الثلاثاء، 24 مارس 2015

راقص المطر واشرب نخبَه


مقدّمة ديوان "يوم راقصني المطر"
للشاعرة "راشيل الشدياق"
 
راقص المطر واشرب نخبه

 



عندما تقف صباحاً أمام ورقة نديّة لنبتة خضراء، وتمسح من عليها، بإصبعك، قطرة ندى تلمع، وتشعر ببرودتها تجري في ثنايا أعماقك، ثمّ تقف لا تفكّر إلاّ بجمال الطبيعة الأخّاذ، بالحبّ، بالحنين، بالحرّية التي فيك، بالتمرّد الذي كان منذ بدء الخليقة، تكون قد اقتربت من إدراك سرّ الإبداع في هذا الديوان، إذ ستدع المطر يراقصك حتى تنتشي. أمّا أنا فانتشيت مرّتين، الثانية يوم كرّمتني الشاعرة بكتابة مقدّمة له.

فرحي ما كان لأنّ "راشيل" صديقة ونسيبة وزوجة الأحبّ إلى قلوب عارفيه وحسب، بل لأنّها جذبتني إلى جزيرتها التي صاغت مضاربها بخيوط من نور: أزرق لتَلِج بك إلى عمق أعماق الحبّ، وأحمر لتذكّرك بجذوة التمرّد الوهّاجة في داخلك، وأبيض شفّاف ليعود بك إلى الحنين الى الزمن الأوّل، إلى الطفولة، إلى الأصالة. فإذا شعرت مثلي، يا من سيرقص مع المطر يوم ستقرأ الديوان بانقباض في داخلك، أو بلوعة في قلبك فاعلم أنّك بتّ تسكن جزيرة "راشيل" وأنّك بتّ تقبض على كلّ هذه الأنوار.

شاعرةُ الأحاسيس الصادقة هي، كما في براءة طفلة، راقية في صياغة الكلمة كما معلّمة الأجيال، مبدعة في رسم عالمها الذي لن تفقده مهما تراكمت أيّام عمرها... " أنا يا أبي لم أكبر ...  في بالي بعدُ طفلةٌ على أرجوحةٍ ... فستانُها أحمرُ وجدائلُ غادةٍ... ". حديث لأبيها فيه كلّ عبق الإحترام، وحديث لأمّها فيه كلّ جمال الذكريات، وفي الحديثين لوعة حنين لمسقط رأسها حيث تبثّ له الشوق الدفين: " أغمسُ قلبي في خابيةِ شوقي ... فينهمرُ الدّمعُ ... ويولدُ حِبري".  عالمها براءة سلام وحبّ وحنين، لا يعرف شعارات الحقد تلك التي في وطنها الذي " ما فُطم بعد عن ثدي الطائفيّة "، يمجّد براءة أطفال غزّة ويغضب على شرقٍ هامدٍ خامد ... " أفِقْ يا شرقُ، يا شرقُ أفِقْ، فما أتعسَ من جَهْلِكْ إلّا عُرْبٌ مِعراج ُ... " 

وشاعرة العنفوان هي، كما في روحٍ متمرّدة، حاسمة في أخذ القرار متى وجب الأخذ، صلبة الإرادة كما في أبيات عشقها للحرّية. الأبهى أنّ كلّ تمرّدها، عنفوانها والحسم، وقرارها والعناد، ما هي إلاّ أوراق في خدمة الحبيب، لبقائه وثباته والسير خلف رأسه المرفوع: " ...  أعلنُ على اللّغةِ عصياني، متمرّدةٌ أنا، أريدُ تفجيرها، نسفَ قواعدِها، بسطَها على سهلِ مدٍّ لا يخفيكَ ... لا يرسمكَ حلماً ". عندها لا حياء في الحبّ. هو نبضة القلبِ المحيية، فليُسمع النبض إذاً:  " ... تجرّإي فالحبّ قُدسٌ واللّحنُ همسٌ ... تجرّإي ... فلا أروعَ من امرأةٍ بجنونِ الفراشةِ تعشقْ ... "  لكن لا يخطرنّ على بال أحدٍ أنّ جذوة عنفوانها لن تشعّ، وعزّة نفس المرأة فيها لن تنتفض إنْ كرامتها في خطر: " ... إرحلْ! إجمعْ شتاتك،َ بداءتك،َ غرائزك،َ وكلَّ شهواتك وارحلْ!...   واحمل خطاياكَ، وبذاءةَ نواياكَ، وكلَّ آثامِكَ إلى غيري... لن أترجّاكَ ... أميرةٌ أنا، شرقيّةٌ أنا، وهذا العنفوانُ السّاطعُ أنا ... إرحلْ !". هي العزّة تملكها، كما كبر الذات ونبل القلوب. ترفع الرأس يوم الحبّ صدقاً، وتشرئب منتفضة يوم كان أكذوبةً: " قد قالَ لي أنّهُ بالحبِّ سخيٌّ ملك ... قلتُ لهُ: أأسمرُ ... إن كانتْ بين نسائكَ أميرةٌ، فعلى صُدَفِ الفوارسِ عندي ملك ". أمّا أقدس ما في كلماتها فتلك التي رسمت عشقها للحرّية. أفي تاريخ أجدادها سبب؟ أم في عروقها شعلة من بأس؟ إلتصقت بها الحرّية، لأنّها التصقت بمكانها، بناسها، بموطنها: " ...  حرّةٌ صارخةٌ في دنياكَ أنا ... سَلْ عن موطني يا حبُّ تَعرفْ من أنا!"

أجمل الأجمل ما فاض عن الديوان وما زال يفيض: الحبّ، حبّها.

سجينة الحبّ راضية، سعيدة، لا تقبل تبدّلاً. أسيرة الهوى يدركها في كلّ ما ترى، في الموقد، في الحطبة، في النار، في كلّ أغاني المطر، في الندى ينعش أزاهير الحقول، في الليل وشعاع القمر، ونتف النجمات، في غفوة الزنبق، في الشوك، في العطر، في العنب، في الكأس، في صوت النايات، في العبقِ، في الشبق، وأيضاً في فنجان قهوتها. " ...  أليومَ سأشتاقُكَ، سأرسُمُ لي صورتَكَ تنيرُ فنجانيَ الأسودْ، وسأعانقكَ ...". ويسألها  " كيفَ يكون العشقُ ديواناً؟ ". أيتحدّى؟ ... ما نظرت إلاّ إلى العنق وبصمت: " ... إنتفضَ النّبضُ في العرقِ فإذا هوَ دونَ أن يدري أوّلُ بيتٍ من نصّي ". إلى هذا الحدّ هي سعيدة في الحبّ سجّانها، تستحيل ناراً في موقده، وتدرك هويّة قلبها النبيل، كما حبّها، كما حنينها، كما العنفوان:  " مُذْ أنتَ. ما عدتُ أفتّشُ عنّي في انعكاسِ المرايا... مُذْ أنتَ بتُّ أنا، عِشتُ أنا، أحببتُ أنا ". فهل عجبٌ إن سألته أن يغدق عليها من حبّه، من جنونه، " والحبّ في حضنه غاية الكبر؟"

راقص المطر يا من سيقرأ الديوان واشرب نخبه، وعُد إلى تلك الطفلة التي " راقصت الحمم ... حبلت على درب شجن، وأنجبت للكأس خمراً، نديماً، أسمته ... المطر".

د. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة
14/2/2015
 

الأربعاء، 18 مارس 2015

معرض للوحات جبرانيّة تعرض لأوّل مرّة.


جبران في جامعة سيّدة اللويزة.

معرض للوحات جبرانيّة تعرض لأوّل مرّة.

 


قد يبدو أنّ أمر هذا المعرض طبيعيّ:
فمن البديهي أن يقام، في حرم جامعة هي من الأعرق والأكبر والأهمّ من بين جامعاتنا الوطنيّة، معرضاً لرسوم جبرانيّة، وإن غير معروضة من قبل، يضيف للمهتمّين بالشأن الثقافي الوطني، وشأن الفكر اللبناني، إضافاتٍ جماليّة تؤكّد على فائدة عملهم وجهدهم في الإضاءة على معالم هذا الفكر الممتدّ في أصقاع الأرض على مساحة زواياه الأربع.
وبديهيّ أيضاً، أن يحمل على منكبيه أمر هذا النشاط الأكاديمي، الفريد، المميّز، الدكتور أمين ألبرت الريحاني، وهو الباحث في الفكر اللبناني، المحافظ عليه كما حدقة العين، والباحث أيضاُ في أمر النهضة اللبنانيّة المتراكمة منذ ما يقارب القرنين وحتى الآن، وهو المقيم بين القمم النهضويّة فكراً وتحليلاً ودراسةً ونقداً وإعجاباً.
ولكن ...
لا بدّ أن نضيف على البديهيّات تلك ميّزتين أساسيّتين لهذا النشاط، تتكاملان ولا تتعارضان:
أوّلاً، إنّ الوجوه التي رسمها جبران، وهي الآن في مكانها المخصّص لها في الجامعة، هي وجوه حقيقيّة، أيّ أنّها وُجدت بالفعل وجلست أمام جبران في محترفه الوقت الكافي ليتسنّى له رسمها. في الأمر كلاسيكيّة رسم أكيدة، ولا بدّ، منطقيّاً على الأقلّ، أن تكون الرسومات مصادقٌ عليها من أصحابها، من مثل ميّ زيادة، أو أمين الريحاني، أو جبران نفسه. وهذا أيضاً يعني أنّ الشخص – الموديل – لا بدّ أنّه أضاف إلى ذات جبران شيئاً من ذاته.
ثانيّاً، إذ لم يكن جبران كلاسيكيّاً في رسومه، ممّا قد يناقض الميزة الأولى التي تحدّثنا عنها، فإنّه سيعمل على تجريد الوجه، أيّ أنّه سيضيف تحويراً للوضع أو إغماضةً للعينين أو عقدةً للجبين، ممّا سيجعل هذه الرسوم تولد جبرانيّة في أشكالها وحركتها، لتصبّ في عالمه الخاص، مع الإبقاء على ميزاتها الثابتة في الجبهة والعين والحواجب وغيرها.
وبعد ...
ها المعرض في مكانه في صرح جامعة سيّدة اللويزة، وفي ظلال رئاستها ومجلس إدارتها، وتحت عباءة جبران نفسه. وفيه نردّد مع جبران:
" إن كان العلم سلّماً ترفع الإنسان الى ما وراء الكواكب، فالفنّ هو العزم الذي يبني ويبقي درجات تلك السلّم". 

د. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة

جبران في جامعة سيّدة اللويزة - NDU

كلمتي في معرض رسوم وأوراق مجهولة لجبران - في جامعة سيّدة اللويزة.



 
 


الحضور 

بدأت رحلة رسم الوجوه مع جبران باكراً. لم يكن قد تعلّم بعد قواعد الرسم في باريس مع صديقه يوسف الحويك ولكنّه، كان يظهر عبقريّة ما في هذا المجال من الفنّ حاول المتتبّعون التقاط بداياتها، فعاينوا رسومه التي تحاكي أفكاره أكثر من معاينتهم لرسم الوجوه، الرسم الغالب في هذا المعرض. وقد قصدنا ذلك مع مؤسّسة الفكر اللبناني في رحاب هذه الجامعة العريقة لكي نبرز هذا الجانب من رسوم جبران وقد أضحت مجهولة الى حدّ كبير بسبب الإكتراث بغيرها من رسومه كما أشرنا. ولكن ليس هذا هو الهدف الوحيد بالطبع. هناك أهداف أخرى ستظهر فيما سيأتي لاحقاً، من خلال إظهار بعض النقاط الموثّقة، المنشورة والمعتمدة.

قد تكون أول رسمةِ وجهٍ لجبران موثّقة أكاد أقول، أو مؤكّدة ومنشورة، هي رسمة وجه الشاعرة الأمريكية "جوزفين برينستون بيبودي". كانت شاعرة رومانسيّة وكاتبة مسرح، وكانت تتردّد، كما جبران، الى محترف "فريد هولاند داي"، المصوّر الأمريكي الشهير. هناك التقاها جبران وكان في عمر الخامسة عشرة، والتقى فيها حيويّتها الفوّارة ومرحها و ... جمالها، وسمع بعضاً من قصائدها. هي، كانت في عمر الثلاثين، وعندما عاد مساءً الى منزله في بوسطن، رسم وجهها بالقلم، رسماً من الذاكرة. وفي الغد، سيحمل الرسم وسيقدّمه الى "هولاند داي" طالباً منه أن يرسله الى الشاعرة، فهو لن يستطيع أن يفعل ذلك لأنّه عائد الى لبنان ليتعلّم العربيّة في مدرسة الحكمة.

ورأت جوزفين الرسمة، وحدّقت مطوّلاً بها كمن غير مصدٌّق، وبدا أن شيئاً في داخلها تغيّر. وسألت هولاند داي إذا كان يعرف ما إذا كان جبران قد رعى الغنم. للسؤال مغزاه بالطبع وسنكتشفه لاحقاً. وإذ لم يجب داي على هذا السؤال، كتبت رسالة إلى جبران في لبنان تقول له فيها: "إنّني أعتقد أنّ روحك تعيش في مكان جميل ... أدعو الله أن تعيش دائماً هناك".

عندما عاد جبران إلى بوسطن، والى محترف داي، أسرعت بيبودي للقياه. وكانت تعقد العزم على إظهار فرحها الكبير أمامه، وستعبّر عنه ربّما بالضحك، وستفتح ذراعيها لتغمر ذاك الصبيّ، وكانت أيضاً تتخيّل مدى فرح جبران بلقياها، وربّما سيشاركها ضحكة الفرح. ولكن عند اللقاء في المحترف ما كان الأمر كما تخيّلت. ستقول ذلك فيما بعد لداي عبر رسالة منها له، وستدّون في يوميّاتها ما سأقرأه لكم الان."حرّك مشاعري حين نظر إليّ دون اندهاش ولم يجنح إلى الضحك، لقد نظرت إليه بعينين مفتوحتين، ... إنّ الصبيّ قد خلق ليكون واحداً من الأنبياء ... رسوماته تقول ذلك على نحو أوضح، كما لا يمكن لأيّ شيء آخر أن يفعله ... لا يمكن تجنّب تلك الشخصيّة الصغيرة".

وصف حقيقي لجبران سيلازمه كلّ حياته وما بعد مماته. إن كل بحث في سيرة جبران يخرج عن هذه الحقيقة هو بحث ناقص. 

امرأة أخرى سيرسمها من ذاكرته. سلطانة ثابت: 1908. سألته ماري هاسكل عمّن تكون هذه المرأة فقال: " كانت تملك أوسع عينين رأيتهما في حياتي ... وسأضع وردة بيضاء تحت أذنها". بالطبع لم يكن ليضع الوردة البيضاء فقط لأنّ السيّدة تحبّ الورود البيضاء كما ذكرت بعض الأقلام، بل لأنّه أراد بهذه الحركة أن يبرز طهارة نفس "سلطانة ثابت". وبدا أن لجبران منذ ذلك الوقت، طريقة خاصّة بالرسم، رسم الوجوه. تقنيّة ستميّزه طيلة حياته حتى في رسومه الأخرى وهي ما سنطلق عليها إسم تقنيّة المشاعر. سيغرف جبران من داخليّة الشخص الذي يودّ أن يرسمه ويظهر ما سيغرفه في الرسمة لتأخذ طابعاً فريداً لن يكون أبداً طابعاً فوتوغرافيّاً.

وستكون هذه التقنية أساساً في رسومه الأخرى لأشخاص آخرين كانوا يجلسون أمامه في محترفه.  نذكر منهم  الناقد الجريء البريطاني ريشاردز لوجايين وكان ناقداً كبيراً للشعراء الأميريكيين الذين كانوا يخدشون مشاعر الحياء والاحتشام عند المجتمع الأميركي في قصائدهم وكانوا يكيلون له بالنقد الكيل كيلين ممّا أحزنه كثيراً لأنه كان يعتبر أنّه كان ينتقدهم بإيجابية. وهكذا عندما جلس أمام جبران ليرسمه شهد بنفسه عندما رأى رسمه أنّ جبران استطاع أن يقبض على الحزن في داخله ويظهره في الرسم. (تقنية المشاعر)

كذلك وليم بتلر ييتس الذي استغرق رسمه أربع ساعات مما أثار دهشة ماري هاسكل، ذلك أنها كانت تعلم بأن جبران يستطيع رسم أي وجه في مدة لا تزيد قليلاً عن النصف ساعة.  وستعلم فيما بعد أنهما جلسا يتحدثان لمدة ثلاث ساعات ونصف.  وستشهد هي بنفسها بعد ما رأت رسم ييتس بأن جبران قبض في هذا الرسم على "البسيط، الروحي، الحقيقي من سمات الشاعر الإرلندي كما قبض على تعقيدات العملي – الأثيري التي تبدو في ذقنه الغير المحلوقة". (مرّة أخرى تقنية المشاعر)

أيها الحضور

هكذا يثبت جبران أنه معلم في مجال الرسم كما هو معلم في مجال الكلمة.  لقد كان مع رواد عصر النهضة ثائر حتى على اللغة العربية.  وإننا لنستذكر مع جبران كل الرواد الذين اقاموا نهضتنا (الريحاني – نعيمة – البساتنة – اليازجيين – مارون عبود – الياس أبو شكبة – إيليا أبو ماضي ...) وصولاً إلى أواخرهم فؤاد افرام البستاني – الدكتور شارل مالك والبارحة سعيد عقل. لقد رحل هؤلاء لكنّ النهضة ستبقى حتماً. ستبقى معكم جميعاً نهضتنا والنهضة العربية التي ما زلنا نعتبر أنفسنا مسؤولين عنها.

لقد رحل جبران، وهو كان من كبار المعلّمين، ولكنّي أود أن أذكركم بأنّه كان إبن ضيعة، يعرف كلّ التقاليد القروية وعاداته الضيعة اللبنانية. وهو اليوم يزور هذه الجامعة كما فعل، على الأقل في الفترة التي تحملنا مسؤولية إرثه الفنّي والأدبي في لجنة جبران، يوم زار الأشرفيه منذ أقل من خمس سنوات وجامعات أخرى وأقام الندوات والمؤتمرات وشارك في معارض عديدة، وكذلك يوم زار أستراليا خارج لبنان والولايات المتحدة الأميريكة والبرازيل وفرنسا والصين، كما سيزور بعد أشهر معدودة المكسيك ودبي وإيطاليا.  ولأنه ابن قرية وابن العادات اللبنانية ينتظر رد زياراته.  إنّ متحف جبران في بشري فاتح ذراعيه كما دائماً لاستقبال الزائرين فلا تدعوا جبران يعتب كثيراً. 
وشكراً

د. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة.
16\3\2015-
(رسوم وأوراق مجهولة لجبران خليل جبران)
جامعة سيّدة اللويزة NDU

الأحد، 1 مارس 2015

ألدّ أعداء المرء عزلته.


ألدّ أعداء المرء عزلته.
 

              ليس أقدر منها على خلق أفكار السوء، وخيالات الشرّ. فيها يعيش واحدنا أضغاث أحلامه، ويغرق في الممنوعات التي تظهر جليّة واضحة، إذ ليس هنالك من ممانعة، من أيّة ممانعة. في العزلة لا يرانا أحد، فنظهر ضعفنا الّذي لطالما عملنا على إخفائه عن أقرب المقرّبين، فنحن وحدنا ولا من يعيّرنا، وفي هذا راحة ما بعدها راحة. العزلة فرصة لنكون على طبيعتنا، فيها نكون صادقين لأنّ لا أحد يرانا. وقد نعود الى هفوات طفولتنا، الضحك والمرح والبراءة الصافية وخيالات المشي بين الكواكب، ففي كلّ منّا طفل ما خبتت براءته. ولعلّ أكثر ما يغرقنا في اليأس أثناء عزلتنا هو التفكير المحزن في بؤسنا وشقائنا، في تعبنا والمفروض علينا. وكم سيكون اليأس كبيراً للّذي كبر حجم شقائه. وقد نحاكي الآخر الغير موجود، فنجادل ونصرخ، أو ننحني ونعتذر، فمن يرانا؟ قد نطلب السماح أو نغضب فنعنّف، فمن يجادلنا أو يقف في وجهنا؟ أمّا العيش مع الآخر فكبح لجماح المخيّلة، وتفلّت من البراءة إلى المسؤوليّة المتعبة. والمجتمع رادع لطيف لأنّك لست وحدك فيه. فهناك من يقاسمك حتى الأفكار. الآخر سند لك، به تستطيع حمل آلام هذه الدنيا والعذابات من كلّ نوع. وبه يظهر ما أنت عليه، فتبرز قيمتك مها صغرت، ويتأكّد نجاحك متى حصلت عليه. وحده الآخر يحقّق لك ذاتك وما تريد، واقعك وما تحلم به، وحده يعيدك الى التوازن السليم.

           هل أعظ؟