الأربعاء، 18 مارس 2015

جبران في جامعة سيّدة اللويزة - NDU

كلمتي في معرض رسوم وأوراق مجهولة لجبران - في جامعة سيّدة اللويزة.



 
 


الحضور 

بدأت رحلة رسم الوجوه مع جبران باكراً. لم يكن قد تعلّم بعد قواعد الرسم في باريس مع صديقه يوسف الحويك ولكنّه، كان يظهر عبقريّة ما في هذا المجال من الفنّ حاول المتتبّعون التقاط بداياتها، فعاينوا رسومه التي تحاكي أفكاره أكثر من معاينتهم لرسم الوجوه، الرسم الغالب في هذا المعرض. وقد قصدنا ذلك مع مؤسّسة الفكر اللبناني في رحاب هذه الجامعة العريقة لكي نبرز هذا الجانب من رسوم جبران وقد أضحت مجهولة الى حدّ كبير بسبب الإكتراث بغيرها من رسومه كما أشرنا. ولكن ليس هذا هو الهدف الوحيد بالطبع. هناك أهداف أخرى ستظهر فيما سيأتي لاحقاً، من خلال إظهار بعض النقاط الموثّقة، المنشورة والمعتمدة.

قد تكون أول رسمةِ وجهٍ لجبران موثّقة أكاد أقول، أو مؤكّدة ومنشورة، هي رسمة وجه الشاعرة الأمريكية "جوزفين برينستون بيبودي". كانت شاعرة رومانسيّة وكاتبة مسرح، وكانت تتردّد، كما جبران، الى محترف "فريد هولاند داي"، المصوّر الأمريكي الشهير. هناك التقاها جبران وكان في عمر الخامسة عشرة، والتقى فيها حيويّتها الفوّارة ومرحها و ... جمالها، وسمع بعضاً من قصائدها. هي، كانت في عمر الثلاثين، وعندما عاد مساءً الى منزله في بوسطن، رسم وجهها بالقلم، رسماً من الذاكرة. وفي الغد، سيحمل الرسم وسيقدّمه الى "هولاند داي" طالباً منه أن يرسله الى الشاعرة، فهو لن يستطيع أن يفعل ذلك لأنّه عائد الى لبنان ليتعلّم العربيّة في مدرسة الحكمة.

ورأت جوزفين الرسمة، وحدّقت مطوّلاً بها كمن غير مصدٌّق، وبدا أن شيئاً في داخلها تغيّر. وسألت هولاند داي إذا كان يعرف ما إذا كان جبران قد رعى الغنم. للسؤال مغزاه بالطبع وسنكتشفه لاحقاً. وإذ لم يجب داي على هذا السؤال، كتبت رسالة إلى جبران في لبنان تقول له فيها: "إنّني أعتقد أنّ روحك تعيش في مكان جميل ... أدعو الله أن تعيش دائماً هناك".

عندما عاد جبران إلى بوسطن، والى محترف داي، أسرعت بيبودي للقياه. وكانت تعقد العزم على إظهار فرحها الكبير أمامه، وستعبّر عنه ربّما بالضحك، وستفتح ذراعيها لتغمر ذاك الصبيّ، وكانت أيضاً تتخيّل مدى فرح جبران بلقياها، وربّما سيشاركها ضحكة الفرح. ولكن عند اللقاء في المحترف ما كان الأمر كما تخيّلت. ستقول ذلك فيما بعد لداي عبر رسالة منها له، وستدّون في يوميّاتها ما سأقرأه لكم الان."حرّك مشاعري حين نظر إليّ دون اندهاش ولم يجنح إلى الضحك، لقد نظرت إليه بعينين مفتوحتين، ... إنّ الصبيّ قد خلق ليكون واحداً من الأنبياء ... رسوماته تقول ذلك على نحو أوضح، كما لا يمكن لأيّ شيء آخر أن يفعله ... لا يمكن تجنّب تلك الشخصيّة الصغيرة".

وصف حقيقي لجبران سيلازمه كلّ حياته وما بعد مماته. إن كل بحث في سيرة جبران يخرج عن هذه الحقيقة هو بحث ناقص. 

امرأة أخرى سيرسمها من ذاكرته. سلطانة ثابت: 1908. سألته ماري هاسكل عمّن تكون هذه المرأة فقال: " كانت تملك أوسع عينين رأيتهما في حياتي ... وسأضع وردة بيضاء تحت أذنها". بالطبع لم يكن ليضع الوردة البيضاء فقط لأنّ السيّدة تحبّ الورود البيضاء كما ذكرت بعض الأقلام، بل لأنّه أراد بهذه الحركة أن يبرز طهارة نفس "سلطانة ثابت". وبدا أن لجبران منذ ذلك الوقت، طريقة خاصّة بالرسم، رسم الوجوه. تقنيّة ستميّزه طيلة حياته حتى في رسومه الأخرى وهي ما سنطلق عليها إسم تقنيّة المشاعر. سيغرف جبران من داخليّة الشخص الذي يودّ أن يرسمه ويظهر ما سيغرفه في الرسمة لتأخذ طابعاً فريداً لن يكون أبداً طابعاً فوتوغرافيّاً.

وستكون هذه التقنية أساساً في رسومه الأخرى لأشخاص آخرين كانوا يجلسون أمامه في محترفه.  نذكر منهم  الناقد الجريء البريطاني ريشاردز لوجايين وكان ناقداً كبيراً للشعراء الأميريكيين الذين كانوا يخدشون مشاعر الحياء والاحتشام عند المجتمع الأميركي في قصائدهم وكانوا يكيلون له بالنقد الكيل كيلين ممّا أحزنه كثيراً لأنه كان يعتبر أنّه كان ينتقدهم بإيجابية. وهكذا عندما جلس أمام جبران ليرسمه شهد بنفسه عندما رأى رسمه أنّ جبران استطاع أن يقبض على الحزن في داخله ويظهره في الرسم. (تقنية المشاعر)

كذلك وليم بتلر ييتس الذي استغرق رسمه أربع ساعات مما أثار دهشة ماري هاسكل، ذلك أنها كانت تعلم بأن جبران يستطيع رسم أي وجه في مدة لا تزيد قليلاً عن النصف ساعة.  وستعلم فيما بعد أنهما جلسا يتحدثان لمدة ثلاث ساعات ونصف.  وستشهد هي بنفسها بعد ما رأت رسم ييتس بأن جبران قبض في هذا الرسم على "البسيط، الروحي، الحقيقي من سمات الشاعر الإرلندي كما قبض على تعقيدات العملي – الأثيري التي تبدو في ذقنه الغير المحلوقة". (مرّة أخرى تقنية المشاعر)

أيها الحضور

هكذا يثبت جبران أنه معلم في مجال الرسم كما هو معلم في مجال الكلمة.  لقد كان مع رواد عصر النهضة ثائر حتى على اللغة العربية.  وإننا لنستذكر مع جبران كل الرواد الذين اقاموا نهضتنا (الريحاني – نعيمة – البساتنة – اليازجيين – مارون عبود – الياس أبو شكبة – إيليا أبو ماضي ...) وصولاً إلى أواخرهم فؤاد افرام البستاني – الدكتور شارل مالك والبارحة سعيد عقل. لقد رحل هؤلاء لكنّ النهضة ستبقى حتماً. ستبقى معكم جميعاً نهضتنا والنهضة العربية التي ما زلنا نعتبر أنفسنا مسؤولين عنها.

لقد رحل جبران، وهو كان من كبار المعلّمين، ولكنّي أود أن أذكركم بأنّه كان إبن ضيعة، يعرف كلّ التقاليد القروية وعاداته الضيعة اللبنانية. وهو اليوم يزور هذه الجامعة كما فعل، على الأقل في الفترة التي تحملنا مسؤولية إرثه الفنّي والأدبي في لجنة جبران، يوم زار الأشرفيه منذ أقل من خمس سنوات وجامعات أخرى وأقام الندوات والمؤتمرات وشارك في معارض عديدة، وكذلك يوم زار أستراليا خارج لبنان والولايات المتحدة الأميريكة والبرازيل وفرنسا والصين، كما سيزور بعد أشهر معدودة المكسيك ودبي وإيطاليا.  ولأنه ابن قرية وابن العادات اللبنانية ينتظر رد زياراته.  إنّ متحف جبران في بشري فاتح ذراعيه كما دائماً لاستقبال الزائرين فلا تدعوا جبران يعتب كثيراً. 
وشكراً

د. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة.
16\3\2015-
(رسوم وأوراق مجهولة لجبران خليل جبران)
جامعة سيّدة اللويزة NDU

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق