الجمعة، 22 مايو 2015

الجسد الممجّد - رسالة الى المهندسّ شربل فخري.


الجسد الممجّد على طريق عمّاوس.


كلمة الى المهندس شربل فخري.
 

 


أخي شربل ...

بفرح كبير قرأت ما خصصتني به من كتابات لك رائعة، عن رجائنا الحيّ الى الأبد، يسوع المسيح ربّنا وإلهنا، الذي بادر فأحبّنا أوّلاً وأعادنا الى حضن الثالوث الدافئ، وضمن لنا مكاناً في منازل الآب الكثيرة.

وقد أرجعني ما كتبته بالزمن سنوات، وإن قليلة، يوم كانت مسألة الجسد الممجّد تضغط على عقلي الصغير ... الصغير، الصغير ... أمام الحقيقة الإلهيّة الأزليّة الواحدة، الثابتة التي لا تتبدّل، والتي لن ندركها إلاّ معه هناك يوم نقف أمام الجالس على العرش ننتظر رحمته. هل من الضروري أن أقول لك كم من علامة استفهامٍ حول المسألة رسمتها أمام ناظريّ منذ ذلك الوقت؟ وكم من علامة تعجّب نثرتها هنا وهناك وأنا أقلب شفتيّي وأرفع حاجبيّي اندهاشاً؟ ربّما كنت في ذلك الزمن قليل الإيمان وكثير التفكير. أو ربّما أردت إرضاء عقلي الذي من طبيعته أنّه يروم منطق الأمور. ولكنّي لن أكتمك سرّاً إن قلت، بأنّك لو سألتني اليوم عن المسألة نفسها، بعد زمن تأمّلات وصلوات وقراءات ومشورة عارفين، فلن يكون جوابي سوى الردّ عينه الذي كان في جعبتي يومذاك، والذي استقيته من بولس الرسول يوم تحدّث عنها في رسالته الى أهل قورنتس[1].

ومع هذا أرغب لو نتشارك في بعض الأفكار التي كوّنتها عن الموضوع، والتي بدا أنّ توافقاً عليها حصل مع مجموعة من اللاهوتيّين[2].

لنتّفق أوّلاً، أنّ قيامة المسيح ليست مجرّد إحياء جثّة. ففعل "قام"، في قولنا "قام من بين الأموات"، يعني اًلإستيقاظ أو النهوض[3]. فكما نحن عندما نستفيق وننهض من نومنا، كذلك قام المسيح[4]. وهكذا تكون القيامة تحوّل كامل للقائم، بحيث يصبح الجسد روحانيّاً وممجّداً، وهو تحوّل لا يستطيع الإنسان إدراكه بعقله[5].

ولنتّفق ثانياً، أنّ المسيح هو من يبادر فيظهر نفسه لمن يشاء[6]. وبهذا المعنى لا تكون ترائيات المسيح من دون هدف، أو كما يدعوها البعض أحداثاً حياديّة[7]. فشاهد الترائي يتسلّم مهمّة إعلان القيامة على الأقلّ. أمّا ما أودّ ذكره لاحقاً، فيبدو مختلفاً عمّا قرأته فيما كتبت أنت في " على طريق عمّاوس"، ولكنّه يسير في الإتّجاه عينه. وإنّي أبادر وأعلن أنّي لا أتشبّث برأيي ولا أدّعي معرفة. وأنّ كلّ ما أفعله ما هو إلاّ تدوين لقناعاتي وحسب، تلك التي كوّنتها مع الزمن.

صحيح أنّ المسيح القائم من بين الأموات لم يعد ينتمي الى عالمنا، بل الى عالم الله. وصحيح أنّ اختباره كحقيقة من حقائق العالم المحسوس أمرٌ مستحيل. ولكنّ من يراه، من يظهر المسيح له نفسه، يراه بعينيه الجسديّتين. وهو – أيّ الرائي – يتمتّع برؤية بصريّة كاملة[8]. ... هل فجّرت قنبلة! ... سأوضح.

المسيح تراءى لبطرس ويوحنّا وآخرين على شاطئ بحيرة طبريّا فلم يعرفوه للتوّ. بل بعد أن أشار إليهم بإلقاء الشبكة الى يمين السفينة[9].  (مسألة اليمين مسألة جدّ مهمّة قد نتناولها فيما بعد). وتراءى لمريم المجدليّة فظنّت أنّه البستاني، ولم تعرفه إلاّ بعد أن سمعت صوته إذ ناداها[10]. وتراءى للتلاميذ وكان توما معهم الذي بعد أن عاين جروحاته آمن به. أمّا التلاميذ فظنّوا أنّهم يرون روحاً فأخذهم الفزع والخوف[11]. كذلك فعل مع تلميذَي عمّاوس، ولن نكرّر ما قرأناه. ما هو مهمّ فيما ذكرت، أنّ يسوع سمح لهم بلمسه كما مع توما وغيره. ولكيّ يهدّئ من روعهم سألهم طعاماً وأكله معهم وبمرأى منهم. يسوع إذاً في ترائيه لم يكن روحاً صرفاً[12]. وما طلب منهم التحقّق مّمن يرون إلاّ ليؤكّد لهم أنّ الجسد الذي صلب ومات على الصليب، وقبر في قبر يوسف الرامي، هو هو، القائم من بين الأموات. وأنّ هذا الجسد ما زال يحمل آثار جروحاته. هو إذاً جسد حقيقي[13] ولكن ...يحمل مزايا وصفات جديدة.

هذا الجسد ما عاد محدوداً في الزمان والمكان. فيمكن له أن يتراءى كما يشاء ومتى أراد لأنّه، تحديداً، بات ينتمي الى عالم الله. والحال، يمكن له أيضاً أن يظهر بأيّة هيئة يريدها، كما في ترائيه في هيئة البستاني أمام مريم المجدليّة. أمّا الهدف من كلّ ذلك، فهو تأكيد وتثبيت إيمان الرسل[14]. هل هذا يعني أنّنا، نحن البشر، عندما نلبس الجسد الممجّد إثر القيامة سنظهر كما نشاء، وبأيّة هيئة نريدها، هكذا بكلّ بساطة؟!

الجواب على هذا السؤال ليس بهذا اليسر ... عندي أنّه يجب ألا ننسى أنّ الربّ هو الإله، وأنّنا طامحون لنكون معه. وألا ننسى أنّه كان راعياً صالحاً عندما كان على الأرض، وسيبقى الراعي الصالح في كلّ زمان. والحال، سنبقى الخراف التي تعرفه ويعرفها، والتي يناديها بأسمائها. وسيبقى يريدنا على الأرض لتحقيق ملكوته، ويريدنا في السماء من أجل ملكوته. سيبقى القائد الذي يعرف كلّ شيء، وسنبقى جنوده بكامل حرّيتنا. وبالتالي سنظهر كما يشاء هو، ومتى يشاء هو، وبالهيئة التي يريدها لنا، هو. وكما على الأرض، يحرّكنا الربّ لمهمّة تحقيق ملكوته، كذلك في السماء.

شردنا؟! ... لنعُد.

إذاً، قيامة المسيح ليست عودةٌ الى الحياة الأرضيّة كما في إحياء أليعازر، أو إبنة يائيرُس. فهذه الإحياءات كانت أفعال عجائبيّة منه، وإنّ هؤلاء سيموتون من جديد. قيامة المسيح هي تحوّل كامل مليء بالروح القدس ومشارك للحياة الإلهيّة بمجده. والقدّيس بولس يقول عنه أنّه " الرجل السماوي" ... وهذا ما ينتظرنا[15].

وإذا كان ما ذكرناه صحيحاً، أيّ أنّ المسيح ظهر بجسده المجروح، الحقيقي، الذي مات فيه وقبر وقام، وإن ممجّداً، فلماذا لم يعرفه من كانوا ملاصقين له في حياته معهم؟

قد تكثر الأجوبة على هذا السؤال ... والتفتيش عنها لا يحيد عن دعوتنا للإيمان. ولكنّي وجدت أنّ من أفضل الأجوبة هو ما تقدّمه لنا حادثة تلميذَي عمّاوس نفسها، وفي آية واحدة.  لنقرأ ...

" ... وكنّا نحن نرجو أنّه هو الذي سيفتدي إسرائيل، ومع ذلك كلّه فهذا هو اليوم الثالث مذ جرت تلك الأمور ..."[16]

هذا هو السبب. وهل من سبب أوضح؟ لم يعرفوه لأنّهم ما عرفوا لماذا جاء. فبعد موته، وقبل العنصرة، كانوا ما زالوا يرجون أنّه سيفتدي إسرائيل. كان ما زال ذلك الملك الزمني الذي سيحرّرهم ويجعلهم أمّة واحدة، خالدة، تسجد أمامها الأمم. ما عرفوه مخلّصاً لهم وللبشريّة جمعاء، لذلك شكّوا ... طلبوا إثباتات، وبعضهم خاف منه. ما عرفوه ألاّ بعد أن ألقى عليهم سلامه، وسمعوا صوته، وعاينوا جروحاته. والأهمّ ... بعد أن نفخ فيهم وقال لهم " خذوا الروح القدس ..."[17]. وهل لغير المؤمن قدرة لأن يرى المسيح ويعرفه؟!

أعرف أنّي أطلت الكلام. سأنهي بأمر أخير حول هذه المسألة.

قلت بأن من رأى الربّ رآه بعينيه الجسديّتين. وهذا لا يعني بأنّه حتماً سيعرفه، إذ لن يعرفه إلاّ المؤمنين باسمه، كما جاء في بشارة يوحنّا: " وكان في العالم، وبه كان العالم، وما عرفه العالم. الى بيته جاء، فما قبله أهل بيته. أمّا الذين قبلوه، المؤمنون باسمه، فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله"[18]. ومع هذا أسارع الى القول بأنّ هذا الإختبار (ظهور يسوع) يبقى حقيقة نعجز عن التعبير عنها تعبيراً كافياً. وأنّه لا بدّ من التدخّل الإلهي القادر وحده أن ينير الحدث، وهنا يتّضح دور الإيمان الحاسم[19]. وإنّ حادثة عمّاوس تفيدنا أن اللقاء بالربّ يتمّ في كسر الخبز وفي قبول الإفخارستيّا. دعاؤنا أن: يا ربّ اجعل قلوبنا متواضعة مهيّأة لقبولِك ... أنت الوديع المتواضع القلب.


 

لكم أعجبني ما كتبته عن " رجل الواجب". لقد كان يسوع حقّاً رجل الواجب، طيلة ثلاث سنوات وبعدها في ترائيه. كذلك كان فيلبّس مع خازن ملك الحبشة. وأنّنا لقادرون أن نعدّ من رجال الواجب كثيرين. ألم يكن القدّيسون جميعاً " رجال واجب". وإنّي لأعترف لك، بأّنني عدت بعد ما قرأت كلماتَك عن هذا الأمر الى ماضيّي، وتساءلت بحسرة، هل كنت يوماً رجل واجب؟ أينني من الأنجلة والتبشير؟ لكم أوضحت لي كلماتِك تقصيري الفاضح. عزاؤنا أنّ الربّ فاتح ذراعيه، حيّ منتظر، مادد يداه.



أخيراً، إذ أدعوك وادعو نفسي لمتابعة قراءة الكتاب المقدّس، أروم أن نعرف المسيح. فلا يمكن لأحد أن يحبّ من لا يعرفه. فمتى عرفناه أحببناه وخدمناه.

سلامي لك، ولجماعة مار شربل، الأخوة في الربّ. وإنّي لأتطلّع إليكم تغزون العالم بروحانيّة ذاك الذي آلف الربّ حتى سكر به.

 

د. طارق شدياق

تشرين الأوّل 2006

 




[1]  - 1 قور 15.
[2]  - لقد أثبتت بعض المراجع في آخر كلمتي.
[3]  - دليل عربي يوناني الى ألفاظ العهد الجديد. الأب صبحي حموي اليسوعي – دار المشرق،  
     بيروت 1993.
[4]  - لعلّ أكثر ما يعبّر عن هذا الأمر هو المشهد الأخير من فيلم The passion of the Christ 
     للمخرج والممثّل Mel Gibson. لقد استفاق المسيح في القبر، نهض، نفض عن كاهله كلّ تعب،
     ووقف.
[5]  - هذا ما عناه بولس في رسالته المشار إليها سابقاً، حيث يتحدّث عن تحوّل جذري، تكون فيه
     الحياة خالية من كلّ أشكال الفساد، ومتحرّرة من الموت.
[6]  - ندرك هنا أن ظهوراته هي على غرار الظهورات الإلهيّة في العهد القديم.
[7]  - راجع قيامة المسيح، للأب صلاح أبوجوده اليسوعي دار المشرق – بيروت 2000.
[8]  -  راجع الأب اسطفان شربنتييه – "المسيح قام!"- نقله الى العربيّة الأب صبحي حموي اليسوعي
       – سلسلة دراسات في الكتاب المقدّس – رقم 4. الكبعة الثالثة. دار المشرق، بيروت 1990.
[9]  - يوحنا 21 \ 1 – 14.
[10]  - يوحنّا 20 \ 11 – 18.
[11]  - لوقا 24 \ 36 – 43.
[12]  - للتعمّق في هذا الأمر، راجع: Edward Bode; the first Easter morning. Collection Analecta biblica No 45- biblical institute press – Rome 1070.
[13]  - Cathechisme de l’eglise cathogique. F.M.A – 1994.
[14]  - Xavier Leon – Dufour: Resurrection de Jesus et message pascal ، Seuil , Paris – 1071.
[15]  - راجع كتاب الأب شربنتييه الوارد ذكره في الحاشية 8.
[16]  - لوقا 24 \ 21.
[17]  - يوحنا 20 \ 22
[18]  - يوحنا 1 \ 10 – 12.
[19]  - Gerald O’Collins: The easter Jesus. DLT . Pennsylvania 1937.

الجمعة، 8 مايو 2015

كلمتي في لقاء دبي الخاص بجبران وقلم مونتيغرابا




أيّها الحضور ...


أستأذنكم لأبدأ كلمتي بشكر شركة مونتيغرابا الإيطاليّة، بإسمي الشخصي وبإسم زملائي في لجنة جبران الوطنيّة، ليس فقط لأنّها استحدثت هذا القلم الجذّاب، الحامل كيفما نظرنا إليه رسماً لجبران، أو رمزاً يحاكيه، أو قولاً من إبداعاته، بل أيضاً لسببين إضافيّين: أوّلاً، لأنّها بهذا القلم وما يحمل إنّما تحثّنا جميعاً على التعرّف والتفكّر بهذا الرائد من روّاد نهضتنا العربيّة، بأفكاره الإجتماعيّة، والفلسفيّة، أو، ويجوز القول، بآرائه الإنسانيّة على الإطلاق، وقد لقّبه بعضهم بلقب "شكسبير العرب". وثانياً، لأنّها تجمعنا اليوم ههنا، على هذه الأرض الطيّبة، أرض الإمارات، والأحبّ الى قلوبنا جميعاً، وفي هذه المدينة العريقة بالذات، دبيّ، المشبعة تفاعلاً مع ثقافات كلّ العالم وحضاراته. وهي بذلك إنّما تحقّق الهدف الأوّل للجنة جبران الوطنيّة، والذي ما انفككنا نعمل بهديه، وهو هدف كيانيٌّ، وجوديٌّ، من دونه ما كان للجنة معنى، ولا كانت أهدافها الأخرى، ولا كانت لتتحلّى بالقدرة على الحفاظ على إرث جبران الأدبي والفنيّ الكبير، الذي خصّها به. أمّا الهدف فما هو إلاّ نشر فكر جبران في لبنان حيث مسقط رأسه، وفي الدول العربيّة حيث جذوره، وفي دول العالم حيث موطئ قدم الإنسان من أيّة جهة أتى ولأيّ مكان انتمى، والذي خبر جبران قدراته وأحلامه ومآله، فآمن بالمسيرة الإنسانيّة الواحدة المتّجهة حكماً الى النور.


وأستميحكم الإذن الآن لكي أطلعكم وباختصار شديد عن ماهيّة لجنة جبران الوطنيّة منذ تأسيسها، ودورها المتعدّد الإتّجاهات وأهدافها المترابطة وإن كانت متنوّعة.

لقد تأسّست لجنة جبران في العام 1934 من القرن الماضي، أيّ ثلاث سنوات بعد موت جبران. وانتخبت أوّل لجنة لها في ذلك الوقت من قبل أهالي مدينة بشرّي مسقط رأس جبران. وهي تكاد تكون اللجنة الوحيدة في العالم التي يتمّ انتخابها على طريقة انتخاب البلديّات في لبنان. وهذا يعني أنّها لا تملك لوائح انتخابيّة خاصة، أو منتسبين مسجّلين لديها، بل، كما في البلديّات، تعتمد على اللوائح الإنتخابيّة الرسميّة الصادرة عن المراجع الرسميّة المختصّة. وبهذا يكون كلّ أهالي بشرّي منتسبين حكماً في لجنة جبران. ويعني أيضاً، أنّها تتطوّر، تكبر، تتضخّم، بما يتناسب مع تطوّر مدينة بشرّي. (إن زاد عدد سكّان المدينة، ازداد حكماً عدد منتسبيها). ولكن ثمّة أمرٍ آخر، أكثر أهميّة من كلّ ما سبق، وهو أنّ كونها منتخبة من الأهالي فهي، كما كلّ هيئة تنتخب مباشرة من الشعب، تملك قوّتها التمثيليّة بذاتها، وهذا ما سيرتدّ إيجاباً على أعمالها وتحقيق أهدافها التي سأذكرها لاحقاً.

منذ تأسيسها، عملت لجان جبران المتعاقبة على حفظ وديعته الأدبيّة والفنّية لدينا، كما عملت على الإلتزام بوصيّته الصارمة من حيث استثمارنا لعائدات ريع هذه الوديعة في الخير العام. بهذا الإلتزام تمّ تصنيفنا في لبنان وفي خارجه على أنّنا لجنة لا تبغي الربح. فعندنا ما علّمنا إيّاه جبران، وهو أنّ المال كالحبّ يميت من يضنّ به ويحيي واهبه.

نملك ستّ بنايات نقدّم معظم شققها مجّاناً وعلى سبيل السماح لايّة مؤسّسة، أو جمعيّة، أو لجنة تعمل في الشأن الإجتماعيّ و/ أو الثقافي وتقدّم خدمات مفيدة للمجتمع. ونملك أكثر من أربعين ألف متر مربّع من الأملاك غير المبنيّة، قدمّنا منها عشرة آلاف متر مربّعٍ هبةً، لوزارة التربية اللبنانيّة بهدف إنشاء مدرسة ثانويّة رسميّة تمّت تسميتها بثانويّة جبران خليل جبران. وقدّمنا خمسة عشر ألف متر مربّع آخرى للوزارة نفسها لبناء مدرسة مهنيّة. ونحن مستعدّون لتقديم الباقي من الأملاك لكلّ مشروع إجتماعيّ مفيد.

وأنشأنا معهداً موسيقيّاً مجّانيّا، ومكتبةً تضمّ أكثر من عشرين ألف كتاب تكاد تشمل كلّ مؤلّفات الأدباء العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد يكون أهمّ ما نملك، متحفاً يحوي إرث جبران الفنّي: أربع مئة وأربعون لوحة أصليّة له، وإرثه الأدبي: مخطوطات كتبه المنتشرة في كلّ العالم، وبعض من أشيائه الشخصيّة وقد استقدمناها من مسكنه في نيويورك، وأيضاً ... مدفنه الذي يضمّ رفاته منذ وفاته في المكان الذي رغب أن يدفن فيه بحسب وصيّته.

واضحة إذاً أهداف لجنة جبران الوطنيّة ...

- صيانة إرثه الأدبيّ والفنّي الكبير، وهي صيانة دائمة. وجلّها صيانةٌ للوحات فنّية يفوق عمرها المئة عام.

- نشر فكر جبران في لبنان والعالم. (المعارض، والندوات، والمحاضرات، والطاولات المستديرة، والمساعدة بالدراسات عنه، وبالأطروحات الجامعيّة الخاصّة به ....)

- تثبيت موقعنا في الخارطة الثقافيّة اللبنانيّة والعربيّة والعالميّة، ليس فقط تحت إسم جبران، بل وتحت أسماء كلّ روّاد نهضتنا.

- المساهمة الإجتماعيّة، إن عن طريق المساعدات الماليّة والمدرسيّة والإستشفائية، كما عن طريق المساعدة في التطوير السياحيّ والبيئي والثقافيّ عامةً، وكلّ ذلك بحسب وصيّته كما أشرنا سابقاً. وسنواصل العمل الى ما يشاء الله، وسنتقدّم وإن خطوة خطوة. فعندنا أنّ "ليس التقدّم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون".


أيّها الحضور، قد لا تكتمل كلمتي من دون الإشارة الى عالميّة جبران، وهو الأمر الذي قد يعرفه الكثيرون منكم. معلومٌ أنّ كتاب النبيّ ما يزال حتى الآن الكتاب الأكثر مبيعاً في الولايات المتّحدة الأميريكيّة وفي العالم. ومعلومٌ أيضاً أنّ جبران موجود في أكثر دول العالم، وقد يتجاوز عددها المئة، من خلال معالم ثابتة. وأعني بذلك، ساحات باسمه أو حدائق عامّة، أو نصب تذكاريّة، أو مدارس وكلّيات جامعيّة ... الخ. ولكن، وللأسف، هو ليس على هذه الحال في الدول العربيّة، بالرغم من أنّنا أكثر من يحتاج لوجوده، لدراسة رسالته الخالدة، لتطبيقها والأخذ بها. أقول هذا الكلام بأسى بالغ ذلك أنّ أوضاعنا في كلّ بلاد العرب تحتاج الى كلمة سلام ومحبّة وإخاء بشرّي. وإنّي أدعو بهذه المناسبة كلّ المعنيّين وخاصّة وزارات الثقافة والتربية العربيّة لإعادة النظر ببرامجهم لإدخال أفكار النهضويّين العرب، جبران والآخرين، والتفكّر برسالتهم والدعوة الى مجاراتهم في الرقي والثقافة.

في نهاية كلمتي إسمحوا لي أن أكرّر الشكر لمونتيغرابا وقلمها الجذّاب الحامل أشياء كثيرة من جبران ومنها رسومه وهو الذي لم يكن يوقّعها كلّها لسبب مميّز. لقد قال للسيّدة "ماري هاسكل" عندما سألته لماذا لا يوقّع كلّ رسوماته، قال: لأنّ كلّ من سينظر إلى رسومي سيعرف أنّها لي. قلم مونتيغرابا سيحمل بعضاً من هذه الرسوم. وأودّ أن أشكر كلّ المنظّمين وأخصّ بالذكر السيّد هيثم نصر لجهوده القيّمة ونبل أخلاقه وحسن معاملته. واسمحوا لي أيضاً أن أهنّئ أصحاب مسرحيّة البارحة، كاتبها السيّد صوالحة، وممثّليها، ومنتجها الصديق علي مطر الذي كان صلة الوصل ما بيننا وما بين مونتيغرابا.

للجميع كلّ الشكر، وللحضور إنحناءة المدين، وستبقى حماستنا بركاناً كما كانت ولن ينبت على قمّتها أعشاب التردّد. لأنّ قناعتنا هي في أنّ النهر يظلّ جادّاً نحو البحر إنكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر

وشكراً.


الدكتور طارق شدياق

رئيس لجنة جبران الوطنيّة

"دبي" – الإمارات العربيّة المتّحدة

19\4\2015

الاثنين، 4 مايو 2015

جبران، النبي، و ,,, سلمى حايك. (مقابلة على تلفزيون الحرّة)


مقابلتي على تلفزيون "الحرّة" في برنامج "اليوم" .

 
هل فوجئت باعتداد سلمي حايك بأصولها اللبنانية؟

بصراحة نعم. لقد فوجئت بهذا "الاعتداد" ولكن من وجهة نظر إيجابيّة. وأعني بهذا أنّي سررت به، وانتابني ما يشبه الفخر للحظات. الإعتداد هذا يعني فيما يعنيه أمرين أساسيّين: محبّة أوّلاً ثمّ حنين. محبّتها للبنان تفترض أنّها تعرف لبنان جيّداً، تعرف تقاليده وعاداته وما يميّزه عن غيره من الدول من حيث ثقافته وحضارته المتراكمة عبر العصور. فالأمر الذي لا نعرفه لا يمكن أن نحبّه. أمّا حنينها فقد يمكن أنّها اكتسبته من حنين والدها وجدّها لوطنهم الأم. فلا بدّ يوم تعود بالذكرى لطفولتها أن تشعر بهذا الحنين. وأنا أعتقد أنّها تربّت عليه. نضيف الى كلّ ذلك إعتدادها أيضاً بجبران نفسه وبكتابه النبيّ الذي انتشر كما لم ينتشر أيّ كتاب آخر في الغرب كما في الشرق. جبران يمثّل لبنان الذي اعتدّت سلمى حايك بالرجوع إليه، وهو رمز للصورة الحضاريّة لهذا البلد الصغير بمساحته الجغرافيّة، والكبير بما قدّمه للعالم. ومعلوم أن إسم جبران في العالم مرتبط باسم وطنه الأم لبنان، والعكس صحيح. كلّ هذه الأمور مجموعة بعضها الى بعض تشير الى مدى معرفة سلمى بوطنها الأم ومدى اعتدادها بجذورها وهو الأمر الذي لم تخفِه أبداً.  إعتدادها بأصولها واضح وإن كان يحمل عنصر المفاجأة، سيّما وأن كثيرين منّا لا يفعل الأمر نفسه.



كيف برأيك أسهم هذا الفيلم في القاء المزيد من الاضواء على تجربة جبران وارثه؟

أحد أهدافنا في لجنة جبران الوطنيّة هو نشر فكر جبران في لبنان والعالم. ونحن نقوم بكلّ ما يمكن أن نقوم به تحقيقاً لهذا الهدف، من مثل إقامة المعارض أين مكان في العالم، أو استحداث المؤتمرات الخاصّة بحياة جبران وأعماله ... وكان آخرها في ولاية مريلاند في الولايات المتّحدة الأميركيّة. ولكن ... قد تكون السينما هي أبلغ وأسرع طريقة لإيصال هذا الفكر، ولهذا وافقنا على إقامة الفيلم بعد مفاوضات لم تكن قصيرة نسبيّاً، للتأكّد من أن رسالة جبران في كتابه النبي ستبقى كما أرادها كاتبها أن تصل الى الجميع. وإذا اضفنا الى كلّ ذلك القيمة المضافة إليه، وأعني هنا سلمى حايك وليام نيسن وروجر أليرز، والمخرجين الآخرين وأبرزهم الصديق محمد سعيد حارِب من الإمارات، فلا بدّ أن الفيلم الذي قد يكون مدخلاً ودعوة للدخول في فكر جبران الواسع، الاجتماعي والفلسفي. أظنّ بأن فكر جبران سينتشر أكثر فأكثر من خلال هذا الفيلم في العالم سيّما وأنّه موجّه الى كلّ الناس بمختلف فئاتهم العمريّة. وسيتعرّف النشأ الجديد على جبران وقد يكون هذا أنبل الأهداف، لأنّ التوجّه الى جيل الشباب برسالة المحبّة والسلام والإخاء البشري وخاصّة في منطقتنا الشرق أوسطيّة أمرٌ بات ضروريّ في ظلّ تقاعس المؤسّسات التربويّة العربيّة عن القيام بهذا الأمر.



برايك لماذا شكل هذا الكتاب الاستثنائي لجبران منبعاً لإلهام القراء بكل اللغات جيلا بعد جيل؟

كتاب النبي لجبران يتناول موقف وحلّ من قضايا إجتماعيّة ثابتة في كلّ المجتمعات. هو يطرح إشكاليّات إنسانيّة وجوديّة يرى المرء نفسه دائماً في مواجهتها في كلّ زمان وفي كلّ مكان.  الكتاب مثلاً يتحدّث عن المحبّة، عن جوهرها، عن قوتّها الكامنة في ذاتها، فهي لا تأخذ ولا تعطي إلاّ من ذاتها. ويتحدّث عن الزواج وعن الأولاد بطريقة صادقة مع النفس، وهذا يعني أنّنا كلّنا سنقول نفس الكلام وسنشعر به إذا ما كنّا صادقين مع أنفسنا ... يتكلّم أيضاً عن أمور مختلفة من مثل الشرائع والقضاء والعطاء والتعليم والدين وصولاً الى الموت نفسه، ولكن بنظرة إنسانيّة غارقة في إنسانيّتها. لذلك وجد العالم، كلّ العالم، نفسه أمام قراءة إنسانيّة عميقة لهذه الإشكاليّات الدائمة ممّا بدا وكأنّه ثورة على الذات وعلى المفاهيم السائدة، فانتشر الكتاب في كلّ أصقاع الأرض وبيع منه أكثر من مئة مليون نسخة في العالم كلّه. وما زال الى اليوم الكتاب الأكثر مبيعاً بشهادة دور النشر المختلفة والموجودة في كلّ مكان من الشرق الأقصى الى الغرب الأقصى إذا جاز التعبير. المسألة تدخل الى العمق الإنساني بتأثير كبير يغيّر حتماً في طريقة العيش المجتمعي، والتفكير التقليدي بهذه المسائل. من هنا أهميّته وسبب انتشاره عالميّاً.
 

ماذا تريد أن تقول لمن لم  يشاهدوا او يطلعوا على كتب جبران ؟

أوّلاً أدعوهم للإطلاع على كتب جبران، على دخول هذا الفكر المنتشر في العالم. وقد تكون بداية هذا الدخول هو التعرّف على حياة جبران نفسه. ففي حياته الكثير من العبر والدروس التي أوصلت جبران لنشر فكره خاصّة في كتاب النبي. ثمّ أن يقرأوا كلّ كتبه ليتعرّفوا الى آرائه الإنسانيّة العامّة والتي قبلها العالم كلّه. حان الوقت ربّما لكي نتغيّر من داخلنا، لكي نتحوّل في طريقة تفكيرنا وعملنا. وأن ندرك أنّ كلّ فرد منّا هو قيمة بحدّ ذاته. إنّ جبران يحثّنا على ذلك. أيضاً أودّ أن أتوجّه وبمحبّة للمسؤولين عن الثقافة في دولنا العربيّة، وزارات الثقافة ووزارات التربية، أن يدخلوا جبران وربّما الكثير من أمثاله الى المنهج التربوي والثقافي عامّة، فنحن بأشدّ الحاجة الى هذه الأفكار الإنسانيّة في عصرنا اليوم، الى السلام والمحبّة والإخاء البشري.


هل يمكن ان يشكل هذا الفيلم مدخلا لتعاون بين الشرق والغرب لإنتاج افلام تسلط الاضواء على تراث المنطقة العربية الثقافي؟

هو هكذا فعلاً. إنّه مدخل أكيد لأفلام مستقبليّة تسلّط الظوء على ثقافة وتراث غنيّين، ترتكز عليهما المنطقة العربيّة. فيلم "النبي" لجبران ليس إلاّ بداية، والمنطقة غنيّة بالنهضويّين الذين أيقظوا الوعي والإدراك عند الشعوب العربيّة، ليتعرّفوا على حضارتهم التاريخيّة من جهة، ولكي يخرجوا من عصر الإنحطاط الذي امتدّ الى أكثر من ثلاثة قرون في الزمن من جهة أخرى. وفي هذا الصدد نحن في لجنة جبران الآن، نفاوض لإنتاج فيلم عن حياة جبران نفسه لما فيها من عبر ودروس. أملي كبير أن يكون هذا الفيلم فاتحة خير على الجميع من ناحية الإضاءة الثقافية والإعلاميّة على كنوز هذه المنطقة.