الاثنين، 11 سبتمبر 2017

الحبر الأسود أسود


الحبر الأسود أسود [1]

الحزن، لأنّ الله كتب للبعض منّا أن يعي حالةً، أو وضعاً نعيشه جميعاً. فطوبى للذي لم يصبه هذا الوعي بعد. ولأنّ الوقت الذي يمرّ يؤكّد بمروره أنّنا عاجزون عن فعل أيّ أمر تصحيحيّ ينتشلنا من هذا الدرك الذي نحن فيه. فالزمن ليس زمن العقل ولا الأخلاق ولا القيم. إنّه زمن الحروب العصبيّة، الحاقدة، اللاإنسانيّة. زمن الموت الرخيص، الإبادة البشريّة، زمن العصر الحجري حيث لا رادع إلاّ ما يسمّى توازن الرعب. زمن الكذب على الذات وعلى الآخرين، على المسؤولين أنفسهم وعلى إعلام المسؤولين. إنّه حزن عميق، مرارة قاتلة، ألم دفين، وجع قلب وعقل، فما نمرّ به ليس بالأمر البسيط، المؤقّت، إذ يبدو أنّ الإطار قد تعب من كثرة الدوران فتوقّف هو لنحزن نحن.
ما عاد حلم الزمن الأوّل قائماً. جماعة ذلك الزمن، أرادوا أن يجعلوا من هذا الوطن منارة قيم ومبادئ وطنيّة، وثوابت هي أعمدة تثبته قويّاً قائماً بذاته وتثبت ناسه المؤمنين بها. أرادوه منارةً هي من ثقافته لبّها، ومن تعدّده وتنوّعه غنى. وطن حرّيات وقانون وعدالة، وطن الإختلاف الفكري، الثقافي وحتى الحضاري. لم يعد هذا الحلم قائماً. لقد استبدل بحلم آخر، حلم لمن ستكون الغلبة. وغلبة على من؟ غلبة على الذين إذا تغلّبت عليهم فقدت الوطن، وألحقته بنوع من الأوطان أراد بوعيٍ أن يختلف عنها. أرادوا، أولائك الأقدمون، أن يثبتوا لبنان على الخريطة السياسيّة العالميّة وأن يثبتوا ناسه أنّهم لبنانيّون مستقلّون أسياد متميّزون، فأصبحنا كلّ شيء إلاّ لبنانيّين. أصبحنا كلّ الشعوب، كلّ المصالح، كلّ العصبيّات إلاّ لبنانيّين لنا مصالحنا المميّزة المشروعة، ولنا عصبيّتنا الوطنيّة المحدّدة، ولنا حلمنا برسالة للعالم كلّه، هي أقدس كلّ الرسالات. هل نستطيع أن نتصوّر بلداً لا يحترم مسؤولوه شعبه، دستوره، قضاءه، قواه الذاتيّة؟ هل نستطيع أن نتصوّر بلداً لا يرى حلاً لأزمة إقتصاديّة أوقع نفسه فيها لغياب العقل إلاّ زيادةً في الضرائب؟ هل نستطيع أن نتصوّر بلداً غارق في الفساد الذي نحن فيه ويرفض العمل على الخروج من غرقه بسبب غياب الحسّ بالمسؤوليّة، والوطنيّة؟ هل نستطيع أن نتصوّر وطناً يقوده مسؤولوه الى الهاوية بسرعة قاتلة وهم غير مبالين؟ لماذا أصبحنا على هذه الحال؟ أين ثقافتنا التي طالما تغنّينا بها؟ أين عقلنا المشعّ المنير وقد حسبنا أنّنا بلد الإشعاع والنور؟
نحن من أوصلنا أنفسنا الى هذا الوضع. هل تناسينا أنّنا في زمن البلاشفة كنّا بلشفيّين أكثر منهم؟ شيوعيّين أكثر من ماركس نفسه؟ وفي زمن تشي غيفارا كنّا غيفاريّين أكثر منه؟ وفي زمن عبد الناصر كنّا ناصريّين أكثر منه؟ وكنّا عرفاتيّين وفتحويّين وجبهويّين، وفي الزمن الأخير أسديّين وخمينيّين. وفي كلّ ما كنّاه، لم نكن أبداً لبنانيّين. وما زلنا الى الان كلّ هؤلاء.
في الأمس القريب، يوم كان لبنان ذو وجه عربي، كان الجدل في مسألة هويتنا شديداً. جدل طال مختلف الفئات. هل لبنان دولة عربيّة أم لا؟ اليوم يبدو الجواب أوضح من الأمس. نحن دولة أكثر عربيّة من أيّ دولة عربيّة أخرى. نحن لا نحترم شعبنا ، ولا دستورنا ولا قضاءنا ولا جيشنا. نحن لا نفهم العمل السياسي إلاّ ممارسة كيديّة بعضنا على بعض. نحن الأشدّ فساداً. لقد حسم الجدل. فهنيئاً لكم يا من لم تعوا بعد، هنيئاً لكم جهالتكم، والحزن لنا.  



[1]  - أستعير هذا العنوان مستأذناً الصحفي الراحل ناصر النشاشيبي صاحب كتاب "الحبر الأسود أسود".

الأربعاء، 1 مارس 2017

أموات تحاكي أمواتاً


أموات تحاكي أمواتاً

يبدو أنّ العالم، خاصّة الغربيّ منه، أخذ كل الفكر فخالطه، ومازجه، وعالجه، وتشرّب منه، واقتات منه غذاءً للروح فصفا، وللعقل فنما، وللجسد فسلم، وما ترك لنا في هذا المشرق الحزين شيئاً منه لنتدبّر أمرنا، فتقاتلنا براعةً وتذابحنا وراعةً، وكفّرنا تكفيراً ورجّمنا ترجيماً، وارتضينا الموت نصيباً بدلاً من الحياة، وفي ظنّنا أنّ الله من عليائه يبتسم لنا راضياً مرضيّاً. والمسألة ليست وليدة ساعتها، أو وليدة السنوات الأخيرة القليلة الماضية فقط. نحن نتحدّث عن خمسة قرون مضت على الأقلّ. خمسة قرون كانت كافية لنتغرّب عن الفكر، عن الثقافة وعن الإبداع. فتغرّبنا عن التطوّر والتقدّم، وعن الحقّ والواجب، وعن الرقيّ والسمو. ولسان حالنا - لسان حال العباقرة، الجهابذة، الملافنة - أنّ الحقّ في ذلك، كلّ الحقّ، على الغرب الإمبريالي الذي احتلّ الفكر استعماراً، واستأثر بالعلوم احتلالاً، وطمع بالآداب والفلسفة والفنون فجعنةً، وما ترك لنا شيئاً نفعله سوى شحذ السيوف لتقطع رؤوسُنا رؤوسَنا. أفيكون كثير علينا أن نتمنّى له الموت؟ فالموت لك أيّها الغرب الحيّ، والحياة لنا نحن الموتى.
 خمسة قرون على الأقلّ، ونحن في سبات مرضيّ، بالرغم من بصيص أمل أتت به نهضة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. نهضة ما لبثت أن خفتت بدليل أنّها لم تستطع أن تجعل المريض يستفيق، لأنّ في دمه يجري ما هو أثقل من الزئبق، ويشتدّ كثافةً أمام التجدّد والإنفتاح والحداثة. بل إنّ أكثرنا تندّم على تلك الحقبة، وتمنّى لو يستطيع إزالتها من ماضيه أسفاً وتحسّراً. وها نحن نعيش اليوم عالةً على العالم العامل، الراكض الى ما ينفع الناس، كما تعيش الفطريات على جذوع الأشجار. ها نحن، لا طاقة لنا على الحركة، فبالكاد نأكل وننام ونفرش الأرض أطفالاً. ولو كانت حركة التنفّس إراديّة لأرحنا العالم من تنبلتنا وعقمنا وثقلنا وتفاهتنا. خمسة قرونٍ ما قدّمنا خلالها الى العالم سوى عواطفنا وأحاسيسنا على ورقة شعر، وبكاءنا ونواحنا على ورقة استجداء، وأحكامنا بعضنا على بعض على ورقة قضاء، وادعاءاتنا بأنّنا أصحاب الجنّة والقيّمون عليها. ولن نُدخِل إليها أولائك الشياطين الذين خدموا الإنسانيّة في علومهم واكتشافاتهم وتطوّر عالمهم خدمةً لهم ولنا. فمثواهم النار خالدين فيها ومثوانا الجنّة وما فيها من كنوز ومن فيها من طيّبات ولذيذات.
وإذ أعلم كلّ هذا، أتساءل لما أكتب كلّ ما أكتبه الآن؟ ولمن؟

أكتب لأنّفث غضباً مكبوتاً. أكتب لأصيب الجميع. فإن اكتفيت بهذا السبب سأكون والله سعيداً. أكتب لكيّ أعرّي كلّ ذات أمام الحقيقة. والحقيقة أنّنا قومٌ لا شأن لنا ولا مكان في مسيرة الإنسانيّة اللاتتوقّف. وأكتب لأنّي أريد أن أصرخ في وجوه نابغاتنا أن يكفي نبوغاً فارحمونا. أكتب لأنّنا فقراء عقل وفكر وندّعي أنّنا سبب شروق الشمس على العالم قاطبةً. وأكتب لأنّنا نجترّ ماضينا ونرفض التغيير في عالم يتغيّر في كلّ ثانية. أكتب لأنّنا نحشد لمن كان من ملّتنا، من مذهبنا، من ديننا ظالماً كان أو مظلوماً. فإن أخطأ أخونا وسقط، أسقطنا جميعاً معه. فلا نعرف الحقّ، وإن عرفناه نغضّ عنه الطرف، لأنّ كلّ ما هو خارج القبيلة عدو. نار القبيلة إذاً ولا جنّة الأعداء. وأكتب لأنّنا لا نركض للحصول على حاجاتنا بل نصلّي لله أن يأتينا بها على قاعدة "صلِّ ودع الله يقلق". أكتب بقرفٍ واشمئزاز لأنّنا، ومنذ خمسمئة سنة، نقبع في نفق مظلم، ولا نتحرّك، مشلولين عُجّز، ونغنّي على ربابتنا: "أما لهذا الليل الطويل أن ينجلي؟" واكتب لأنّنا شطّار في الدين، وشطّار في السياسة، وشطّار بعد أكثر لأنّنا جمعنا الدين والسياسة معاً فكنّا أحذق وأعلم وأفضل من أولائك في الغرب الذين، يا لتعاستهم، فصلوا الدين عن السياسة، واهتمّوا بشؤونهم وقضاياهم ومشاكلهم الحياتيّة. أكتب للذين يعرفون كلّ هذه الأمور ويخرسون، فيزيدون الموت موتاً والأموات أمواتاً. فإذا كان الحمار لو ضُرِب شهنق، والكلب عوى، والحصان صهل، أفلا يجدر بنا، يا عديمي النظر والحسّ والمسؤوليّة، أن نفعل مثلها؟
ولا يحسبنّ أحدٌ أنّنا في لبنان لأفضل بكثير من البقيّة الميّتة في هذا الشرق. ففي رؤوسنا الجرثومة عينها. إنّنا أمواتٌ هنا نتسامر مع الأموات هناك. بالأمس قام رجال نهضتنا يحدّثوننا عن الرقيّ والتقدّم والتطوّر. بالأمس كلّمونا عن الحرّية حتى حملناها ألوية بيضاء: حرّية الفرد، والتعبير، والإختلاف، والتعليم ... وعن مسألة تحرير المرأة، وحقوقها، وعن الحقوق والواجبات، وعن الاستقرار والسلام والعيش الهانئ، وعن العمل الذي يرفعنا، والإبداع الذي يضعنا في مصاف مفكّري  العالم. بالأمس حدّثونا عن الحسد والخبث والطمع والأنانيّة كآفات تشدّنا الى أسفل، فصفّقنا لهم في غرفنا المغلقة. وبالأمس رحلوا وكأنّهم لا أتوا ولا ذهبوا. فوالله لو عرفوا أنّ ما خطّوه وحاكوه مصيره الى زوال، لطلبوا لنا النار تلتهمنا خدمةً للعالم. وها نحن ما زلنا عبيداً نحلم بالحرّية، ولا نهتمّ لمسألة الحقوق عامّة فكيف بما هو حقوق المرأة، لا نعرف الحقّ ولا نميّزه عن الواجب. ما زلنا قادرين على نفي السلام بلحظة غضب طائفيّة، مذهبيّة، خسيسة. ولا نتواضع لنعمل بل نحسد بعضنا بعضاً بحقد ما بعده حقد، وخبث ولا خبثّ الضبّ، وطمع ولا طمع الذئب في القطيع.
منذ حربنا المشؤومة، حرب العام 1975، أوقفنا النهضة وأحلناها الى التقاعد. وأوقفنا معها مسيرة بنائنا التي يكفي أن تتوقّف حتى تتأخّر. وما زلنا نعيش تداعيات الحرب وروافدها. وكمسجون عتيق خرج الى الحرّية رحنا نستسهل كلّ شيء، وخفّفنا من الروادع التي تربّينا عليها. وانقسمنا وما زلنا منقسمين لأنّنا طائفيّين، مذهبيّين، متعصّبين، قبائليّين، عشائريّين، صغار النفوس الى درجة ما بعد الإنحطاط. ولاؤنا للطائفة وللمذهب في الداخل والخارج، ونسينا أنّنا مؤتمنون على وطن هو كلّ ما نملك، وهو كثير. ولأنّنا نوابغ فجّرنا عبقريّتنا بأن قرّرنا الجلوس على طاولة حوار وطنيّ، نجلس فقط لنتسامر، وما زلنا نجلس عليها. وما اهتممنا بشيء. لا بالحجر ولا بالبشر. لا بالكهرباء ولا بالمياه، لا بالمواصلات ولا بالإتّصالات، لا بالتعليم والتربية ولا بالأمن والإستقرار، ولا بالإيرادات ولا بالنمو، ولا بحقوق الناس الصحّية ولا بحقوقهم بتحسين ظروف العيش، لأنّنا أدمنّا في فترة الوصاية على الفساد في كلّ الميادين. هاجر أبناؤنا للإسترزاق بعد أن سدّت سبله في وطنهم ورحنا بوقاحة غير موصوفة نتغنّى بثروتنا الإغترابيّة، وبالأعجوبة اللبنانيّة. كفاكم يا أهبل الناس، كفاكم هبل. اعلموا أنّا نستسخفكم كما يستسخفكم العالم. العالم من حولنا في سباق لنشر لواء التمدّن ونحن نيام بل أموات محنّطون. لقد حوّلنا حياتنا الى أكل وشرب ونوم وفساد وخمول وتنبلة وهبل ورضينا أن نبقى حفاة عراة وبالكاد نلثغ.

أليس غريباً أن لا نرفض واقعنا؟ ولكن كيف لنا أن نرفض وما فعلنا ذلك من قبل؟ بالأمس كفّرنا رجال نهضتنا لأنّهم حدّثونا عن وجعنا، فطالبنا بحرق كتبهم. وجابوا العلوم الإنسانيّة والوضعيّة، والفلسفة والإجتماع، فرميناهم بالهرطقة. بالأمس كفّرنا شبلي الشميل وفرح أنطون قانعين، ومنعنا كتاب النبي لجبران في إحدى المدن العربيّة بسبب عنوانه ليس إلاّ، ونبذنا أفكار ميخائيل نعيمة العلمانيّة. بالأمس قتلنا فرج فودة لأنّه تجاسر ففكّر، ونفينا نصر حامد أبو زيد لأنّه تجاسر فبحث. بالأمس حاولنا أن نتحرّك فطيّفنا حراكنا وسيّسناه وأثبتنا أنّنا لا نعرف حتى كيف يكون الحراك. وكانت النتيجة أنّنا بالأمس كأنّنا لا تحرّكنا ولا تململنا ولا حتى عرفنا كيف نقف دقيقة صمت حداداً على أنفسنا. فلما نفعل الآن؟ أكل، شرب، نوم ونوم ونوم ... فماذا نقول بعد؟ لن نقول إلاّ الكلمة التي قالها جبران من مئة سنة: "أكرهكم يا بني أمّي لأنّكم تكرهون المجد والعظمة. أحتقركم لأنكم تحتقرون نفوسكم".   

الاثنين، 13 فبراير 2017

كلمة في دفن المرحومة ماري جعجع "أمّ الحكيم".

كلمة في دفن المرحومة ماري جعجع "أمّ الحكيم".

"دعوني أنم فقد سكرت نفسي بالمحبة .دعوني أرقد فقد شبعت روحي من الايام والليالي. اقتربوا وانظروا خيال الله في عيني واسمعوا صدى نغمة الأبدية متسارعة مع أنفاسي. وامسحوا الدموع يا رفاقي ثم ارفعوا رؤوسكم مثلما ترفع الأزهار تيجانها عند قدوم الفجر".
لو كان للسيّدة التي يجمعنا رقادها الآن أن تقول كلمة أخيرة لفاهت بكلّ هذا الكلام وزادت عليه، لأنّها أحبّت الحياة وهي حلم، وعرفت كيف تموت فاستيقظت من حلمها. لم تكن تخاف الموت، فسيّدة مثلها عانت ما عانته، وتحمّلت ما تحمّلته لا يمكن أن تخافه. وهي المؤمنة العارفة أنّه لو كان الموت يصنع شيئاً لأوقف مد الحياة التي من قوة الله الحي تنبثق وتنداح.
مدرسة صلابة وعناد في الحقّ. ندرت حياتها لعائلتها، مملكتها، مستقبلها. عملت كلّ ما يمكن أن يعمل، مع شريك حياتها الراحل الفريد الكبير، من أجل أنّ يحصّل أبناؤها العلم. كانت تعلم بفطرتها والتجارب أنّ المحدود من الناس مطبوع على حبّ المحدود من الحياة.
صلبة لأنّ ما اعتراها عائقٌ في سبيل تحقيق ما حلمت به بصمتٍ جلل وصبر لا يقاس وبتحمّل شظف الحياة. جبّارةٌ لأنّها لبست التواضع وتزنّرت بدماثة الأخلاق بعد أن خبرَت الدنيا صالحاتها والطالحات. والأمر حقّ ذلك إنّ من لا تلسعه أفاعي الأيّام وتنهشه ذئاب الليالي يظلّ مغروراً بالأيّام والليالي. صلبة لأنّ الإيمان اعتمر في قلبها فجعل منها هيكل صلاة. فثبتت يوم المحن وحتى المنتهى. واستطاعت أن تجني من العوسج تيناً بصلواتها. كان ذلك في الزمن الأوّل، زمن بناء العائلة والبيت والمستقبل. وفي ذلك الزمن أعطت أبناءها بذرة العناد في الحقّ، وفي ذلك الزمن وقبل وقبل كانت تعرف أنّه لا يصحّ إلاّ الصحيح.
وفي الزمن الأسود، زمن اعتقال إبنها، كانت تستمدّ نوراً من الظلمة بمحبّتها. وبالرغم من أنّ السيف كان مغروزاً في قلبها كانت تخاطره من هنا الى هناك، الى ما تحت الأرض، أن من لا يؤثر السجن على الإستعباد لا يكون حرّاً بما في الحرّية من الحقّ والواجب. تحاكي صموده بأنّ الثلوج المتراكمة لا تميت البذور الحيّة. تحثّه على الرجاء فالحقيقة هي كالنجوم لا تبدو إلاّ من وراء ظلمة الليل.
وكانت تقف أمام كلّ رفيق وفي داخلها هاتفٌ أن هذا هو ابنكِ. وفي داخل كلّ رفيق هاتف أن هذه هي أمّك. صلابتها هي صلابة أمّهاتنا. وأمّهاتنا قدّيسات. بهنّ صرنا ندرك أنّ الموت ما هو إلاّ سقوط الزهرة كي تنمو الثمرة.
فيا رفاقها ورفاق الحكيم، لا تعطوا هذه السيّدة الكبيرة بل خذوا منها وهكذا تكرّمونها. ويا أيّتها السيّدة المنتقلة الى حيث الخلود، حتى لو أخذتك الايام بعيدا، وكان ما بينكِ وبين رفاقكِ فراق بحجم مجرة ستبقين حاضرةً في قلوبهم وذاكرتهم.
فالعزاء الحار بإسمي الشخصي وإسم عائلتي، وبإسم لجنة جبران الوطنيّة، للدكتور سمير وعقيلته. وللدكتور جوريف وعقيلته وعائلتهما. وللسيّدة نهاد وعائلتها.
والعزاء كلّ العزاء لحزب القوّات اللبنانيّة، قيادةً وأفراد.
ولبشرّي كلّ بشرّي.
لكم من بعدها طول البقاء.

المسيح قام.