الخميس، 30 يناير 2014

إشكاليّات جبرانيّة



إشكاليّات جبرانيّة

ألقيت في قاعة المحاضرات في جامعة أوستراليا الكاثوليكيّة بتاريخ 7\12\2010

 

أيّها الحضور ...

أودّ أن أشكر كلّ فردِ منكم لحضوره الليلة بيننا، وأخصّ بالذكر الشباب من بينكم، فهم المستقبل ونظرتنا الى العلى، ونحن، كما تعلمون، ما تعودّنا النظر إلاّ الى الأعلى. وأودّ أن أنحني أمام محبّتكم ونبل أخلاقكم التي جعلتنا نشعر أنّنا في بيتنا وكأنّنا نحن الذين نستقبلكم ونرحّب بكم ضيوفاً أعزّاء.

كلمتي أيّها الأحبّاء سأستهلّها بكلمةٍ من جبران توصل الرسالة التي أردت أن آتيكم بها في هذه العجالة.

"جئت لأقول كلمة وسأقولها، وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد"

قالها جبران منذ حوالي القرن فاختصر بها كلّ الإشكاليّات التي أحدثها في حياته وكتاباته وحتى في رسومه.

ولكن ما معنى هذه الإشكاليّات؟ وما هو سرّها؟ بل ما هو هذا الموضوع الذي جئتكم به من بلاد الأرز ومن مدينة جبران وقد أسميته الإشكاليّات الجبرانيّة، وما هي علاقته بلجنة جبران الوطنيّة، وتأثيراته عليها؟

لقد كتب جبران مؤلّفات صغيرة الحجم حتى لتُجمع في كتابين اثنين. أمّا ما كتب عن جبران فآلاف المؤلّفات الكبيرة الحجم، والتي ما زالت حتى اليوم تنبت كما الفطر. آلاف مؤلّفة من الأبحاث والدراسات والكتب عن جبران وحوله وعن أفكاره وما دعا إليه ممّا اضطر جامعة ماريلاند في الولايات المتحّدة أن تنشأ كلّية خاصّة بجبران تعطي شهادات جامعيّة به، وقد كان لنا، نحن في لجنة جبران، شرف تأسيسها مع الجامعة. فورة من الكتب عن هذا المبدع الكبير جعلت الد. سهيل بشروئي، عميد الكلّية المذكورة، والجبرانيّ المميّز، أن  يطلق عليها إسم الحمّى الجبرانيّة. أمّا سرّها فهو تلك الإشكاليّات التي بدأت حديثي معكم عنها.

فلنبدأ بها ...

لم يطبّق جبران حكمة سقراط القائل: "قلّ كلمتك وامشِ"، بل طبّق حكمة خاصّة به منطلقاً من حكمة سقراط نفسها، مفادها أن : "جئت لأقول كلمة وسأقولها ... ". لم يحدّد كلمة من هي، وحتى لم يدّعِ أنّها كلمته. وشتّان بين الحكمتين، فالفارق كبير. للحقّ، أحدث جبران في كلّ كلمة كتبها زوبعة دارت حولها. فمن الناس من هو معها ومنهم من هو ضدّها، وهذا يفسّرها بطريقته وذاك يناقضه بطريقة أخرى، وفورة الأبحاث والدراسات ما زالت تفوع، والحمّى الجبرانيّة ما فترت حتى الآن. كان يكفي أن يقول جبران كلمة صامتة ثمّ يستدير ويمشي، حتى يبدأ الجدل حولها، والتخبّط في قصده منها، أمّا هو فكان ينظر الى المشهد ويبقى الصامت الأكبر، وعندما يحتدّ الصراع يقول: " لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة إلاّ الدخان ..."، ويعود التخبّط من جديد ليقوى وتيرة وعمقاً فلسفيّاً.

الإشكاليّات كثيرة، ولكنّها تندرج لمن يتابعها تحت عنوان كبير هو جواب للسؤال الأساسيّ: أين نضع جبران من بين المبدعين؟ ما هي نظرتنا إليه؟ ما هي صورته الحقيقيّة عندنا؟ وعلى أيّ رفّ من رفوف الإبداع يجب أن نرفعه؟

سنحاول بتفكّرنا في هذه الأسئلة أن نصل الى ما أردت قوله في عجالتي هذه.

الإشكاليّات الجبرانيّة بدأت لحظة وفاته. ولنتذكّر معاً ...

في ليلة العاشر من نيسان، عند الساعة الحادية عشرة إلاّ ربعاً، من العام 1931، مات جبران على سريره في مستشفى "سانت فينسانت" في نيويورك. وكان معه بربارة يونغ التي لازمته في السنوات الأخيرة وكانت تساعده في الكتابة، وميخائيل نعيمة صديقه الحميم وأمين سرّ الرابطة القلميّة التي أسّسها جبران وتراّسها طيلة حياته، والكاهننين، المونسنيور فرنسيس يواكيم والمونسنيور إسطفان الدويهي الذين شهدا على تناول جبران القربان المقدّس. وفيما بعد ستصل شقيقته ماريانا وماري هاسكل التي أحبّها وأحبّته والقادمتين من بوسطن الى نيويورك. 

في اليوم التالي كان الجثمان، ملفوفاً بالعلمين الأميركي واللبناني، قد نقل الى بوسطن ليقام له قدّاساً عن راحة نفسه. ولكن جاء من يقول لرئيس أساقفة بوسطن، الكاردينال "أوكانر" في ذلك الوقت، أن جبران رفض تناول القربان المقدّس وبالتالي فإنّه لا يجوز أن يقام له قداّساً لراحة نفسه. فاستدعى الكاردينال المنسنيور يواكيم وسأله عن الأمر. فنفى الأمر مؤكّداً عكس ذلك وأبرز له شهادة من الراهبة رئيسة المستشفى ومن الطبيب الذي عاينه تفيد بأنّه تمّم واجباته الدينيّة كاملة. وكانت تلك الحادثة أولى الإشكاليّات التي ما زالت حتى اليوم تعصف حول جبران، تحت ستار السؤال التالي: هل كان جبران مؤمناً، أم ملحداً؟

ستلي هذه الإشكاليّة واحدة مماثلة لها في بشرّي. قد لا يعرفها الكثيرون، ولكنّنا في بشرّي نعرفها ونملك ما يؤكّد حصولها في المتحف الذي يحتوي الكثير من الوثائق والمخطوطات.

في الأيّام التي تلت موته، استكملت التحضيرات لنقل الجثمان الى لبنان، ثمّ الى بشريّ، ودفنه في دير مار سركيس كما كان جبران يرغب وقد أسرّ بذلك في الكثير من رسائله الى الأقارب والأصدقاء. فوضع الجثمان على متن الباخرة "سينايا" القادمة الى مرفأ بيروت. فوصلت صباح 22 آب من العام نفسه.

في اليوم التالي أقامت السلطة المنتدبة حفلاً تأبينيّاً لجبران في التياترو الكبير في بيروت، ذلك الصرح الثقافي الذي دمّرته الحرب فيما بعد، والذي ما أعيد بناءه لأنّ الثقافة في عيون بعض المسؤولين عندنا، المساكين،  ترفاً لا معنى له. حضر هذا الحفل الكبير ممثّل السلطة الفرنسيّة المنتدبة "المسيو كلو"، والرئيس "شارل دبّاس"، ووزير الداخليّة والكثير من المسؤولين، وحضرها أيضاً الوزير مكرم عبيد على رأس وفدِ مصري، وأيضاً ممثّلين من سوريا والأردن والعراق. في ذلك الوقت كان الشرق يعي أهمّية الثقافة ويدرك مسؤوليه قيمتها. لقد تغيّر الزمن أيّها الإخوة بشكل دراماتيكي محزن.

وعند انتهاء الحفل التأبيني، في الساعة الحادية عشرة من قبل الظهر توجّه الموكب باتّجاه بشريّ على عربة موت قدّمتها الحكومة وقد لفّ جثمان جبران بالعلم اللبناني. وصل الموكب عند الساعة الحادية عشرة ليلاً. ذلك أن من العادات في قرانا أن يوقف شبابها الموكب ويحملون النعش على الأكفّ الى الساحات العامّة. وعند الوصول الى مشارف بشرّي، وكما هي العادة، تقاطر شبابها وحملوا النعش الى دير مار سركيس ووراءهم نهر من الرجال والنساء وعلى رأسهم مطران الجبّة – جبّة بشرّي - في ذلك الوقت "بولس عقل".

لكن الشباب أولائك، من فرط محبّتهم لجبران، وربّما بتطرّف منهم وضعوا على القبر يافطة خشبيّة كتبوا عليها: "هنا يرقد نبيُّنا جبران".

وبدأت الإشكاليّة تعصف بالموجودين. وكان أوّل المعترضين الكنيسة نفسها بشخص المطران بولس عقل. ففي لبنان، لا المسيحيّون ولا المسلمون يمكن أن يقبلوا بنبيّ جديد. فهذا الأمر مخالف لعقيدة الإيمان. والحال فإن إجراءات الدفن لا يمكن أن تستكمل إذا ما بقيت هذه اللوحة الخشبيّة على باب القبر. فما العمل إذاً لكي تستكمل إجراءات الدفن؟

المسألة كبيرة، ولكنّنا في لبنان أيّها الإخوة، ولبنان كان بلد التسويات.

كلّ إشكاليّة في لبنان يمكن أن نجد لها تسوية. هكذا كنّا قبل الحرب، وفي أيّام الإنتداب. كانت هنالك إشكاليّات بين الطوائف، بين المسيحيّين والمسلمين،  وكان رجال الدولة آنذاك يجدون تسوية. وكان هنالك إشكاليّات بين الزعماء السياسيّين أنفسهم، وكانوا رجال دولة ويجدون التسويات. اليوم، تصوّروا، أنّهم تخلّوا عن الحوار فيما بينهم لدول مجاورة ثمّ وقفوا أمام كاميرات التلفزيون يفتخرون أنّهم بعبقريّتهم ابتدعوا معادلة الس س. ما من دولة في العالم، يتخلّى رجالها عن الحوار لدولة أخرى إلاّ عندنا، السبب .... أن لآ رجال دولة عندنا. ... ولنعد الى جبران.

اليافطة ما زالت فوق القبر: "هنا يرقد نبيُّنا جبران". الكنيسة مصرّة، والشباب مصرّون، والمسيو كلو يلعن ساعة مرافقته الموكب. فكيف نخرج؟

وجاءت التسوية: النقطة فوق حرف النون في الكلمة – الخلاف "نبيُّنا" تنزل الى ما تحت الحرف. ونقطتا حرف الياء ترفع الى ما فوق الحرف وتصبح العبارة: هنا يرقد بيننا جبران.

الإشكاليّة هنا حلّت، فارتاح الشباب، وارتاح المطران، ولم يعد "المسيو كلو" ينظر الى ساعة جيبه، ولكن مسألة جبران بقيت تحفر في الأذهان. من هو جبران؟ وكيف ننظر إليه؟ في الغرب يبدو أنّه نبيٌّ كامل خاصّة في الولايات المتّحدة. وقد نكون نحن في لجنة جبران أدرى الناس في كيفيّة نظر الأميريكيّين الى جبران. ولكنّه في الشرق لا يمكن أن يكون نبيّاً، فهو في أبهى الأحوال فيلسوفاً شاعراً.

 

الإشكاليّات لا تحصى ... وكان لا بدّ أن تصيبنا في لجنة جبران منذ تأسيسها. وسأتحدّث عن إشكاليّتين فقط لضيق الوقت.

جاء في وصيّة جبران أنّه يوصي بإرثه الأدبي والفنّي لبلدته بشرّي. كيف ننفّذ هذه الوصيّة؟

في المنطق والقانون، كلّ من يوصي بهبة لبلدته، أنّما يدرك أنّ صاحبة الحقّ في استلامها واستثمارها يعود الى البلديّة. ذلك أنّ البلديّة هي المولجة في المحافظة على ثروات البلدة واستثمارها. إذاً، تطبيقاً لهذا الحقّ، من البديهي أن تستلم بلديّة بشرّي إرث جبران وتصونه وتعمل على استثماره. ولكن الأمر بدا صعباً في ذلك الوقت لسببين على الأقلّ:

-        إن العمل البلدي هو عمل عام شامل، وبالتالي يتطلّب جهوداً ووقتاً لإتمامه. فالعمل يطال كلّ الأمور المتعلّقة بالبلدة والناس، إبتداءً من النظافة العامّة مروراً بتأهيل الطرقات وإنارتها وأمور البنى التحتيّة كالصرف الصحّي وغيره  وتأمين مياه الشفة، وصولاُ الى إقامة الصروح الثقافيّة والسياحيّة والإجتماعيّة ... الخ. والحال، فإنّ البلدية قد لا تجد الوقت الكافي لصيانة واستثمار الإرث الجبراني الهائل.

-        أمّا الثاني فهو الإتفاق المبدئي على ضرورة إبعاد جبران وإرثه عن السياسة عملاً بالمقولة الشهيرة: ما دخلت السياسة شيئاً إلاّ وأفسدته.

وهكذا قرّ الرأي على إنشاء لجنة خاصّة بجبران، تعنى بكلّ شؤؤنه، وسيطلق عليها فيما بعد إسم لجنة جبران الوطنيّة، بإذن من وزارة الداخليّة آنذاك، وذلك وفق نظام أساسيّ يعطى لها مغاير عن كلّ الأنظمة السائدة في لجان مماثلة إنفاذاً لوصيّة جبران نفسهاـ كما سأوضح فيما يلي.

الإرث لبشريّ، إذاً، هو لكلّ الناس في بشرّي. وبالتالي إنّ كلّ الناس في بشرّي هم حكماً أعضاء في لجنة جبران. إذاً سيكون إنشاء هذه اللجنة  بطريقة الإنتخاب تماماً على شاكلة البلديّة وفق النظام العام في لبنان. من هنا مصدر قوّة لجنة جبران، إنّها منتخبة من الناس مباشرة ومستقلّة عن أيّ مرجع بلديّ أو سياسيّ في البلدة وهذا ما يجعل قوّتها تنبع من ذاتها. بالإضافة الى ذلك، يحقّ لأيّ بشرّانيّ، كونه حكماً عضواً في اللجنة أن يراقب أعمالها، وحتى أن يرفع عليها دعوى سوء أمانة أو تدبير من دون الرجوع الى أيّ مرجع آخر. ثمّ إن نمو اللجنة من حيث كبر حجمها مرتبط بنمو البلدة، فهي إذاً ليست بحاجة الى التبشير بأهدافها لكي تنمو صعداً. إنّها تنمو مع نمو بشرّي السكاني والثقافي وفي مسألة الرقيّ العام.

هذه كانت إشكاليّة إنشاء اللجنة وتأليفها، لكن إشكاليّة عملها لم تحلّ قانوناً حتى الآن. لقد حُلّت فيما بيننا كبشرّاويين لكنّها بحسب القانون بقيت مسألة رهن بتجاذبات كثيرة. وسنوضح.

أضاف جبران في الوصيّة بالإضافة الى هبة الإرث لبشرّي ثلاث كلمات شكّلت هذه الإشكاليّة الكبرى، قال:

"أوصي بالإرث الأدبي والفنّي لبلدتي بشرّي وذلك للخير العام". فما هو الخير العام؟  كيف ننفّذه عمليّاً؟

كعادته، قال جبران كلمة ثمّ استدار ومشى كأنّه يقول لنا "إبحثوا أنتم في الأمر".

ما هو الخير العام؟ وكيف لا يتعارض الأمر مع أعمال البلديّة التي تعمل أيضاً للخير العام؟ المساعدة في المرض، والمساعدة المدرسيّة، وإنشاء الحدائق، والمهرجانات الراقية والتدخّل في السياحة والإنماء ... والإهتمام بالأطفال والشباب ... كلّ ذلك خيرٌ عام. وما عمل البلديّة إن لم يكن كلّ ذلك؟. الكارثة إذا ما تألّفت لجنة على غير تناغم مع البلديّة. وكأنّه كتب لبشرّي أن تكون لها بلديّتان: واحدة رسميّة كما في كلّ القرى، وأخرى رديفة هي لجنة جبران الوطنيّة.

أيّها الحضور ...

إنّ ما حاولت أن أقوله في كلمتي هذه، إنّما هو عرض صادق لواقع الحال. الأهم هو الإيمان بأن نذراً قليلاً ممّا أوردناه لا يتحقّق إلاّ بالعمل كفريق يتسلّح بالمحبّة والمحبّة وحدها. ونحن نرغب أن يكون تعاوننا معكم مستمرّاً لتحقيق الأهداف التي أشرت إليها. وعليه نرغب بشدّة أن نتلقّى منكم كلّ اقتراح مفيد، وأن نسعى معاً لتنفيذه، فنتشارك النجاح.

وإذ لا نحسب للمظاهر حساباً، وللمدائح مكاناً، عالمين بأنّ العمل النافع لا بدّ أن يظهر مهما طال الزمن، نردّد معكم: " أمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيبقى في الأرض".

رئيس لجنة جبران الوطنيّة

الد. طارق الشدياق

أوستراليا – سيدني

7 \12\ 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق