الجمعة، 11 يوليو 2014

كلمتي حول كتاب "أمين والنبي" للدكتور توفيق بحمد.





 

" طوبى لمن كان مجلسه مجلس الأبرار، وفي ناموس الربّ مسرّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً، فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه، التي تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل. وكل ما يصنعه ينجح".
هذا ما كان شعورنا عليه، وهذه ما كانت نظرتنا إليه، يوم تلاقينا مع الدكتور توفيق بحمد لأوّل مرّة. وإذ غادرنا لم يتركنا، إذ ترك لنا ذاته، صورته، وجهه، إبتسامته، وبريق عينيه الوديع، وكلامه العذب، وسلامه الداخلي، وترك لنا أيضاً أمينه، وقد حصره في كتاب بهيّ، ليرافقنا حتى اللحظة. عن هذا الكتاب، سأختصر كلمتي هذه.
في لحظةٍ هي الفجأة بالذات، لا بل في هنيهةٍ هي كلّ الفجأة، يقف أحدنا بعد "محطّات في رحلة العمر" ليستذكر سنوات مضت، تمرّ أمام مخيّلته كشريطٍ سينمائيّ. ويتساءل  فيها عمّا كان معنى وجوده بحثاً عن ذاته ومعرفةً لحقيقته على الإطلاق واستعلاماً عن إنسان إنسانيّته. في تلك اللحظة، في تلك الهنيهة، سيجد نفسه أمام مفترق طرق: فإمّا أن ينبلج فجر ذاته عن طريق الحكمة والمكاشفة وحديث الروح، وإمّا أن يكون خارج هذا الإنبلاج، تاركاً حدوثه للحكمة الكونيّة الفاعلة. وفعل الإختيار أمام هذا المفترق مرتبطٌ حتماً بمحطّات رحلة العمر، لكنّه أيضاً نعمة تأتي من فوق تجعلنا ندرك ونعي أنّ الدرب واحد، لا درب سواه. درب كلّنا عليه سائرون. درب نحاول عبثاً أن نجد بديلاً عنه، لكن لا بديل. ومع علمنا بالأمر لا ننفكّ نبحث عن غيره. درب جامع ضامّ، وهو إذ يجمعنا يجمع تناقضاتنا والإختلافات، آراؤنا والخلافات، أحلامنا المبعثرة، ورؤآنا المتعدّدة. الدكتور "بحمد"، تماماً كما جبران، إختار المفترق الأوّل فتعرّف إلى أمينه فجراً لذاته، تماماً كما تعرّف جبران إلى نبيّه، مصطفاه، المختار الحبيب، والذي كان فجراً لذاته.
فهل لنا بعدُ أن نتساءل عمّن هو أمين الدكتور بحمد؟
هو ليس رفيقه، ذلك أنّ هذا "الأمين" لا يظهر إلاّ في تلك اللحظة، تلك الهنيهة وهي كلّ الفجأة. هو إذاً ليس صاحباً أو صديقاُ. وهو حتماً ليس كاتم أسرار، فأمينٌ هذا هو كلّ المكاشفة، كلّ الشفافيّة، كلّ الحقيقة. فكيف نحدّد أمينٌ هذا إذاً؟ إنّه الدكتور توفيق بحمد ذاته. توفيق الحقيقي وقد إزيلت عنه كلّ الحجب والأقمطة، فوقف عارياً كما الحياة، كما الحقيقة. تماماً كما هي رسوم جبران العارية هي الأخرى، والذي كان عندما يُسألُ عن السبب يقول، كما ورد في إحدى رسائله إلى "ماري هاسكل": " رسومي عارية لأنّ الحياة عارية والحقيقة عارية، وأنا لا أرسم إلاّ الحياة وإلاّ الحقيقة ...". أمين هو الدكتور "بحمد" بذاته. وهو أيضاً أمرٌ آخر، وسأصل إليه في سياق عجالتي هذه، متتبّعاً سير توفيق وأمين.
عندما لبّى أمين طلب توفيق بالإنتقال إلى أورفليس ليفتّشا عن المصطفى نبيّ جبران، كان يدرك أنّه لن يلاقيه هناك. ولكنّهما وجدا قارب نجاتهما: كتاب "النبي" لجبران. فامتطاياه ليدركا أنّ بهجتهما تقع على تردّد المحبّة، الذي لا يمكن أن تمسكه بيدك، ولكنّك تشعر أنّه أعلى وأقوى تردّد على الإطلاق. وأنّ العطاء ما هو بعطاء إلاّ إذا كان جزءاً من ذاتك. وأنّ معرفة النفس هي من معرفة الربّ، وذروة الألم هي الحبّ الملتهم لجسده، كحبّ سقراط لسمّه، والمسيح لصلبه، والحلاّج لصبره. وفي أورفليس نهلا من الحكمة من وجود الزمان، ومن الولوج لمعرفة العقل وهو قبسُ من روح الله، ولسعادة الحرّية يوم لا تكون مقيّدة لا برغبة ولا بطمع ولا بشهوة. وعندما توقّفا عند الموت أدركا انّه " كما تحلم الحبوب الهاجعة تحت الثلوج بالربيع، هكذا تحلم قلوبكم بربيعها ... بعد الموت".
سبعون سنة في أورفليس ما وجدا فيها المصطفى، فغادراها إلى شطآن أحلامهما، إلى شطآن لبنان. وفي أعلى قمّة فيه، حيث أرز الربّ، ومتحف جبران، وجداه – المصطفى – وتحدّثا معه، وقرّرا التفتيش عن الطريق، طريق الإنسان لسلوكها. أمّا المسيرة هذه فهي بعدّة من خمسة مبادئ: عقل منفتح يفتّش عن الحقيقة ولا يخاف منها، عبور إلى الذات، أيّ من الخارج إلى الداخل وهذا يعني إزالة الخوف كلّياً، محبّة كاملة مكتفية بذاتها، نقاء بلّوريّ المظهر لتصبح الذات كمرآة لا غبار عليها، ثمّ إثبات الذات بعدم الإختباء وراء أيّ شيء. "كن أنت، كنّ ذاتك، ولا أحد غيرك".
ماذا يفعل توفيق اليوم مع أمين؟
إنّه يتقمّص حاضراً. يتقمصّ وجسده بعد عليه. يتقمّص الآن، بوعي وإدراك ، وهو بعد حيّ. يلبس قميصاً جديداُ هي حلمه الخامس. أمين كتابه، والذي قلت فيما سبق، أنّه الدكتور توفيق بحمد نفسه، من دون حجب ولا أقمطة ولا قشور، هو هو قميصه الجديد. الدكتور "بحمد" يتقمّص بأمين حيث إنسان جديد، إرادة جديدة، محبّة جديدة، إيمانٌ جديد، وحيث يفتح كفّه "لمسمار المسيح" يدقّ فيها ليطهر من دنسٍ تبتلى "فيه أمّتي" من قديم الأزمان. للذين يتساءلون عن معنى كلامي هذا، فليتفكّروا في آخر كلماتٍ كتبها توفيق:
"التحدّي يا قوم هو مشكلتي ... وحالتي هي أمين ... وهو إنساني.

                                                           د. طارق شدياق
 
                                                             6\6\2014