّل حيث الوعي على قدر المسؤوليّة، والمسؤوليّة على قدر السنّ الصغير لفحتني "بارانويا" العظمة. أجمل ما فيها كان الحلم. وفي الحلم كنت قادراً، عارفاً، مالكاً، أجذب الحسد نظرات من عيون الآخرين، المعجبين. وكنت أبسط يميني على رؤوس العاجزين، مخلوقاتي، وابتسم لأنّي إله صغير. أطير بين القمم وأهوي. كنت جبّاراً حتّى إنّي مشيت على القمر.
كان أكثر ما يزعجني ضحكات الآخرين من أمنياتي الكاذبة، وأحلامي الطفوليّة، كما يقولون. كانت ضحكاتهم- وهم الكبار- توقظني، تخرسني، تخجلني حتّى أنسحب لحلم جديد. ظالمون، قساة ولأنّهم كذلك كان الحلم أشهى، وكان أقرب، وكنت سيّداً عليه فأحببته. أحببته كثيراً ولم أحبّ الآخرين.
وهكذا عرفت الكذب، وكان يتعبني. فأمام كل كذبة يقف شاكّ سلاحه أسئلة تندلق، تثير الجنون. فأخاف على أكذوبتي وأهرب الى أخرى، الى شاكّ آخر، الى أسئلة جديدة، الى صراع آخر، الى تعبٍ وعرقٍ وحيرةٍ واحمرار. هدفي أن أكون مختلفاً، فوق، يرفع الآخرين رؤوسهم ليرونني، وأخفض رأسي لأراهم. لقد جرّعتني ال"بارانويا" من سائلها حتى الثمالة .
ألآن أعلم سبب خجلي من الكبار في ذلك الزمن. فهم كانوا يضحكون. فقط كانوا يضحكون. أذكر أنّه عندما علم ناظر المدرسة من الرفاق بإحدى أكاذيبي الفضائيّة و"كيف مشيت على القمر" ضحك، وضحكوا، ونظرت الى الأرض. أكثر ما يثقل على النفس، الخجل بعد افتضاخ الكذب.




الخميس، 4 سبتمبر 2014

يوم تعب منّي القلم!


يؤسفني أن خفُتت كتاباتي. والكتابة ككلّ عمل يقوى بالممارسة. الفكرُ أيضاً والإيمان، وأيضاً ... لغة العيون. ويؤسفني أنّ الأحلام كثرت حتى لم تعد تحصى. تراكمت بعجلة مياه الشتاء وقد تجمّعت في حُفر الدروب. ولأنّها باتت كذلك بقيت أحلام، خيال، سراب أو بضعة من طموح. وكم يزعجني أنّي أجلس الآن أمام ورقتي فقط لأتأسّف.
قد يكون أنّي تعبت من الكتابة، أو أنّ القلم تعب منّي.
تكتب لتكتب يقول، تكتب لك وحدك، ألم تسأم؟ تكتب وعظ النسّاك لذواتهم، ألم تشبع؟ لم نعد في عصر الأنبياء، وما أنت بنبيّ. كم أتوق لسماع آراء مختلفة فيما نكتبه معاً، قال قلمي.
قلمي! ... يعيش في هذا العصر.
في داخلي جذوة انطلاق شبابيّة. وفي خارجي مرارة واقع. أمّا الحواجز والإعاقات، ففي الداخل والخارج.
ماذا تفعل الآن؟ لما عدت إلى الكتابة؟ ...
هلا صمتّ أيّها القلم المرتعش؟ ألا تراني أمارس هوايتي؟ ... وما الخطأ في الأحلام؟ ... أليس فيها شيء من سعادة ...
هواية! أحلام! وزفرات قرف

الأحد، 24 أغسطس 2014

إفتتاح الحديقة العامّة في "مار جرجس" _ بشرّي





إفتتاح الحديقة العامّة في "مار جرجس - بشرّي".


أيّها الحضور

"سرّ إلى الأمام ولا تقف البتّة، فالأمام هو الكمال. سرّ ولا تخش أشواك السبيل، فهي لا تستبيح إلاّ الدماء الفاسدة. سرّ فالوقوف جبانة والنظر إلى مدينة الماضي جهالة".

على هديَ هذه الكلمات الجبرانيّة كانت حماستنا الكبرى في لجنة جبران يوم أقدمنا في لحظة مباركة مع مؤسّسة جبل الأرز على مشروع بناء هذه الحديقة. حماسةٌ مآلها أحلام ورديّة مفادها أن ملكاً لنا جامدٌ كما الصخر فيه، أبكمٌ كما عشبه اليابس، أصمّ ولا صمم رمل البوادي، سيصبح فسحة جماليّة، فرصة تعارف، حديقة لقاء، تعجّ بالطبيعة الخضراء. فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن. ثمّ أنّ في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة. والحال، كنّا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، لأنّ حماستنا كانت بركاناً ما نبتت على قمّته أعشاب التردّد. كنّا واثقين بأنّنا ومؤسّسة جبل الأرز نفي بما نعد، لأنّ قناعتينا هما في أنّ النهر يظلّ جادّاً نحو البحر إنكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر.

ها الحديقة إذاً في مكانها الصحيح. وسنرى فيها الأزهار والنباتات والأشجار لتظهر فيها جمال الطبيعة على يد الإنسان الذي يدرك أنّ الثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحيّة. سنرى إذاً تلك الزهرة التي لن تكتسب عطرها وحياتها إلاّ من تراب هذه الأرض، أرضكم. ولكنّنا أيضاً سنرى في هذه الحديقة بعين بصيرتنا لا في عيننا المجرّدة زهرةً مخفيّة هي المحبّة. فالمحبّة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت وتنمو بغير معاونة الفصول. ولأنّ هذه الزهرة ثابتة وموجودة في قلوبنا وقلوب مؤسّسة جبل الأرز كانت الحديقة وفي مكانها الصحيح.

ولا بدّ أن سعادة النوّاب وأعضاء المؤسّستين يذكرون ولا شكّ، أنّ لقاءاتِ طويلة واجتماعاتِ متلاحقة بنقاشات مختلفة كانت تعقدُ هناك في الصالة البيضاء في القلعة التي لم تسقط، لدرس كلّ التفاصيل والبتّ بشأنها: نوع الأشجار، المزروعات، الإضاءة، الدروب الداخليّة، مواعيد البدء بالعمل، الإستعانة بالخبراء، ثمّ رصد المال واستثماره في مكانه، هو الذي أتى من فاضل كبير "كارلوس سليم" على يد صديق كبير "الدكتور زياد حايك". وهما العالمان بأنّ المال كالحبّ يميت من يضنّ به ويحيي واهبه.

وإذ لست هنا لأدخل في كلّ هذه التفاصيل، تاركاً الأمر للمختصّين، العلميّين، المهندسين، التقنيّين الذين نفّذوا المشروع، أرغب فقط أن أؤكّد على ثابتة إيمانيّة فأشارككم بها. الثابتة هذه مفادها أن "ليس التقدّم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون". وفي هذا السير رؤى وطموح وتفاؤل أكيد. رؤى لأنّ الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمراً. وطموحٌ لأنّ العيش نزوع ومرام. وتفاؤل أكيد لأنّ المتشائم لا يرى من الحياة إلاّ ظلّها. الحديقة هذه ما تمّت إلاّ من ضمن هذه الثابتة الإيمانيّة. وكلّ كلمة خارج هذه الثابتة لن تكون بنّاءة. ونحن على أيّ حال لا نتوقّف عندها، ذلك أنّ المحدود من الناس مطبوع على حبّ المحدود من الحياة، وأنّه من الظلم أن نطلب الخمر من الحصرم.

أيّها الحضور، إذا تساءل أحدنا: هل هذه الحديقة هي آخر المشاريع عندنا، فالجواب على تساؤله إنّما هو عندكم. لن يتوقّف إنماء في بشرّي، لا عند مؤسّسة جبل الأرز ولا عند لجنة جبران، ولا عند أيّة لجنة أخرى أو مؤسّسة أخرى، ليس فقط لأنّ في الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والإندثار، وليس فقط لأنّ الموت قنوطٌ وسقام، بل لأنّ من يخمد نار نفسه بيده يكون كافراً بالسماء التي أوقدتها.

هنيئاً لنا إذاً هذه الحديقة، هنيئاً لبشرّي والقضاء. أمّا لكّل من ساهم في إنشائها، في مؤسّسة جبل الأرز وخارجها، وفي لجنة جبران الوطنيّة وخارجها، فأقول: إنّ أتعابكم أثمرت حقيقة واقعة ثابتة موجودة وممتدّة. وإن كنّا لا نستطيع مكافأتكم كما يجب، فثقوا بأنّ الأتعاب التي قد لا نكافأ عليها الآن ستحيا معنا وتذيع مجدنا.

23\8\2014
الد. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة.

الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

رسالة إلى العذراء مريم


رسالة إلى العذراء مريم

 

ما من سنة تمضي إلاّ ونتذكّرك في أكثر الأوقات، في أكثر أيّام سنتنا: في الحبل بلا دنس وأنتِ الطفلة البريئة، في تهنئتكِ بالميلاد وأنتِ الأم الصغيرة، في ذكرى بشارتكِ وأنتِ الخاضعة للمشيئة الإلهيّة بفرح ما بعده فرح، في شهركِ نوّار وأنتِ الأم والسلطانة على السماء وعلى الأرض، في زمن ورديّتكِ وأنتِ الوردة السرّية القادرة على طرد الشرّ، في انتقالكِ إلى السماء لترين وجه حبيبكِ بعد طول انتظار، في يوم مولدك لتغيّري وجه العالم وتثبتي إنسانيّته، وفي أيّام صعوباتنا ومحننا الكثيرة، وبؤسنا ويأسنا المتعاظمين. وفي تذكّرنا هذا بتِّ تعلمين كلّ مخاوفنا، وطلباتنا، وآلامنا. ومع هذا، ما زال ثقل جهالتنا يرون علينا، وبلادتنا على أفعالنا، ولامبالاتنا على تحرّكنا. وما زلنا أغبياء معرفة ومعاقي فكر ومشلولي عمل. لقد كرّسنا لبناننا لكِ وقعدنا ننتظر تماماً كما تنابل كلّ زمن. أكثرنا من صلواتنا لكِ وقلنا في سرّنا "ها الكرة في مرماها الآن". خاملون وندّعي التعب. جاهلون وندّعي الفكر. فرّيسيّون ونعجب كيف لا تحفظي لنا الجميل. ورغم ذلك أسألكِ سماع بعض من اعترافات خاطئ، جاهل، خاملٍ هو الآخر، ولكنّه في سرّه ما زال يرفض اليأس والقنوط والإندثار.

نحن قوم لا نستطيع إجبار نوّابنا على انتخاب رئيس، ونوّابنا صورة عن بلادتنا. نحن غنم نسير وراء تيسٍ ولا نجرؤ حتى أن نسأله إلى أين يأخذنا. ولا نستطيع في الوقت نفسه إلاّ أن نسند حكومتنا المشلولة حتى لا تنفرط، ففي انفراطها تثبيت للمزرعة التي نحن فيها. نحن قوم لا جلد لنا في إعطاء الحقوق لأصحابها، فنحن فقط نهتمّ بالشؤون الكبيرة: الأزمة السورية، داعش، الهلال الشيعي ... وكلّ ما عدا ذلك فتات لا يستحقّ منّا الإهتمام. وفي الوقت نفسه، لا نستطيع أن نقنع المطالبين بحقوقهم بعدم حرق الدواليب، إذ يكفينا تلوّث الجوّ والمياه والأدوية والغذاء، فضلاً عن العقول وخاصّةً الإعلام. إعلامنا ساقط لأنّ للخبر ألف لون ولون، وكلّ لون يدّعي الإمساك بالحقيقة. ونحن قوم لا نستطيع حتى أن نقنع رجال الأمن أن لا يسمحوا بقطع الطرقات، فأكثرنا إن لم يصل إلى عمله لا تصل اللقمة إلى فمه وفم عائلته. فاسدون نحن ونحمي الفاسدين الذين يتحكّمون فينا. ونحن لا نستطيع إلاّ أن ننتظر الفرج لو يأتي من أيّ مكان، هكذا ببلادة من يتعاطى المخدّر وبجمود وصمت مستغربين.

ثمّ ندّعي حب الوطن ولا نرى أنّنا، حتى في حبّ الوطن، مراؤون خبثاء. نحن قوم تأبى كرامتنا أن نأتي بالمياه من تركيّا، ونبتسم للوزراء الذين تولّوا شؤون مياهنا وأوصلونا إلى هذا الشحّ الغريب. ونرضى بكلّ هدرٍ في مسألة الكهرباء ونعجب لعنتريّات الوزراء الذين امتشقوا السيف لمحاربة طواحين الهواء. ولا نجد سوى حلول انحطاط العصور الوسطى لمشاكلنا المستجدّة، فنغدق إفادات تربويّة حتى نبتعد عن المشاكل، ونمتنع عن تصحيح مسابقات الإمتحانات لأنّنا آلهة. نقبل الذلّ في أبسط حقوقنا "ونتعنتر" فقط على نسائنا باللعنات والإهانات وحتى بالضرب الحيوانيّ.

ولأنّنا هكذا فنحن كافرون بحقّ أنفسنا، كافرون بحقّ إلهنا إذ كيف ندّعي أبوّته ونحن إلى هذا الحدّ جاحدون. فيا مريم، خذي بيدنا لكي نثور على جهالتنا أوّلاً، على أنفسنا الخامدة، وثبّتي أقدامنا حتى نغيّر وجه وطنٍ أردناه واحة حريّة وعدالة.

السبت، 9 أغسطس 2014

إنكشافات من النافذة العرساليّة.


إنكشافات من النافذة العرساليّة.



هل كان لا بدّ للوضع في عرسال أن ينفجر حتى نتحقّق جميعاً من الوضع الغير سليم الذي نعيشه جميعاً في لبنان؟ والجواب حتماً لا لو كنّا نريد علاج وضعنا الآخذ بالإهتراء والذي نعرفه جيّداً جميعاً، إلى أيّة طائفةٍ أو فئةٍ أو حزبٍّ أو تيّارٍ أو ... خاصّة إنّ كنّا "وسطيّين" – مع إعتقادي الجازم أنّ كلمة "وسطيّ باتت "مقرفة" إلى حدّ بعيد -. نحن فقط نرغب في الإنتظار، إنتظار الآتي الذي لم يأتِ بعد. ومع هذا فإنّ لانفجار الوضع العرسالي إنكشافات لا بدّ من الإضاءةِ إلى أهمّها علّنا نعتبر. (مع الإعتذار إذا ما بدت الصراحة هنا وقحة إلى حدٍّ ما).

 

1 – إنّ العطف الشعبي للجيش اللبناني، الذي أبدته كلّ الطوائف، هو أمرٌ ثابتٌ وطنيٌّ، وهو معطى أكيد. فعند الكلّ في قرارة النفس أنّ الجيش هو وحده ضمانة للجميع، وعليه لا يمكن التفريط به. إنّ التعبير عن هذا العطف خاصّة على صفحات شبكات التواصل الإجتماعي شاهدة على الإلتفاف حول الجيش عند كلّ الطوائف، وإنّ التحرّك السياسي لمعالجة الوضع الإرسالي وخاصّة عن طريق هيئة العلماء المسلمين تصب هي الأخرى في هذا المعطى الأكيد. العطف هذا ثابتة، من الثوابت المتعدّدة، عند الجميع وخاصّة عند المسيحيّين، كلّ المسيحيّين، هم المنقسمين وعلى طرفيّ نقيض، ويكتسب عندهم نكهة مختلفة. هم لا يؤيّدون الجيش لأنّهم يريدونه في صفّهم لتنفيذ غاية استرتيجيّة، أو مأربِ مرحلي أو آنيّ ما، كما قد يمكن لغيرهم أن يفكّر، ولا لكي يحمون أنفسهم أو أتباعهم من كارثة قد تصيبهم كما قد يمكن لآخرين أن يفكّروا أيضاً، بل لأنّه ضمانة للبنان الذي ابتدعوه منارةً للحرّية والعدالة في منطقة تخلو من الحرّية والعدالة. لكلّ آخر غيرهم عمق يمكن أن يلجأ إليه،  تماماً كما كان للفلسطينيّين عمق لجأوا إليه، أمّا هم فليس لهم إلاّ هذه الأرض الصغيرة. والحال يكون الجيش بالنسبة لهم، بالرغم من كلّ الإختلافات في السياسة وفي الستراتيجيّة والتكتيك، ضمانة للبنانهم. فالمسيحيّون الموزَّعون تأييداً (فقط تأييداً) في ما يسمّى الصراع "السنّي – الشيعي" لا يرون من ضمانة لوجودهم ووجود لبنانهم سوى في الجيش. هذا الإنكشاف الأوّل من الوضع العرسالي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار من السنّة ومن الشيعة على وجه التحديد، وعلى حدّ سواء، فلا يغرّهم تأييداً من مسيحيّين هنا أو من مسيحيّين هناك.

 

2 – إنّ الطائفة السنّية الكريمة، أو – لنستعمل الكلمة الأكثر شيوعاً في الإعلام في هذه الفترة – الشارع السنّي، بأغلبيّة موصوفة، يشعر أنّه مغبون ومستهدف، والدولة عن هذا الأمر غائبة حتى لا نقول أنّها  تغضّ الطرف عنه. الصراحة تقتضي أن نقول، أنّ هذا الشارع يعتبر أنّ الدولة تكيل بمكيالين وأنّه حتى الجيش لا ينظر إليه بالعين التي ينظر بها إلى الطرف الآخر. (الطرف الآخر هنا هو الطرف الشيعيّ تحديداً). قد لا يكون الأمر مبرّراً أو صحيحاً لأنّ الجميع يعرف مناقبيّة ووطنيّة الجيش ولكن، هذا الشعور موجود وهو معطى آخر أكيد. للتذكير، أنّ واحد من أسباب إنقسام اللبنانيّين في الحرب التي اندلعت في العام 1975 كان الشعور بالغبن عند فريق والشعور بالخوف عند آخر. والحال، إنّ معالجة هذا الإحساس القابع في القلوب والعقول بات بحاجة إلى علاج سريع عن طريق لمّ الشمل اللبناني، وضمّ الكلّ إلى الدولة، الأمر الذي لم يحدث حتى اللحظة ممّا يشكّل نقطة سوداء عند كلّ السياسيّين، خاصّة الزعماء،  والمفترض أن يكونوا رجال دولة.

 

3 – صحيح أنّ سياسة النأي بالنفس، وهو الشعار الذي رفعته الحكومة السابقة، لم يطبّق من الفريقين المتخاصمين، وتحديداً من السنّة والشيعة فيهما، ولكنّ نأي لبنان عن الصراع المرير الدائر حوله موجود وثابت، وهو أيضاً معطى أكيد حتى اللحظة. هناك توافق دوليّ وإقليمي لتحييد الداخل اللبناني عن هذا الصراع. فداعش والنصرة ما كانتا لتنسحبا من عرسال لولا هذا التوافق. لا بدّ أن أمراً من راعيهما، وقد يكون لهما أكثر من راعي، قد صدر لهما بالتراجع وتصحيح خطوتهما الناقصة أو الخاطئة أو المنزلقة (faux pas) في عرسال. وإذا كان "من يعطي يأمر" فإنّ أمره يجب أن يطاع. معطى أكيد ولكن حتى اللحظة، لأنّ لا أحد يستطيع أن يضمن ثباته، وأن يعرف متى يمكن أن يتغيّر. والتغيير قد يحدث فجأة وقد تفرضه الأحداث. وعليه، تجدر الإستفادة من هذا المعطى الآن، بتحصين الداخل اللبناني باتّحاد الجميع حوله. وهذا يعني تبديد مخاوف الشارع السنّي والشيعي على حدّ سواء. فالشارعين ما عادا يثقان بالدولة، الأوّل بسبب ضعفه (من إمتلاك السلاح)، والثاني بسبب قوّته المفرطة (بإمتلاك السلاح).

 

4 – كشف الوضع العرسالي ضعف الدولة اللبنانيّة في تحصين الذات الوطنيّة. فهي لا تفعل سوى الإنتظار. إنتظار أن يحدث شيء ما، أن تتغيّر الظروف، أن تتدخّل الأمم، أن يصدر القرار ... الخ. وقد يكون أبرز مظاهر هذا الضعف، وربّما من أسبابه المباشرة، هو الخلاف المسيحيّ – المسيحيّ، وهو أيضاً معطى أكيد لا يجب التغافل عنه. هذا الخلاف أفقد المسيحيّين المبادرة لأيجاد حلول لأزمة رئاسة الجمهوريّة، وبالتالي للأزمة العامّة في لبنان حيث لا تلاقي ولا تفاهمات. لقد أصبح حلّ أزمة رئاسة الجمهورية مطلباً وطنيّاً عامّاً، ذلك أنّ الكلّ يدرك أنّ المسيحيّين قادرين إن وعوا أن يخفّفوا من وطأة الصراع السنّي – الشيعي في المنطقة على الداخل اللبناني. هذا الخلاف أصبح مسخرة لأنّه خلاف عبثيّ. فالتسابق على الرئاسة يعمي العيون عن رؤية الحقيقة التي يعيشها الوطن، ويغلق العقول عن التفكير في مستقبله. وطالب الولاية يمسي أعمى البصيرة فينفّذ كلّ ما يطلب منه. إنّ التخلّي عن الأنانيّات، وملاقاة الآخر في منتصف الطريق أصبح ضروريّاً لبقاء لبنان، وهو ليس "جميلاً" يحسب لآحد، ولا منّة من أحد.
9\8\2014
 

الجمعة، 11 يوليو 2014

كلمتي حول كتاب "أمين والنبي" للدكتور توفيق بحمد.





 

" طوبى لمن كان مجلسه مجلس الأبرار، وفي ناموس الربّ مسرّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل. وكل ما يصنعه ينجح".
هذا ما كان شعورنا عليه، وهذه ما كانت نظرتنا إليه، يوم تلاقينا مع الدكتور توفيق بحمد لأوّل مرّة. وإذ غادرنا لم يتركنا، إذ ترك لنا ذاته، صورته، وجهه، إبتسامته، وبريق عينيه الوديع، وكلامه العذب، وسلامه الداخلي، وترك لنا أيضاً أمينه، وقد حصره في كتاب بهيّ، ليرافقنا حتى اللحظة. عن هذا الكتاب، سأختصر كلمتي هذه.
في لحظةٍ هي الفجأة بالذات، لا بل في هنيهةٍ هي كلّ الفجأة، يقف أحدنا بعد "محطّات في رحلة العمر" ليستذكر سنوات مضت، تمرّ أمام مخيّلته كشريطٍ سينمائيّ. ويتساءل  فيها عمّا كان معنى وجوده بحثاً عن ذاته ومعرفةً لحقيقته على الإطلاق واستعلاماً عن إنسان إنسانيّته. في تلك اللحظة، في تلك الهنيهة، سيجد نفسه أمام مفترق طرق: فإمّا أن ينبلج فجر ذاته عن طريق الحكمة والمكاشفة وحديث الروح، وإمّا أن يكون خارج هذا الإنبلاج، تاركاً حدوثه للحكمة الكونيّة الفاعلة. وفعل الإختيار أمام هذا المفترق مرتبطٌ حتماً بمحطّات رحلة العمر، لكنّه أيضاً نعمة تأتي من فوق تجعلنا ندرك ونعي أنّ الدرب واحد، لا درب سواه. درب كلّنا عليه سائرون. درب نحاول عبثاً أن نجد بديلاً عنه، لكن لا بديل. ومع علمنا بالأمر لا ننفكّ نبحث عن غيره. درب جامع ضامّ، وهو إذ يجمعنا يجمع تناقضاتنا والإختلافات، آراؤنا والخلافات، أحلامنا المبعثرة، ورؤآنا المتعدّدة. الدكتور "بحمد"، تماماً كما جبران، إختار المفترق الأوّل فتعرّف إلى أمينه فجراً لذاته، تماماً كما تعرّف جبران إلى نبيّه، مصطفاه، المختار الحبيب، والذي كان فجراً لذاته.
فهل لنا بعدُ أن نتساءل عمّن هو أمين الدكتور بحمد؟
هو ليس رفيقه، ذلك أنّ هذا "الأمين" لا يظهر إلاّ في تلك اللحظة، تلك الهنيهة وهي كلّ الفجأة. هو إذاً ليس صاحباً أو صديقاُ. وهو حتماً ليس كاتم أسرار، فأمينٌ هذا هو كلّ المكاشفة، كلّ الشفافيّة، كلّ الحقيقة. فكيف نحدّد أمينٌ هذا إذاً؟ إنّه الدكتور توفيق بحمد ذاته. توفيق الحقيقي وقد إزيلت عنه كلّ الحجب والأقمطة، فوقف عارياً كما الحياة، كما الحقيقة. تماماً كما هي رسوم جبران العارية هي الأخرى، والذي كان عندما يُسألُ عن السبب يقول، كما ورد في إحدى رسائله إلى "ماري هاسكل": " رسومي عارية لأنّ الحياة عارية والحقيقة عارية، وأنا لا أرسم إلاّ الحياة وإلاّ الحقيقة ...". أمين هو الدكتور "بحمد" بذاته. وهو أيضاً أمرٌ آخر، وسأصل إليه في سياق عجالتي هذه، متتبّعاً سير توفيق وأمين.
عندما لبّى أمين طلب توفيق بالإنتقال إلى أورفليس ليفتّشا عن المصطفى نبيّ جبران، كان يدرك أنّه لن يلاقيه هناك. ولكنّهما وجدا قارب نجاتهما: كتاب "النبي" لجبران. فامتطاياه ليدركا أنّ بهجتهما تقع على تردّد المحبّة، الذي لا يمكن أن تمسكه بيدك، ولكنّك تشعر أنّه أعلى وأقوى تردّد على الإطلاق. وأنّ العطاء ما هو بعطاء إلاّ إذا كان جزءاً من ذاتك. وأنّ معرفة النفس هي من معرفة الربّ، وذروة الألم هي الحبّ الملتهم لجسده، كحبّ سقراط لسمّه، والمسيح لصلبه، والحلاّج لصبره. وفي أورفليس نهلا من الحكمة من وجود الزمان، ومن الولوج لمعرفة العقل وهو قبسُ من روح الله، ولسعادة الحرّية يوم لا تكون مقيّدة لا برغبة ولا بطمع ولا بشهوة. وعندما توقّفا عند الموت أدركا انّه " كما تحلم الحبوب الهاجعة تحت الثلوج بالربيع، هكذا تحلم قلوبكم بربيعها ... بعد الموت".
سبعون سنة في أورفليس ما وجدا فيها المصطفى، فغادراها إلى شطآن أحلامهما، إلى شطآن لبنان. وفي أعلى قمّة فيه، حيث أرز الربّ، ومتحف جبران، وجداه – المصطفى – وتحدّثا معه، وقرّرا التفتيش عن الطريق، طريق الإنسان لسلوكها. أمّا المسيرة هذه فهي بعدّة من خمسة مبادئ: عقل منفتح يفتّش عن الحقيقة ولا يخاف منها، عبور إلى الذات، أيّ من الخارج إلى الداخل وهذا يعني إزالة الخوف كلّياً، محبّة كاملة مكتفية بذاتها، نقاء بلّوريّ المظهر لتصبح الذات كمرآة لا غبار عليها، ثمّ إثبات الذات بعدم الإختباء وراء أيّ شيء. "كن أنت، كنّ ذاتك، ولا أحد غيرك".
ماذا يفعل توفيق اليوم مع أمين؟
إنّه يتقمّص حاضراً. يتقمصّ وجسده بعد عليه. يتقمّص الآن، بوعي وإدراك ، وهو بعد حيّ. يلبس قميصاً جديداُ هي حلمه الخامس. أمين كتابه، والذي قلت فيما سبق، أنّه الدكتور توفيق بحمد نفسه، من دون حجب ولا أقمطة ولا قشور، هو هو قميصه الجديد. الدكتور "بحمد" يتقمّص بأمين حيث إنسان جديد، إرادة جديدة، محبّة جديدة، إيمانٌ جديد، وحيث يفتح كفّه "لمسمار المسيح" يدقّ فيها ليطهر من دنسٍ تبتلى "فيه أمّتي" من قديم الأزمان. للذين يتساءلون عن معنى كلامي هذا، فليتفكّروا في آخر كلماتٍ كتبها توفيق:
"التحدّي يا قوم هو مشكلتي ... وحالتي هي أمين ... وهو إنساني.

                                                           د. طارق شدياق
 
                                                             6\6\2014

الأحد، 11 مايو 2014

جبران ونعبمة في قلب لبنان



جبران ونعيمة في قلب لبنان

محاضرة ألقيت في القاعة الكبرى في كنيسة مار الياس – أنطلياس

بدعوة من مجلة "دزاغيك" الأدبيّة الثقافيّة.

مساء الأحد في 23 من آذار 2014.


أيّها الحضور الكريم.

أبدأ أوّلاً بشكركم جميعاً على حضوركم اليوم هذا اللقاء وفيه سنلج إلى الحبّ الكبير للبنان من قبل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ، مسقط رأسيهما، بشكل رئيسيّ، وحبّ لبنان وتعامله مع هذين الرائدين الكبيرين من روّاد النهضة اللبنانيّة، وبالتالي العربيّة، ومع ما أتوا به من إصلاحات إجتماعيّة ووطنيّة على أكثر من صعيد. فبإتّصالات واجتماعات متلاحقة مع الأستاذ هاغوب دنيايان، عن مجلّة "دزاغيك"، إتّفقنا أن يفترض العنوان، وهو الذي يحمل حبّاً طالما نحن نتكلّم عن القلب، السير بالإتجاهين المذكورين: مسألة حبّ هذان الكبيران للبنان ومسألة حبّ لبنان لهما.

وقبل ذلك، أودّ أن أشير إلى أنّنا أتينا بصورة عن سجّادة حائط من إرث جبران كانت معلّقة على حائط  في محترفه في نيويورك، هي إذاً من ممتلكاتنا نحن في لجنة جبران الوطنيّة، رسمها فنّان أرمني الأصل يدعى "الأب يعقوب" منذ أكثر من أربعمائة سنة، وقد حصل عليها جبران من متجر في نيويورك نفسها. إنّ هذه الصورة تجسّد المسيح المصلوب كما لم يرسمه أحد من قبل. فلنلاحظ، أنّ عينا يسوع مفتّحتان دلالة على وعي المصلوب لما يدور حوله، وأنّ كفّ يد يسوع اليسرى، تقبض على المسمار المغروز فيها دلالة أنّه هو الذي اختار هذا المصير، وإنّ الكأس المرّ هو الذي ارتضى أن يشربه، وأنّ كف يده اليمنى وفيها السبابة والوسطى مفتوحتان ليبارك بهم البشر ويدعوهما إلى الخلاص. ولنلاحظ أيضاً أنّ لا دماء في الرسم أبداً، لا على اليدين أو الرأس أو القدمين دلالة على أنّ يسوع لم يجبر على الصلب بل أتى إليه باختياره. هذه الطريقة في رسم المصلوب نادرة، وحيدة على ما يبدو في العالم، تأخذ من الإتّجاه الفنّي للأيقونات الشيء الكثير، ومن دقّة حياكة سجّادات الحائط، إبداعها الفريد من نوعه. لقد أحببنا في لجنة جبران أن نريكم هذه الصورة، هذه السجّادة النادرة، علّنا بها ننفي ما يمكن أن يدّعيه أيّ كان من أنّ جبران كان ملحداً.

ونعود إلى لقائنا ...

ونسأل ما هو هذا اللبنان الذي أحبّه حتى الوله كلّ من جبران ونعيمة؟ 

- هو أوّلاً، لبنان مسقط الرأس، وبالتالي هو الحنين إلى المنهل الأوّل، إلى المكتسبات الأولى، إلى الصورة الأولى من هذا العالم التي تنطبع في الذهن منذ عهد الطفولة، والتي تطبع العالم بها. فلا يعود واحدنا قادرٌ أن يستوعب صورة العالم الأولى من دون صورة مسقط رأسه الأولى، ومن دون هذا الحنين. هي ذكرى البيت الأوّل، والرفاق الأوّلون، والمدرسة والتراث الضيعوي، والأهل والأقارب، والمدرسة الأولى والمعلّمون الأوّلون ... إلخ ...

 كتب جبران في هذا الصدد في العام 1908 لصديقه أمين غريّب المسافر من أميركا إلى لبنان، محملاً رسالته مطلباً نابعاً من القلب:

"... أُذكرني يا أمين عندما ترى الشمس طالعة من وراء صنين أو من وراء فم الميزاب، واذكرني عندما ترى الشمس جانحة نحو الغروب وقد وشحت الطلول والأودية بنقاب أحمر كأنها تذرف لفراق لبنان الدماء بدلاً من الدموع، واذكرني عندما ترى رعاة المواشي جالسين في ظلال الأشجار ينفخون بشبّاباتهم ويملأون البرية الهادئة بالأنغام مثلما فعل أبولون عندما نفته الآلهة إلى هذا العالم، واذكرني عندما ترى الصبايا الحاملات على أكتافهن آنية الماء، واذكرني عندما ترى القروي اللبناني يفلح الارض أمام عين الشمس وقد كلّلت قطرات العرق جبينه وألوت المتاعب ظهره، واذكرني عندما تسمع الأغاني والأناشيد التي سكبتها الطبيعة في قلوب اللبنانيين، تلك الأغاني المنسوجة من خيوط أشعة القمر، الممزوجة برائحة الوادي، المنسوجة مع نسيمات الأرز، واذكرني عندما يدعوك الناس إلى الحفلات الأدبية والاجتماعية لأن ذكري عندئذٍ يعيد إلى نفسك رسوم محبتي لك، وشوقي إليك يجعل لكلامك معاني مزدوجة ولخطاباتك تأثيرات روحية. المحبة والشوق يا أمين بداية ونهاية أعمالنا".

وكتب نعيمة مقالة رائعة معبّرة عن هذا الحنين بعنوان لبنان يقول:

 " ... لأني , وقد طوّفت بعيداً في بلاد الله، ما عرفت بقعة توافرت في تكوينها وفي مركزها من الأرض مظاهر الحسن والروعة والجلال مثلها في لبنان. ناهيك بالفصول تتعاقب فيه بأقصى الدقة ومنتهى النظام والاعتدال. فلا الشتاء يجور على الربيع، ولا الربيع يطمع في الصيف، ولا الصيف يأخذ من حصة الخريف، ولا الخريف يعتدي على ما قسم للشتاء. وإنها لمتعة لا تملّها العين، ولا ترتوي منها الأذن، ولا يشبع منها الخيال أن ترقب قوافل الفصول تدرج من شاطىء البحر في لبنان الى القمم، ومن القمم الى شاطىء البحر، وقد قطرت أوائل هذه بأواخر تلك، فراحت كلّ قافلة تنثر في طريقها ممّا احتوته أعدالها : فهذه تنثر أزهاراً وأنواراً، وأغاريد أطيار، وهدير شلالات، ووشوشات نسمات. وتلك بقولاً وحبوباً وثماراً، ونهارات محمومة بالعمل، مغسولة بالعرق، وليالي تتغامز كواكبها في غمرة من الأنس والسلام. وهاتيك تنثر بروقاً ورعوداً وعواصف وفلذات تصعد من البحر مع الريح فتنثرها الريح على الجبال واذا بها وشاح فائق البياض والسناء. 

وقال جبران في مكان آخر: "بشريّ موطن قلبي". كلمات لا تخرج إلاّ عن الشوق والحنين إلى أيّام خلت.

وقال نعيمة عن الشخروب، المكان الأحبّ عنده: "فالشخروب كان، وما برح «الجرد» الذي إليه نلجأ في الصيف لنستغل من ترابه ومائه وهوائه ما استطعنا من العافية وضروريات العيش. وقد شاء لي ربّان حياتي ان استغل منه (الشخروب) ما هو أثمن حتى من العافية ومقومات العيش". (من كتاب "سبعون – الجزء الأول") 

- ثانياً، حبّ لبنان تجلّى عندهما بالفخر أنّهما ينتميان إليه. لبنان إذاً هو الإفتخار به.

كتب جبران في 25/4/1926 في مجلة "العالم السوري" لسلُّوم مكرزل (وكان جبران ينشر فيها جديده بالإنكليزية) موجهاً كلامه إلى رفاقه اللبنانيين والعرب في أميركا:

"أن تكون مواطناً صالحاً، يعني أن تقف أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرنسيسكو قائلاً في قلبك: "أنا سليلُ شعب بنى بيبلوس وصور وصيدا، وها أنا الآن هنا لأبني معكم"  

ومن مقال " قالوا استقلّ لبنان" لميخائيل نعيمة:

فأنت، على صغرك وضعفك بين الأمم، أتيت معجزةً ما أتتْها أكبر الأمم وأقواها، منذ بدء التاريخ حتى اليوم: فلا مصر رعمسيس، ولا بابل نبوخذنصَّر، ولا آشور شلمنصر، ولا مقدونية ذي القرنين، ولا رومة قيصر، ولا السند ولا الهند، ولا العجم ولا العرب، ولا أي دولة من دول الزمان الأخير، تمكنتْ من أن تقبض يومًا على مفتاح ذلك الكنز الذي لا يُثمَّن – كنز الاستقلال.  

- وتجلّى حبّ لبنان، ثالثاً، عندهما باعتباره أرضاً مقدّسة:

نقرأ من ميخائيل نعيمة: فموسى الكليم اذ يضرع الى ربّه أن يريه أرض الميعاد لا ينسى لبنان : " دعني أجوز فأرى الأرض الصالحة التي في عبر الأردن وهذا الجبل الحسن - لبنان " واللّه المتكلّم بلسان النبيّ هوشع لا يجد ما يمثل به وعوده الطيبة لاسرائيل أفضل من لبنان اذ يقول :

"وأكون لشعبي كالندى فيزهر كالسوسن ويمدّ عروقه كلبنان. وتنتشر فروعه ويكون بهاؤه كالزيتون رائحته كلبنان فيرجع الساكنون في ظلّه ويحيون بالحنطة ويزهرون كالكرم ويكون ذكره كخمر لبنان".

وداود الملك يشبه الصديق بأرز لبنان، وعندما يتنبّأ لشعبه عن الخير الذي سيغدقه عليه اللّه يقول ان " غلته في رؤوس الجبال تتموّج كلبنان".

وأما سليمان الحكيم فيدعو اليه حبيبته شولميت من لبنان : " هلمي معي من لبنان أيتها العروس " وشولميت تقول في حبيبها : "ساقاه عمودا رخام موضوعان على قاعدتين من ابريز. وطلعته كلبنان. هو مختار كالأرز." 

في أكثر من رسالة يقول جبران لماري هاسكل بأنّه يحلم في نومه بيسوع، ولكنّه لا يتراءى له يسوع إلاّ في لبنان.

ويقول جبران عن يسوع:

"مرّة كلّ مائة سنة يلتقي يسوع الناصري بيسوع النصارى، في حديقة بين جبال لبنان، فيتحادثان طويلاً، وفي كلّ مرّة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: أخشى يا صاحبي أنّنا لن نتّفق أبداً أبداً" من كتابه رمل وزبد. 

- وتجلّى حبّ لبنان عندهما أيضاً بالإهتمام بالشأن الإجتماعي والوطني وإيجاد الحلول لمشاكل أساسيّة في المجتمع، وذلك دليل على حبّهما لشعب لبنان:

انطلاقاً من هاتين الشمولية والكونية، وقف يوماً ميشال حلبوتي، أحد المسؤولين في "مؤسسة جبران الأميركية" في هيوستن تكساس يقول خلال العمل على إعداد حديقة جبران:

"ولِد جبران في ظلال أرز لبنان، ولم يُبدِ أحدٌ قبله أو مثله هذه المقاربة من الحياة ومعانيها. كان يمثّل روح لبنان، وكتاباته بلغَت أعمق ما في القلب من معان روحية وعاطفية. أحَب لبنان في جموح لم يعادله إلاّ حبُّه شعبَ لبنان". 

لقد كتب جبران مئات المقالات التي تدعو اللبنانيّين إلى عيش رسالة لبنان الحضاريّة. ولكنّه أدرك بعد حين أنّ كلماته ذهبت في مهبّ الريح. فانتفض في مقال وجّهه "إلى بني أمّي" يعلن أنّه بات يكرههم بسبب خمولهم ورقادهم وتقاعسهم عن السير بركب المسيرة الإنسانيّة.

" أنا أكرهكم يا بني أمّي لأنّكم تكرهون المجد والعظمة. أنا أحتقركم لأنّكم تحتقرون نفوسكم. أنا عدوّكم لأنّكم أعداء الآلهة ولكنّكم لا تعلمون".

وكتب ميخائيل نعيمة تحت عنوان "قالوا استقلّ لبنان":

"فأنتَ (لبنان) ما وسَمَتْك الطبيعةُ بميسم الجمال لتجعل منك بوقًا للشناعة. ولا وضعتْك من الأرض موضع القلب لتعود فتضعك منها موضع العقب. ولا كوَّنتْك حصينًا لتجعلك معملاً للسلاح، ومعقلاً للحرب، وخمَّارة للخلاعة، ومنوالاً تُحاك عليه شِباكُ السياسات. ولا رفعتْك عاليًا لتعفِّر جبينَك بحمأة الضغائن والفتن. ولا غسلتْ أقدامَك بماء الطهر، وكحَّلتْ أجفانَك بمرود النور، وبرَّدتْ قلبَك بندى السلام، لتعود فتغرقك في بحار من الدم!

ولم يعش جبران بعيداً بحسه وفكره عن بني قومه، بل إن العبودية التي يرسف في أغلالها وطنه، كانت تمزّق وجدانه، والثورة على الظلم والضعف والتخلّف، تجعله يصرخ بأعلى صوته منادياً الحرية. أوجاع بلاده القديمة، ظلت تلاحقه فإذا به مع أيوب تابت وشكري غانم يؤسسان نواة حزب كانت شاغله السياسي لاحقاً خصوصاً بين 1912 و1920. لقد أثّرت الحرب العالمية الأولى مع ما رافقها من أهوال في جبران تأثيراً كبيراً، مما دفعه الى انتهاز كل الفرص والمناسبات لمساعدة أبناء قومه بجميع الوسائل، في هذه الفترة كتب مقالة "مات أهلي"، وفي سنة 1917 شغل منصب أمين سر "لجنة إغاثة المنكوبين في سوريا ولبنان، وراسل أبناء وطنه المقيمين في أميركا وباريس محاولاً إقناعهم بالسعي لتحقيق استقلالهم عن طريق الثورة. لكن جبران لم يخلق ليكون سياسياً، فانقطع عن العمل السياسي منصرفاً الى الأدب والرسم، وأسس في بيته "الرابطة القلمية"، وانتخب عميداً لها سنة 1920، سنة بدء اضطراباته الصحية بالظهور.

تفاعل جبران مع قضايا عصره، وكان من أهمها التبعية العربية للدولة العثمانية والتي حاربها في كتبه ورسائله. وبالنظر إلى خلفيته المسيحية، فقد حرص جبران على توضيح موقفه بكونه ليس ضِدًا للإسلام الذي يحترمه ويتمنى عودة مجده، بل هو ضد تسييس الدين سواء الإسلامي أو المسيحي.

بهذا الصدد كتب جبران في مقال وصفه بأنه رسالة "إلى المسلمين من شاعر مسيحي":

" أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني، ولي فخر بذلك أيضاً..   فنقلوا عنه: «هو فتى جحود يكره الدولة العثمانية ويرجو اضمحلالها». وكأنّه يردّ: "إي والله لقد صدقوا، فأنا أكره الدولة العثمانية لأني أحب العثمانيين، أنا أكره الدولة العثمانية لأني أحترق غيرة على الأمم الهاجعة في ظل العلم العثماني. أنا أكره الدولة العثمانية لأني أحب الإسلام وعظمة الإسلام ولي رجاء برجوع مجد الإسلام.

أنا لا أحب العلّة، ولكنني أحب الجسد المعتلّ، أنا أكره الشلل ولكنني أحب الأعضاء المصابة به. أنا أجلُّ القرآن ولكنني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للحكم برقاب المسيحيين".

"خذوها يا مسلمون، كلمة من مسيحي أسكن «يسوع» في شطر من حشاشته، و«محمداً» في الشطر الآخر. إن لم يتغلب الإسلام على الدولة العثمانية، فسوف تتغلب امم الافرنج على الإسلام. إن لم يقم فيكم من ينصر الإسلام على عدوه الداخلي، فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء".

لقد كانت له ما يشبه الرؤية النبويّة في هذا الصدد. وسيقول لحبيبته "ماري هاسكل" فيما بعد، في رسالة موجّهة إليه في العام 1916 ما معناه:

" إن شعبي، شعب جبل لبنان، يموت بمجاعة خطّطت لها الحكومة التركيّة. مات حتى الآن ثمانون ألف نسمة ويموت كلّ يوم الآلاف منهم. إنّ الحكومة التركيّة تخطّط لهذا القتل الجماعي كما فعلت في مجزرة الأرمن". 

كان كلّ العالم يعرف بالمجزرة الأرمنيّة ولكنّه كان صامتاً. لأنّ العالم مبنيّ على المصالح للأسف. 

هكذا أحبّ هؤلاء وطنهم، فكيف تعامل الوطن معهما.

---

في محاولة منّا لإيفاء هذه المسألة حقّها، لنتعرّف على الفكر النهضوي أوّلاً ولو بكلمات قليلة:

1 – في مكانة الأديبين الأدبيّة ومكانة جبران العالميّة.

هي المكانة عينها التي لروّاد عصر النهضة جميعاً. عملوا على تشذيب اللغة العربيّة من ناحية حتى يتجانس الفكر والكتابة، وثاروا على الظلم الإجتماعي من ناحية فدعا إلى تثبيت حقوق الناس بعد أن بيّنا أهميّتها في عمليّة الترقّي الإنساني. طالبوا بحقوق المرأة، وكافّة الحقوق المدنيّة من حرّية على تعدّد أشكالها وتعليم وإستشفاء، و بكلّ ما يعرف اليوم بشرعة حقوق الإنسان.

بالنسبة لجبران، فمعروف أنّ شهرته تعدّت لبنان والعالم العربي لتطال أكثر بقاع الأرض. فما زال جبران الأوّل من حيث مبيع كتبه، وخاصّة النبي، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، فكتاب النبي يحتلّ ومنذ سنوات طويلة المرتبة الثانية من حيث مبيع الكتب بعد الكتاب المقدّس. وما زال جبران يتفوّق من حيث المبيع على منافسين شرسين إثنين في العالم هما: شكسبير ولاوتسو.

وعليه، لا مبالغة إذا قلنا أنّ العالم كلّه حمل جبران في قلبه منذ ما قبل وفاته وحتى الآن.

فهل كان جبران، ونعيمة، وكلّ روّاد النهضة في قلب لبنان؟ 

– على مستوى لبنان الشعبي.

لا شكّ في أنّ اللبنانيّين يفتخرون بجبران وروّاد النهضة. هم يعرفونهم ويشيرون إليهم في كلماتهم باستشهادات كثيرة من أقوالهم. فبمجرّد السؤال لعموم الناس عن جبران أو عن نعيمة أو عن آخرين من روّاد النهضة، سنجد أنّ الأكثريّة تودّ لو تتشبّه بهم وتفتخر بكونهم لبنانيّين. لكن، السؤال عن الفكر الذي قدّموه، أو البحث الإجتماعي الذي قاموا به، يبقى وعند الأكثريّة مجهول الإجابة أو في حدّه الأقصى غير واضح كلّ الوضوح. وللأمر سبب ولا شكّ، وهو سنأتي على ذكره لاحقاً. ولكن قبل، لنتعرّف ولو بإيجاز على مضمون الفكر الفلسفي عند جبران، فنعرف بذلك مضمون الفكر النهضوي عامّة، لنعيمة وآخرين. 

2 – في فكر جبران الفلسفي

الفكرة الجبرانيّة التي دعا إليها هذا النابغة ما زالت حيّة في العالم. وهي تقوم بإيجاز شديد على: المحبّة الإنسانيّة التي مجّدها جبران في كتابه "النبي"، والسلام العالمي، والإخاء بين البشر. وهي ثلاثة أقانيم تتّحد في مسيرة إنسانيّة واحدة على درب إنسانيّة واحدة متّجهة حكماً صوب النور.

يقول جبران (من كتاب دمعة وابتسامة): "أنت أخي، وأنا أحبّك، فلماذا إذاً تخاصمني؟" ... ويتابع: "أنت أخي وأنا أحبّك ساجداً في جامعك، وخاشعاً في هيكلك، وراكعاً في كنيستك ... وأنت وأنا أبناء روح واحدة، أبناء إله واحد".

هذه باختصار فلسفة جبران الإنسانيّة. بالطبع إنّ الغوص في فكر جبران يتطلّب الكثير من التعمّق والتأمّل والتفكّر به، وهو خارج أمسيتنا اليوم نظراً لما سيستهلك من وقت لإتمام شرحه. ولكنّي اختصرته في إطار عام يفيد المناسبة. ندرك إذاً أنّنا بأمسّ الحاجة إليها (فلسفة جبران وأقواله) اليوم، نحن في لبنان.  

3 - في الحاجة إلى جبران وروّاد عصر النهضة في أيّامنا هذه. (السياسة التربوية والثقافيّة).

هدف مؤتمر ماريلاند الذي أقيم في جامعة ماريلاند في الولايات المتّحدة الأميريكيّة كان إيجاد حلول من جبران لكلّ مشاكل العالم. (كلمة عن المؤتمر وأبحاثه المقدّمة من 35 دولة). فأليس بالحريّ بنا أن نفتّش عن حلول لمشاكلنا في هذا الوطن عن طريق جبران ونعيمة وروّاد النهضة اللبنانيّة العربيّة؟ ... ولكن الذي حصل هو أنّنا انتزعنا من المنهج التربويّ كلّ جبران والنهضويّين، مكتفين بقطعة أدبيّة شعريّة، عادة تكون قسماً من مقالة لكم لبنانكم ولي لبناني.

هذا على المستوى التربوي، أمّا على المستوى الثقافي فالأمر يماثل ما فعلناه على المستوى التربويّ. فلا دعم للمتاحف الخاصّة بهؤلاء في وقت نستطيع المفاخرة بهم واستحداث متاحف لأكثر من إسم نهضويّ لخلق سياحة ثقافيّة إنسانيّة في لبنان. ( يمكن، بالإضافة إلى متحف حبران القائم في بشرّي، استحداث متاحف للكثير من روّاد النهضة، أقلّه لهؤلاء: شارل مالك في بطرّام، مارون عبّود في عين كفاع، أمين الريحاني في الفريكة، إبراهيم اليازجي في بيروت، أحمد فارس الشدياق في حدث بيروت، المعلّم بطرس البستاني في الشوف .... الخ...). أمّا أن تربط هذه المتاحف في استرتيجيّة ثقافيّة واحدة وخلق سياحة ثقافيّة تدور حولها لا يجب أن يبقى من الأحلام.   

4 – الحاجة لجبران وآخرين في السياسة الإجتماعيّة.

كان الشأن الإجتماعي الهدف الأوّل لثورة جبران على الظلم في وقته. فدعا إلى حقوق المرأة، ( وهو أوّل من جعل المرأة تصف هواجسها بنفسها، إذ كان الرجال يتكلّمون بإسمها قبله)، والحرّية، وقبول الآخر المختلف، وحرّية إبداء الرأي، وحرّية المعتقد ... والكثير من الحقوق التي تجسّدت فيما سيعرف بعد ذلك بشرعة حقوق الإنسان.

إذاً إنّ أيّ عمل إجتماعي مفيد من الذي ذكرناه سيكون حتماً تكريماً لجبران وروّاد عصر النهضة. 

5 – في دور الجمعيّات الأهليّة.

هذا لا يعني انّ الأمور سوداويّة إلى هذا الحدّ. فبفضل الجمعيّات المدنيّة الثقافيّة والإجتماعيّة يتمّ التعرّف على جبران وعلى ما دعا إليه. والحال، فنحن لا يسعنا إلاّ أن نشكر القيّمين على مجلّة "دزاغيك" الأدبيّة لمبادرتها الثقافية بإحياء هذه الأمسية.

---

شكراً

في 23 آذار 2014