الأحد، 24 أغسطس 2014

إفتتاح الحديقة العامّة في "مار جرجس" _ بشرّي





إفتتاح الحديقة العامّة في "مار جرجس - بشرّي".


أيّها الحضور

"سرّ إلى الأمام ولا تقف البتّة، فالأمام هو الكمال. سرّ ولا تخش أشواك السبيل، فهي لا تستبيح إلاّ الدماء الفاسدة. سرّ فالوقوف جبانة والنظر إلى مدينة الماضي جهالة".

على هديَ هذه الكلمات الجبرانيّة كانت حماستنا الكبرى في لجنة جبران يوم أقدمنا في لحظة مباركة مع مؤسّسة جبل الأرز على مشروع بناء هذه الحديقة. حماسةٌ مآلها أحلام ورديّة مفادها أن ملكاً لنا جامدٌ كما الصخر فيه، أبكمٌ كما عشبه اليابس، أصمّ ولا صمم رمل البوادي، سيصبح فسحة جماليّة، فرصة تعارف، حديقة لقاء، تعجّ بالطبيعة الخضراء. فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن. ثمّ أنّ في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة. والحال، كنّا ننتظر هذا اليوم بفارغ الصبر، لأنّ حماستنا كانت بركاناً ما نبتت على قمّته أعشاب التردّد. كنّا واثقين بأنّنا ومؤسّسة جبل الأرز نفي بما نعد، لأنّ قناعتينا هما في أنّ النهر يظلّ جادّاً نحو البحر إنكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر.

ها الحديقة إذاً في مكانها الصحيح. وسنرى فيها الأزهار والنباتات والأشجار لتظهر فيها جمال الطبيعة على يد الإنسان الذي يدرك أنّ الثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحيّة. سنرى إذاً تلك الزهرة التي لن تكتسب عطرها وحياتها إلاّ من تراب هذه الأرض، أرضكم. ولكنّنا أيضاً سنرى في هذه الحديقة بعين بصيرتنا لا في عيننا المجرّدة زهرةً مخفيّة هي المحبّة. فالمحبّة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت وتنمو بغير معاونة الفصول. ولأنّ هذه الزهرة ثابتة وموجودة في قلوبنا وقلوب مؤسّسة جبل الأرز كانت الحديقة وفي مكانها الصحيح.

ولا بدّ أن سعادة النوّاب وأعضاء المؤسّستين يذكرون ولا شكّ، أنّ لقاءاتِ طويلة واجتماعاتِ متلاحقة بنقاشات مختلفة كانت تعقدُ هناك في الصالة البيضاء في القلعة التي لم تسقط، لدرس كلّ التفاصيل والبتّ بشأنها: نوع الأشجار، المزروعات، الإضاءة، الدروب الداخليّة، مواعيد البدء بالعمل، الإستعانة بالخبراء، ثمّ رصد المال واستثماره في مكانه، هو الذي أتى من فاضل كبير "كارلوس سليم" على يد صديق كبير "الدكتور زياد حايك". وهما العالمان بأنّ المال كالحبّ يميت من يضنّ به ويحيي واهبه.

وإذ لست هنا لأدخل في كلّ هذه التفاصيل، تاركاً الأمر للمختصّين، العلميّين، المهندسين، التقنيّين الذين نفّذوا المشروع، أرغب فقط أن أؤكّد على ثابتة إيمانيّة فأشارككم بها. الثابتة هذه مفادها أن "ليس التقدّم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون". وفي هذا السير رؤى وطموح وتفاؤل أكيد. رؤى لأنّ الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمراً. وطموحٌ لأنّ العيش نزوع ومرام. وتفاؤل أكيد لأنّ المتشائم لا يرى من الحياة إلاّ ظلّها. الحديقة هذه ما تمّت إلاّ من ضمن هذه الثابتة الإيمانيّة. وكلّ كلمة خارج هذه الثابتة لن تكون بنّاءة. ونحن على أيّ حال لا نتوقّف عندها، ذلك أنّ المحدود من الناس مطبوع على حبّ المحدود من الحياة، وأنّه من الظلم أن نطلب الخمر من الحصرم.

أيّها الحضور، إذا تساءل أحدنا: هل هذه الحديقة هي آخر المشاريع عندنا، فالجواب على تساؤله إنّما هو عندكم. لن يتوقّف إنماء في بشرّي، لا عند مؤسّسة جبل الأرز ولا عند لجنة جبران، ولا عند أيّة لجنة أخرى أو مؤسّسة أخرى، ليس فقط لأنّ في الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والإندثار، وليس فقط لأنّ الموت قنوطٌ وسقام، بل لأنّ من يخمد نار نفسه بيده يكون كافراً بالسماء التي أوقدتها.

هنيئاً لنا إذاً هذه الحديقة، هنيئاً لبشرّي والقضاء. أمّا لكّل من ساهم في إنشائها، في مؤسّسة جبل الأرز وخارجها، وفي لجنة جبران الوطنيّة وخارجها، فأقول: إنّ أتعابكم أثمرت حقيقة واقعة ثابتة موجودة وممتدّة. وإن كنّا لا نستطيع مكافأتكم كما يجب، فثقوا بأنّ الأتعاب التي قد لا نكافأ عليها الآن ستحيا معنا وتذيع مجدنا.

23\8\2014
الد. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة.

الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

رسالة إلى العذراء مريم


رسالة إلى العذراء مريم

 

ما من سنة تمضي إلاّ ونتذكّرك في أكثر الأوقات، في أكثر أيّام سنتنا: في الحبل بلا دنس وأنتِ الطفلة البريئة، في تهنئتكِ بالميلاد وأنتِ الأم الصغيرة، في ذكرى بشارتكِ وأنتِ الخاضعة للمشيئة الإلهيّة بفرح ما بعده فرح، في شهركِ نوّار وأنتِ الأم والسلطانة على السماء وعلى الأرض، في زمن ورديّتكِ وأنتِ الوردة السرّية القادرة على طرد الشرّ، في انتقالكِ إلى السماء لترين وجه حبيبكِ بعد طول انتظار، في يوم مولدك لتغيّري وجه العالم وتثبتي إنسانيّته، وفي أيّام صعوباتنا ومحننا الكثيرة، وبؤسنا ويأسنا المتعاظمين. وفي تذكّرنا هذا بتِّ تعلمين كلّ مخاوفنا، وطلباتنا، وآلامنا. ومع هذا، ما زال ثقل جهالتنا يرون علينا، وبلادتنا على أفعالنا، ولامبالاتنا على تحرّكنا. وما زلنا أغبياء معرفة ومعاقي فكر ومشلولي عمل. لقد كرّسنا لبناننا لكِ وقعدنا ننتظر تماماً كما تنابل كلّ زمن. أكثرنا من صلواتنا لكِ وقلنا في سرّنا "ها الكرة في مرماها الآن". خاملون وندّعي التعب. جاهلون وندّعي الفكر. فرّيسيّون ونعجب كيف لا تحفظي لنا الجميل. ورغم ذلك أسألكِ سماع بعض من اعترافات خاطئ، جاهل، خاملٍ هو الآخر، ولكنّه في سرّه ما زال يرفض اليأس والقنوط والإندثار.

نحن قوم لا نستطيع إجبار نوّابنا على انتخاب رئيس، ونوّابنا صورة عن بلادتنا. نحن غنم نسير وراء تيسٍ ولا نجرؤ حتى أن نسأله إلى أين يأخذنا. ولا نستطيع في الوقت نفسه إلاّ أن نسند حكومتنا المشلولة حتى لا تنفرط، ففي انفراطها تثبيت للمزرعة التي نحن فيها. نحن قوم لا جلد لنا في إعطاء الحقوق لأصحابها، فنحن فقط نهتمّ بالشؤون الكبيرة: الأزمة السورية، داعش، الهلال الشيعي ... وكلّ ما عدا ذلك فتات لا يستحقّ منّا الإهتمام. وفي الوقت نفسه، لا نستطيع أن نقنع المطالبين بحقوقهم بعدم حرق الدواليب، إذ يكفينا تلوّث الجوّ والمياه والأدوية والغذاء، فضلاً عن العقول وخاصّةً الإعلام. إعلامنا ساقط لأنّ للخبر ألف لون ولون، وكلّ لون يدّعي الإمساك بالحقيقة. ونحن قوم لا نستطيع حتى أن نقنع رجال الأمن أن لا يسمحوا بقطع الطرقات، فأكثرنا إن لم يصل إلى عمله لا تصل اللقمة إلى فمه وفم عائلته. فاسدون نحن ونحمي الفاسدين الذين يتحكّمون فينا. ونحن لا نستطيع إلاّ أن ننتظر الفرج لو يأتي من أيّ مكان، هكذا ببلادة من يتعاطى المخدّر وبجمود وصمت مستغربين.

ثمّ ندّعي حب الوطن ولا نرى أنّنا، حتى في حبّ الوطن، مراؤون خبثاء. نحن قوم تأبى كرامتنا أن نأتي بالمياه من تركيّا، ونبتسم للوزراء الذين تولّوا شؤون مياهنا وأوصلونا إلى هذا الشحّ الغريب. ونرضى بكلّ هدرٍ في مسألة الكهرباء ونعجب لعنتريّات الوزراء الذين امتشقوا السيف لمحاربة طواحين الهواء. ولا نجد سوى حلول انحطاط العصور الوسطى لمشاكلنا المستجدّة، فنغدق إفادات تربويّة حتى نبتعد عن المشاكل، ونمتنع عن تصحيح مسابقات الإمتحانات لأنّنا آلهة. نقبل الذلّ في أبسط حقوقنا "ونتعنتر" فقط على نسائنا باللعنات والإهانات وحتى بالضرب الحيوانيّ.

ولأنّنا هكذا فنحن كافرون بحقّ أنفسنا، كافرون بحقّ إلهنا إذ كيف ندّعي أبوّته ونحن إلى هذا الحدّ جاحدون. فيا مريم، خذي بيدنا لكي نثور على جهالتنا أوّلاً، على أنفسنا الخامدة، وثبّتي أقدامنا حتى نغيّر وجه وطنٍ أردناه واحة حريّة وعدالة.

السبت، 9 أغسطس 2014

إنكشافات من النافذة العرساليّة.


إنكشافات من النافذة العرساليّة.



هل كان لا بدّ للوضع في عرسال أن ينفجر حتى نتحقّق جميعاً من الوضع الغير سليم الذي نعيشه جميعاً في لبنان؟ والجواب حتماً لا لو كنّا نريد علاج وضعنا الآخذ بالإهتراء والذي نعرفه جيّداً جميعاً، إلى أيّة طائفةٍ أو فئةٍ أو حزبٍّ أو تيّارٍ أو ... خاصّة إنّ كنّا "وسطيّين" – مع إعتقادي الجازم أنّ كلمة "وسطيّ باتت "مقرفة" إلى حدّ بعيد -. نحن فقط نرغب في الإنتظار، إنتظار الآتي الذي لم يأتِ بعد. ومع هذا فإنّ لانفجار الوضع العرسالي إنكشافات لا بدّ من الإضاءةِ إلى أهمّها علّنا نعتبر. (مع الإعتذار إذا ما بدت الصراحة هنا وقحة إلى حدٍّ ما).

 

1 – إنّ العطف الشعبي للجيش اللبناني، الذي أبدته كلّ الطوائف، هو أمرٌ ثابتٌ وطنيٌّ، وهو معطى أكيد. فعند الكلّ في قرارة النفس أنّ الجيش هو وحده ضمانة للجميع، وعليه لا يمكن التفريط به. إنّ التعبير عن هذا العطف خاصّة على صفحات شبكات التواصل الإجتماعي شاهدة على الإلتفاف حول الجيش عند كلّ الطوائف، وإنّ التحرّك السياسي لمعالجة الوضع الإرسالي وخاصّة عن طريق هيئة العلماء المسلمين تصب هي الأخرى في هذا المعطى الأكيد. العطف هذا ثابتة، من الثوابت المتعدّدة، عند الجميع وخاصّة عند المسيحيّين، كلّ المسيحيّين، هم المنقسمين وعلى طرفيّ نقيض، ويكتسب عندهم نكهة مختلفة. هم لا يؤيّدون الجيش لأنّهم يريدونه في صفّهم لتنفيذ غاية استرتيجيّة، أو مأربِ مرحلي أو آنيّ ما، كما قد يمكن لغيرهم أن يفكّر، ولا لكي يحمون أنفسهم أو أتباعهم من كارثة قد تصيبهم كما قد يمكن لآخرين أن يفكّروا أيضاً، بل لأنّه ضمانة للبنان الذي ابتدعوه منارةً للحرّية والعدالة في منطقة تخلو من الحرّية والعدالة. لكلّ آخر غيرهم عمق يمكن أن يلجأ إليه،  تماماً كما كان للفلسطينيّين عمق لجأوا إليه، أمّا هم فليس لهم إلاّ هذه الأرض الصغيرة. والحال يكون الجيش بالنسبة لهم، بالرغم من كلّ الإختلافات في السياسة وفي الستراتيجيّة والتكتيك، ضمانة للبنانهم. فالمسيحيّون الموزَّعون تأييداً (فقط تأييداً) في ما يسمّى الصراع "السنّي – الشيعي" لا يرون من ضمانة لوجودهم ووجود لبنانهم سوى في الجيش. هذا الإنكشاف الأوّل من الوضع العرسالي يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار من السنّة ومن الشيعة على وجه التحديد، وعلى حدّ سواء، فلا يغرّهم تأييداً من مسيحيّين هنا أو من مسيحيّين هناك.

 

2 – إنّ الطائفة السنّية الكريمة، أو – لنستعمل الكلمة الأكثر شيوعاً في الإعلام في هذه الفترة – الشارع السنّي، بأغلبيّة موصوفة، يشعر أنّه مغبون ومستهدف، والدولة عن هذا الأمر غائبة حتى لا نقول أنّها  تغضّ الطرف عنه. الصراحة تقتضي أن نقول، أنّ هذا الشارع يعتبر أنّ الدولة تكيل بمكيالين وأنّه حتى الجيش لا ينظر إليه بالعين التي ينظر بها إلى الطرف الآخر. (الطرف الآخر هنا هو الطرف الشيعيّ تحديداً). قد لا يكون الأمر مبرّراً أو صحيحاً لأنّ الجميع يعرف مناقبيّة ووطنيّة الجيش ولكن، هذا الشعور موجود وهو معطى آخر أكيد. للتذكير، أنّ واحد من أسباب إنقسام اللبنانيّين في الحرب التي اندلعت في العام 1975 كان الشعور بالغبن عند فريق والشعور بالخوف عند آخر. والحال، إنّ معالجة هذا الإحساس القابع في القلوب والعقول بات بحاجة إلى علاج سريع عن طريق لمّ الشمل اللبناني، وضمّ الكلّ إلى الدولة، الأمر الذي لم يحدث حتى اللحظة ممّا يشكّل نقطة سوداء عند كلّ السياسيّين، خاصّة الزعماء،  والمفترض أن يكونوا رجال دولة.

 

3 – صحيح أنّ سياسة النأي بالنفس، وهو الشعار الذي رفعته الحكومة السابقة، لم يطبّق من الفريقين المتخاصمين، وتحديداً من السنّة والشيعة فيهما، ولكنّ نأي لبنان عن الصراع المرير الدائر حوله موجود وثابت، وهو أيضاً معطى أكيد حتى اللحظة. هناك توافق دوليّ وإقليمي لتحييد الداخل اللبناني عن هذا الصراع. فداعش والنصرة ما كانتا لتنسحبا من عرسال لولا هذا التوافق. لا بدّ أن أمراً من راعيهما، وقد يكون لهما أكثر من راعي، قد صدر لهما بالتراجع وتصحيح خطوتهما الناقصة أو الخاطئة أو المنزلقة (faux pas) في عرسال. وإذا كان "من يعطي يأمر" فإنّ أمره يجب أن يطاع. معطى أكيد ولكن حتى اللحظة، لأنّ لا أحد يستطيع أن يضمن ثباته، وأن يعرف متى يمكن أن يتغيّر. والتغيير قد يحدث فجأة وقد تفرضه الأحداث. وعليه، تجدر الإستفادة من هذا المعطى الآن، بتحصين الداخل اللبناني باتّحاد الجميع حوله. وهذا يعني تبديد مخاوف الشارع السنّي والشيعي على حدّ سواء. فالشارعين ما عادا يثقان بالدولة، الأوّل بسبب ضعفه (من إمتلاك السلاح)، والثاني بسبب قوّته المفرطة (بإمتلاك السلاح).

 

4 – كشف الوضع العرسالي ضعف الدولة اللبنانيّة في تحصين الذات الوطنيّة. فهي لا تفعل سوى الإنتظار. إنتظار أن يحدث شيء ما، أن تتغيّر الظروف، أن تتدخّل الأمم، أن يصدر القرار ... الخ. وقد يكون أبرز مظاهر هذا الضعف، وربّما من أسبابه المباشرة، هو الخلاف المسيحيّ – المسيحيّ، وهو أيضاً معطى أكيد لا يجب التغافل عنه. هذا الخلاف أفقد المسيحيّين المبادرة لأيجاد حلول لأزمة رئاسة الجمهوريّة، وبالتالي للأزمة العامّة في لبنان حيث لا تلاقي ولا تفاهمات. لقد أصبح حلّ أزمة رئاسة الجمهورية مطلباً وطنيّاً عامّاً، ذلك أنّ الكلّ يدرك أنّ المسيحيّين قادرين إن وعوا أن يخفّفوا من وطأة الصراع السنّي – الشيعي في المنطقة على الداخل اللبناني. هذا الخلاف أصبح مسخرة لأنّه خلاف عبثيّ. فالتسابق على الرئاسة يعمي العيون عن رؤية الحقيقة التي يعيشها الوطن، ويغلق العقول عن التفكير في مستقبله. وطالب الولاية يمسي أعمى البصيرة فينفّذ كلّ ما يطلب منه. إنّ التخلّي عن الأنانيّات، وملاقاة الآخر في منتصف الطريق أصبح ضروريّاً لبقاء لبنان، وهو ليس "جميلاً" يحسب لآحد، ولا منّة من أحد.
9\8\2014