(
كتبت إثر موت السيّد هاني فحص)
بعد موتك، رسالة
إليك...
كانت بداية معرفتي
بك يوم سمعتك تتحدّث عن الفكرة اللبنانيّة، أنت الذي كنت مقرّباً من اليسار
اللبناني، من كمال جنبلاط وجورج حاوي، والعضو في "فتح" ذلك الزمن،
والحاصل على الجنسيّة الفلسطينيّة في هذا الزمن. ومنذ تلك اللحظة، بدأت أدرك لماذا
يطلقون عليك لقب "السيّد المشاكس". كان حديثك عنها يشبه نسائم الربيع
تنساب على الوجوه الورديّة الممتدة من جبشيت في النبطيّة إلى بشري الرابضة على كتف
الوادي المقدّس. حديثك عنها لم يكن يشبه أبداً حديث كبار، كانوا يغالون في شرحها. بل كنت الأبرع، والأهمّ. محبّتك
للبنانك تجلّت يوم قلت: " لبنان بلا مسلمين سنة وشيعة ليس له دور وبلا مسيحيين لا طعم
له". وأدركت أنّي أمام واحد من كبار المنظّرين للفكرة اللبنانيّة لا يجاريه في
هذا التنظير أحد سوى اثنين جعلانا نؤمن بها حقًّاً: البابا يوحنّا بولس الثاني،
وقبله الدكتور شارل مالك.
وعندما التقيت بك،
كنت أودّ أن أسمع منك عنها المزيد ممّا سمعته. ولكنّك رغبت أن تحدّثني عن براءة "الضيعة"
اللبنانيّة إنطلاقاً من ذكريات طفولتك في "جبشيت"، القرية التي لا بدّ
تفتخر أنّها أنجبتك، يا سيّد الإعتدال. حديثك يومها عن "المونة"
اللبنانيّة، وعن طريقة تحضيرها، كان أجمل كلام من إبنِ إلى أمّه. وسألتك لم لا
تدوّن ما تقوله الآن في كتاب، لا بدّ سيكون هداية لجيل اليوم. وأذكر أنّك ابتسمت
متأوّهاً. يومها قلت لي: "في عمر الشباب يأخذنا الحلم بالنصر، النصر على كلّ
شيء. أمّا في هذا العمر، فندرك كم نحن صغاراً أمام ثبات "الضيعة"، وعظمة
عاداتها وتقاليدها". هل تعلم أنّ يومها كان أهمّ ما حفر في قلبي هو حديثك عن
طعم "اللبنة" التي كانت تحضّرها أمّك، والذي ما كان له مثيل على
الإطلاق؟
هل سبق ورأيت
وجهاً طافحاً بالنور يبكي؟ أمّا أنا فقد رأيته يوم رأيتك تبكي. كان ذلك، في تلك
الأمسية الشعريّة، وكان الشاعر يلقي قصيدته عن الحوار الذي دار بين "شربل
مخلوف" قدّيس لبنان وبين أمّه، والذي ما أراد رؤيتها. وعندما مسحت دموعك كنت
تقول: "إنّ أمّهاتنا قدّيسات". اليوم أدرك تماماً خسارتنا لك، وخسارة
لبناننا لك يا صاحب العمامة النبيلة. اليوم أدرك أصالتك اللبنانيّة، يا رجل الحوار،
يا مشاكس، يا سيّد الثقافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق