الأربعاء، 18 مايو 2016

في حفل إطلاق مجموعة موسيقيّة للفنان "جمال أبو الحسن".

حفل إطلاق مجموعة موسيقيّة للفنّان جمال أبو الحسن.
13 أيّار 2016
د. طارق الشدياق، رئيس لجنة جبران الوطنيّة



أيّها الحضور ...
ونتّفق مع جبران، أنّ الموسيقى هي لغة النفوس، وأنّ الألحان هي نسيمات لطيفة تهزّ أوتار العواطف. هي حديث القلب للقلب، تستحضر ذكريات الحزن والفرح. وهي كالمصباح تطرد ظلمة النفس وتنير القلب فتظهر أعماقه. عن تلك الأعماق تسبرها موسيقى الصديق جمال أبو الحسن، جئتكم أتكلّم.
عندما تقف صباحاً أمام ورقة نديّة لنبتة خضراء، وتمسح من عليها، بأصبعك، قطرة ندى تلمع، وتشعر ببرودتها تجري في ثنايا أعماقك، ثمّ تقف لا تفكّر إلاّ بجمال الطبيعة الأخّآذ، تكون قد اقتربت من إدراك موسيقى الجمال والحسن. نغماتها الرقراقة، السلسة، تنساب بخفر على سامعتيك، وتقبض على قسمات وجهك، ليعود يحمل من البراءة ما ينيره بفيض. وينقبض قلبك من موسيقى موجات السحر التي تأسر من يلتقيها بسرعة الريح ولكن بفرح كبير. إذا ما سمعتها بثنايا عروقك خسرت المعركة قبل أن تبدأها، إنّك حالاً مستسلم، أسير. أمّا النجوم الطائرة من حولها تقذفك بعيداً في المدى، إذ تختفي الحدود في نعومة النغمة وسلاستها، ولن تعود إلاّ متى أُطفأت الأنوار، تذكّرك بأنّك بعد على هذه البسيطة، وتعيدك من السماء الى الأرض. إنّها، بكلمة، مملكة المجد والجمال، وجمالٌ هو ملك من ملوكها.
هذا ما خبرَته روحي ليلة استدعاها جمالُ في أمسيته الرائعة التي أقامها في ساحة ماري هاسكل في حرم متحف جبران خليل جبران، وقد قدّم رائعاته لجبران نفسه. وقتذاك، والى اليوم، ما كنت لأدري: هل كانت النغمات تراقص جماد الأرض أم كانت السماء تغنّي. وقتذاك، كنت موقن أنّ في مختلجات أبو الحسن وميضات إبداع تحاكي النجوم.
موسيقاه، هي هي الموسيقى العذبة، التي تستحضر، فيك وأنت سامعها، "ذكرى أويقات الصفاء والأفراح"، أو، "ذكرى ساعات الأسى والحزن"، والموسيقى واحدة. تلك هي نعمة المبدعين، وهم بالنعمة قادرون أن يخرجوا من شفتيك ابتسامة سعادة، وأن يخرجوا من عينيك دمعة محرقة. إنّها قدرة موسيقاهم الراقية لتعيدك الى ذكريات ماضٍ سعيد، أو ماضٍ آلام كلوم خرقها ناب الدهر. ونحن، على ما يؤكّده جبران نفسه، قد "لا ندري ما يقوله العصفور فوق أطراف الأغصان، ولا الجداول على الحصباء، ولا الأمواج إذ تأتي الشاطئ ببطء وهدوء"، ولا المطر إذ يتساقط على بلّور نافذة أو أطراف ورق شجر، ولا النسيم لزهور الخقل، ولكنّنا نشعر أنّ قلبنا يفقه مفاد جميع هذه الأصوات. يقيني أنّ أبو الحسن يجسّد ما لا ندريه بنغمات الإبداع، ويعبّر عمّا نشعر به ولا نستطيع نحن أن نعبّر عته بمفردات الجمال.
اليوم يطلق أبو الحسن مجموعة من موسيقاه، أخالها، بل أكاد أجزم أنّها مختارةٌ  للمبصرين في "عتمة اليوم" . وذلك لسبب تعلمونه ويعلمه جمال بلا شكّ، وقد خبرته أنا بخسارة من غاص رغماً عنه في لظى حضارة الإستهلاك ونفاياتها المعولمة. أستميحكم العذر إذاً أن نتذكره معاً، فأنفث فيه غضباً مكبوتاً، وأكسر عنق صبابتي التي قد تروي وإن لم تكن غيلاً.    
السبب... هو أنّنا لم نعد في زمن العمالقة.          .
لقد رحلت ال "بيضاء بياض الثلج"  وما بقي سوى الأقزام. أنظر الى الفنّ المتلفز، فبين الخبر والخبر رقصة أجساد نحيلة، على موسيقى هابطة، تحار كيف تلتقط رأسها لخفّة وزنه، تقوم على إيقاع بطنِ أملس، لا سَبَد له ولا لَبَد، إبتلع من المال الأخضر حتى التخمة، فغرغر وعرعر واشتدّ وانتصب، وساد وماد وهاج وماج، ثمّ اهتزّ ووقف يتلقّى الشكر بتصفيق حادّ من مراهق جمُدت فروة رأسه، وما تحتها، بصمغ "السبايكي". لا ... لم نعد في زمن العمالقة. وقد لا يكون هذا الزمن زمن أبو الحسن وأمثاله، ولكن في زمن الهبوط شيمة العمالقة أن يستمرّوا في التحدّي. وفي زمن اللاعمالقة تصبح موسيقى أبو الحسن -  تلك التي أبدعها على إيقاع نبضات قلبِه حيث عبيط الدم يخرج الجهد من جبهتِه قطرات هي نجوم المبدع – حجّة عليه، وجبرانه المجنون أكثر جنوناً. ولكن ... 
أنا أعلم، وأنتم تعلمون، أنّ نبح الكلاب لا يضرّ بالسحاب، وأنّ البئر أبقى من الرشاء ... ولهذا أعلم أنّي ما وفيت حقّ مبدعنا بكلمتي هذه، أقول هذا ليس لتواضع منّي بل لأنّه إذا كانت الذات الإنسانيّة واحدة، فذات جبران وذاتك يا جمال وذاتي واحدة. ولا يكمن الفرق إلاّ بشفافيّة المعرفة، وهي بلّورية عندكما، أمّا عندي فما زالت مادّتها كثيفة بعض الشيء، وهي ما زالت قابعة على بلاطة غير قادرة على التحليق، وإن كانت تملك نعمة النظر الى فوق حيث المحلّقين.

فهنيئاً لنا جميعاً، هنيئاً للجمال، للنغمات، للإبداع، للفنّ الرائع. والشكر لك يا جمال. والشكر الكبير لكم لسماعي.