الاثنين، 30 يوليو 2018

هوية من تاريخ


هويّة من تاريخ


ما كان التاريخ يوماً تاريخ أرض جامدة بل، هو دوماً تاريخ الشعوب. فالناس هم الذين يرسمون مسيراتهم على دروب هذه الحياة، فيصنعون تاريخهم ويتناقلونه. ويرسّخون بذلك هويّتهم التي تشدّهم، بعضهم الى بعض، مجموعات تنمو وتبقى وتستمر. والحال يبدو لي أنّ سؤآلاً من مثل "ما هي هويّتك؟" يعني بالضرورة "ما هو تاريخك؟" والعكس صحيح. الإجابة على هذين السؤالين أتى بوضوح في كتاب علميّ تاريخيّ للباحث "فادي توفيق كيروز" بعنوان "هويّة من تاريخ". كتاب يبحث في تاريخ الشعب المسيحي في لبنان فيجلو هويّته ويثبتها خوفاً عليها من الضياع وعلى هذا الشعب من الإندثار وبالتالي الموت.



 الكتاب يستند على ما اتّفق على تسميته عالميّاً بالمدرسة الحديثة في التاريخ. قوامها متغيّرات عديدة قامت على تطوّر نظام المعلوماتيّة وبالتالي على سهولة تبادل المعلومات من جهة، وتطوّر التكنولوجيا بصورة عامّة وبالأخصّ: تحديد صبغة الحمض النووي، والتصوير الثلاثي الأبعاد، ودقّة استعمال الكربون الشعاعي ... الخ. ويستند الكتاب أيضاً على أرشيف المكتبات العالمية الكبرى ذات الصلة، وهي متعدّدة، وأهمّها مكتبة الفاتيكان التي فتحت لمراكز الأبحاث والتي تملك أرشيفاً ضخماً للمعلومات، كما أرشيف بعض المتاحف من مثل متحف برلين والقاهرة وإسطنبول. كما يستند أيضاً على جهد الباحث الشخصي في اكتشافات عديدة قام بها في وادي قنّوبين، في مغاوره وحتى صخوره الخارجيّة ودروبه الوعرة، دارساً المستندات التي وجدها والكتابات المحفورة والأواني القديمة والألبسة وحتى المومياءات التي بقيت على حالها تقريباً لأسباب مناخيّة مؤآتية. الكتاب إذاً هو، بوضوح، كتاب علميّ، ولأنّه كذلك، فلا يقبل مضمونه الشكّ به...
أهمّ ما في الكتاب هو تسلسله المنطقي في بحثه التاريخي الطويل الممتد منذ ما قبل التاريخ وحتى إعلان لبنان الكبير في بداية القرن المنصرم. إنّه للحق تاريخ شعب مسالم بالفطرة ولكنّه يستميت في الدفاع عن أرضه التي يعتبرها مقدّسة. فهو أوّل الشعوب التي استقرتّ في أرضها وأنشأت مدنها فغلبت صفة "كنعان" والتي تعني المستقرّ على هويّته. وهو للحقّ أيضاً، تاريخ شعب مبدع خلاّق ولكنّه فرديّ النزعة وليس مفطوراُ على العمل كجماعة. لقد اخترع الأبجديّة وأهداها للعالم، ووضع مبادئ علمَي الملاحة والتجارة وغيرها من الإبداعات الكثير، وهو استمات عبر القرون لكي يحافظ على حريّته التي من دونها لا يحلو له عيش. لقد استطاع الأجداد أن يصمدوا طيلة سبع مئة سنة تقريباً في أرضهم، بالرغم من كلّ المخاطر والحروب والحصارات التي طاولتهم، فصمدوا صموداً يكاد يكون أسطوريّاً عجزت عن تفسيره مراكز الأبحاث التاريخيّة في العالم. خاضوا معارك بطوليّة وتحمّلوا بصبر بطوليّ أيضاً كل حصار وظلم وانتقام. واستطاعوا بفكرٍ فذّ أن يستفيدوا من خبرتهم الحياتيّة هذه ليكملوا إبداعاتهم التي نجهد كي لا تكون قد انتهت، فأحدثوا نهضة فكريّة من حواليهم ما زالت كلّ المجموعات تنهل منها، وأبدعوا في مسألة حقوق الإنسان ليرسموا بذلك صورة العدالة لكلّ الأمم. كان ذلك منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين تقريباً. ولكن ماذا فعلوا بعد ذلك؟ وما هو الحال الذي هم عليه الآن؟
عند إعلان لبنان الكبير كانوا يملكون من أراضي لبنان أضعاف ما يملكونه الآن، ذلك أنّهم كانوا يعرفون هويّتهم فيرفعونها عالياً ويتمسّكون بأرضهم. أجدادنا أورثونا وطناً جميلاً نظيفاً بعد ما حافظوا عليه بدمهم ودموعهم وعرقهم، فهلاّ سألنا أنفسنا أيّ وطن سنورثه لأولادنا؟ إنّ الخوف من ضياع هذه الهويّة، وبالتالي من ضياعنا جميعاً، هو سبب وجود هذا الكتاب. هل من المفيد أن نذكر إنّ "بولندا" تعرّضت لأقسى الإحتلالات في تاريخها، ولأبشع محاولات الإلغاء إن من النازيّين أو من السوفياتيين ولكنّهم، وبسبب تمسّكهم بهويّتهم، صمدوا بشكل أسطوري، ثمّ ساهموا مع البابا يوحنّا بولس الثاني في إسقاط الإتحاد السوفياتي الذي حاول إلغاءهم؟

قد يطرح شاكٍّ أو متذاكي، وأمثاله كثر بيننا في هذا الزمن البائس، انتقاداته من باب مسألة العنصريّة والطائفيّة وحتى المذهبيّة لينقض أهميّة الكتاب التاريخيّة ولغرض في نفسه لن نغوص فيه الآن. وذلك بسبب أنّ الكتاب يطرح تاريخ فئة واحدة في لبنان الذي يضمّ فئات أخرى غيرها. ويعتقد أنّه بذلك يستطيع طمس الحقيقة الى الأبد، ناسياً أم متناسياً أنّ الحقيقة ستظهر عاجلاً أم آجلاً، إذ هي صنو النور الذي متى حضر طرد العتمة من دون إذنها وحلّ مكانها. وللحقّ، إنّ الكتاب حدّد منذ البداية أنّه يُعنى بتاريخ المسيحيّين في لبنان وبشكل واضح، ولم يقل أبداً أنّه كتاب تاريخ كلّ طوائف لبنان. وعليه، إنّ تاريخ المسيحيّين هذا يستند الى مستندات لا تقبل الشكّ وهو هكذا بالضبط، أيّ كما جاء في الكتاب. فحبّذا لو يأتي من يكتب تاريخ الطوائف الأخرى بشكل علميّ دقيق كما تمّ الحديث عنه سابقاً، فيعرف كلٌّ منّا تاريخه ونتقارب على هذا الأساس، ونعلي من شأن هذا الوطن الذي نحبّ جميعاً. وهكذا إنّ أيّ انتقاد مستند الى مراجع علميّة سيكون حتماً مرحّباً به، أمّا كلّ انتقاد آخر، شعبويّ، عصبيّ، غرائزيّ، سخيف فلا يستحقّ حتى الردّ عليه.

  إنّ مسألة كتابة تاريخ موحّد للبنان لن تحلّ أبداً. فالكتاب المفترض هذا لن يرى النور حتى ولو صدر بالقوّة والقهر. فلا يمكن أن يصدر كتاب موحّد يساير كلّ الطوائف من دون أن يكون كتاباً كاذباً. ألم نجرّب الكذب في تعاطينا بأمور مختلفة؟ وعلى ماذا حصلنا؟ ألم نلبس أقنعة ليست بأقنعتنا وامتشقنا هويّة أو هويّات ليست بهويّتنا؟ فهل أستطعنا أن نتجنّب بذلك حروبنا الداخليّة والإضطرابات؟... فلنجرّب الصدق ولو لمرّة واحدة، فلنجرّب الحقيقة. ألا يستحق منّا هذا البلد أقلّه هذه التجربة؟