الثلاثاء، 28 يناير 2014

"معاناة المسيح" ... ليس فيلماً سياسيّاً

"معاناة المسيح" ...ليس فيلماً سياسيّاً !!

نيسان 2005

The Passion of the Christ (2004) 

الكلام عن فيلم مِل جيبسون،"معاناة يسوع المسيح"، نقداً أو تبريراً، بعد أسابيع من عرضه في صالات العالم ينطلق من معطيات واقعيّة حصلت فأثبتت ذاتها. نكتفي بسرد خمس منها: نجاح الفيلم شعبيّاً أينما عرض معطى أكيد. الحملة اليهوديّة المتعاظمة (وهي لم تخمد كلّياً بعد) بحجّة أنّ الفيلم معادٍ للساميّة، إذاً ليهود العالم، معطى زاد من نسبة الإقبال عليه. ترحيب الشعوب العربيّة واضح، والحجّة أنّ نقطة في صراعهم مع إسرائيل قد سجّلت في صالحهم. ترحيب الفاتيكان، وإن غير معلن بوثيقة، أكثر من واضح. أخيراً، خفوت الكلام عن الحقيقة الإيمانيّة البارزة في الفيلم بالرغم من أمرين إثنين على الأقلّ: أوّلاً، قول الفاتيكان على لسان مسؤولين كبار أنّ أحداث الفيلم هي الأقرب الى الأحداث التاريخيّة التي جرت. ثانياً، إتّفاق كلّ النقّاد على مسألة التزام مِل جيبسون الديني الكاثوليكي تحديداً.

نجاح الفيلم هو حقيقة بالمعيار المعروف: شبّاك التذاكر.  البعض، وهو بعض كثير، يرجع السبب الى الجودة الفنّية والقدرة التمثيليّة لأبطال الفيلم خاصّة للاعب دور المسيح، جيم كافيزيل، المؤمن هو الآخر بل المبشّر وفق ما جاءت به الأحاديث عنه، كما لأصابع مِل جيبسون المشبعة خبرة في مجال الفنّ السابع. وللحقّ، إنّ الفيلم جاء متقناً بحسب المعايير الفنّية المعروفة كما جاء على لسان أكثر من ناقد. ولكن من الظلم أن يلغى من جوانب هذا النجاح جانب العطش الإيماني الكامن في نفوس أكثر مشاهديه. صحيح أنّ الفيلم سجّل حوادث تاريخيّة حصل وقوعها على إجماع عام لكنّ الفيلم ليس تاريخيّاً. إنّ الجانب الديني – الإيماني في العرض المقدّم هو حقيقة لا يرقى إليها شكّ. ولهذا، هي سبب متعاظم من أسباب نجاحه في العالم الذي يحوي ما يزيد على ملياريّ مسيحيّ يكمن في أعماقهم المشروع الخلاصي الإلهي كما تقدّمه الكنيسة، القاضي بتجسّد الإبن بدافع من محبّة فائقة وعدالة مطلقة، ليدفع عنّا ثمن خطيئتنا وهو ثمن باهظ: الموت، فيتعذّب ويموت، ثمّ يقوم ويقيم الجميع معه، رافعاً عن كواهل الكلّ هذا الثمن الغالي الذي لا يمكن لأحد، سوى الله، أن يدفعه. إنّ التعامي عن هذا الأمر هو محاولة لإدخال الفيلم في صراعات ما زالت تنتظر حلاًّ منذ قرون. والفيلم، من هذه الزاوية، لن يقدّم كما لن يؤخّر في تحوّل هذه الصراعات أو إيجاد الحلّ لها، وإن حاولت مجموعات مختلفة استغلاله لهذا الهدف أو ذاك.

من هذا المنطلق لا تبتعد الحملة اليهوديّة عن الإستغلال الرخيص للفيلم للتباكي مجدّداً على الظلم الذي لحق بجالياتهم في ألمانيا النازيّة إبّان الحرب العالميّة الثانية. استغلال رخيص لأنّ مقولة العداء للساميّة، التي ما انفكّت الأصوليّة اليهوديّة ترفعها لتهوّل بها أمام العالم كلّه، يدحضها الفيلم عينه على لسان المسيح ذاته القائل على الصليب: " اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"، وتكرار مِل جيبسون نفسه عن إيمانه بأنّ من صلب المسيح هم البشر، كلّ البشر، مصرّحاً أنّه أوّل هؤلاء. هذه الحملة اليهوديّة المتعاظمة على الفيلم سببها خوف دفين من ردّات فعل عنيفة على قتلة المسيح. وهذا يفترض أمرين: أوّلاً، جهل مطبق يهوديّ عام لرسالة المسيح على الأرض، تلك الرسالة التي لا تحمل في طيّاتها سوى المحبّة، والمحبّة فقط، لتنشرها سلاماً أين مكان، والتي أثبت مضمونها المجمع الفاتيكاني الثاني قولاً وعملاً، وتحمّل من أجل إثباتها الكثير من اللوم والإنتقاد. ثانياً، بروز حالة عنصريّة دفينة، لكن واضحة، تقضي بالخوف الدائم من الآخر سيّما إذا ما كان مطمئنّاً كما في حالة المسيحيّة الغربيّة. وذلك نتيجة انغلاق وانزواء متوارث في غيتو نفسي على الأقلّ، يفصل ما بين المختار المتعالي ضمنيّاً وشعوب الأمم من أولاد الجارية. على أيّ حال، إن الإحصاءات التي جرت بعد عرض الفيلم، وما أكثرها في أمريكا، تشير الى أنّ المشاهدين ما حملوا مشاعر عداء لليهود عند خروجهم من الصالات. وإنّ أكبر الإحصاءات لا تشير الى أكثر من اثنين في المئة فقط من المشاهدين الذين يعتبرون أنّ اليهود هم المسؤولون عن قتل السيّد المسيح. ومع هذا طالبت المنظّمات اليهوديّة المختلفة بإدخال تعديلات على الفيلم، او أقلّه بيان ختامي، يوضح بأنّ الكنيسة برّأت اليهود كجماعة من هذه المسؤوليّة، الشيء الذي زإن حصل في زمن سابق للفيلم، ولكن لم يكرّر استجابةً للمطالبة المذكورة . فكلّ ما حصلوا عليه من صاحب الفيلم أنّه لم يترجم من الآرامية المقطع الذي يقوله حاخامو ذلك الوقت أمام بيلاطس: " دمه علينا وعلى أبنائنا". إنّ هذا الخوف الدائم من الآخر القوي يبرز مظهراً دفيناً لعنصريّة متوارثة. وهذا التمييز الآلي غير المصطنع، الكامن في النفوس والقاضي بالإنعزال، قضى بعدم قدرتهم للإنخراط في العالم الغربي تحديداً. والحال، لا يمكن تقليص أسباب نظر الغرب لهم شذراً على مدى التاريخ الى كونهم فقط صلبوا المسيح.

ونعود الى المسألة الإيمانيّة لنسجّل من هذا المنطلق، ومنه فقط، ترحيب الفاتيكان بالفيلم. فهذا الترحيب ينطلق من حيث أنّ الأحداث المسجّلة هي، هي الأحداث التاريخيّة التي حصلت، وإن كان لتقنيّات الفنّ السابع زخرفاتها الواضحة. فالمسيح لم يعامل كأيّ سجين مهما كان جرمه بل بقسوة بالغة تؤكّدها نبوءة أشعيا الواردة في سفره، في الفصل الثالث والخمسين، ابتداءً من الآية الثانية حيث ورد حرفيّاً: " لقد حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا، فحسبناه مصاباً ببرص، مضروباً من الله ومذلّلاً. طعن بسبب معاصينا وسحق بسبب آثامنا. نزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شفينا. كلّنا ضللنا كالغنم، كلّ واحد مال الى طريقه، فألقى الربّ عليه إثم كلّنا. عومل بقسوة فتواضع ولم يفتح فاه. كحمل سيق الى الذبح ولم يفتح فاه ...". المسيح إذاً، عومل بقسوة، ضرب وطعن، حمل كلّ آلامنا وعذاباتنا بما لا يقاس. والأهمّ، أنّنا كلّنا ضللنا الطريق فألقى الربّ عليه كلّ آثامنا. إنّها الحقيقة المسيحيّة الكبرى. ولو لم يكن الأمر كذلك لما جسّدها جيبسون بمشاهد مراهنة الشيطان للمسيح على قدرته لتحمّل كلّ هذه الآثام. وهذا ما دعا البعض لتبرير العنف المصوّر.

عند هذا البعض، أنّ العنف مبرّر من حيث الحقيقة التاريخيّة من جهة، وبهدف إيصال الرسالة المسيحيّة من جهة أخرى. هذا العنف هو واقعة تاريخية إذ كان بدعوة صريحة من سلطة اليهود في ذلك الزمان. وهو يظهر عدم قدرة الشعب، المسمّى مختاراً يومذاك، على تحمّل سلام المسيح. أرادوه ملكاً زمنيّاً يرفعهم بالسيف درجة عن غيرهم، فأتاهم متواضعاً ولا زهرة الأقحوان. بل أرادوه جالساً على عرش يتقبّل خضوع ملوك الأمم قاطبةً، فإذا به وديعاً ولا حمل الفصح. فرفضوه. يقيني أنّه لو عاد اليوم وأعاد ما قاله بالأمس لرفضوه مجدّداً ولكن ... ليس وحدهم هذه المرّة.


بالطبع ليست هذه الحقيقة المشار إليها سالفاً، والواردة في الأناجيل في أكثر من مكان، والتي جسّدها فيلم جيبسون بوضوح، خاصة في ليلة القبض على من كانت مملكته في غير هذا العالم، ومحاكمته في السنهدرين اليهودي، وهو مجلسهم الديني الأعلى، هي سبب ترحيب الشعوب العربيّة للفيلم. فالعقائد متباينة والإختلافات حول شخص المسيح واقعة بثبات، وقد يكون أهمّها مسألة موت المسيح على الصليب. لكن المواقف الإيجابيّة من الفيلم، وقد علا صوتها بوضوح في أكثر من مكان، أظهرت الشعور ( العام) بأنّ نقطة هامّة سجلّت لصالحهم في مسألة صراعهم المستمرّ مع صهيونيّة حكّام الأرض المغتصبة. والبعض تساءل عن تأثير فيلم جيبسون المرضي عنه مسيحيّاً، وقدرته على تحوّل الغرب المسيحي الى مساند صريح للحقّ العربي في فلسطين. وكان أنّ معظم الأسئلة والمواقف والآراء في ندوة تلفزيونية جرت مؤخّراً، أشارت الى هذا التغيير المفترض. بعض الألسنة، ولا نعلم مصدرها، راحت تتكلّم عن رواج الفيلم وإن سرّاً في بعض الأقطار العربيّة. والبعض الآخر، ولن نقول بشماتة، رأى في الفيلم دحضاً أكيداً لوثيقة تبرئة اليهود التي أصدرها سيّد الفاتيكان منذ سنوات قليلة. لن ندخل هنا في تبريرات هذه الوثيقة التي سالت في الكلام عنها أنهار من الحبر. ولكنّنا نكتفي بما يذكره البعض من أنّ المسألة عند الفاتيكان هي إيمانيّة في جانب كبير منها، ذلك أنّ تجسّد الإبن وموته ثمّ قيامته هو مشروع إلهي مقرّر سلفاً لافتداء البشر، كلّ البشر. والحال، تكون خيانة المسيح ومحاكمته وتعذيبه والمطالبة بصلبه وموته جزء أساسي من هذا المشروع. ولولا هذا الجزء لما كان للمشروع أن يتحقّق بالقيامة التي لولاها لما كان للمسيحيّة وجود.

ولكن ما لنا ولهذا الأمر الآن؟

إنّ ما نريد قوله في هذه العجالة هو أنّ الفيلم لن يرجع فلسطين، وأنّ تأثيره في الغرب المطمئنّ لن يكون أكبر من تأثير مراسلات الحسين – مكماهون. فالغرب الغارق في مصالحه وعولمته حتى الأذنين ما هو إلاّ بريطانيا أخرى. وها معلومة إضافيّة متواضعة ولكن قد تكون معبّرة، تفيد بأنّ فيلم جيبسون الذي تربّع على عرش شبّاك التذاكر مدة ثلاثة أسابيع أزاحه عن هذا العرش فيلم رعب بعنوان فجر الموتى، يتحدّث عن أرواح شرّيرة تدخل أجساد نتنة لتقوم وتنتقم من الأحياء أين مكان. والحال، ألا يدعوننا هذا الى تكرار أقوال كثيرين من أنّ فلسطين لن يرجعها إلاّ الوعي والعمل وفق مقتضيات هذا الزمن الذي نحن فيه. هذا الزمن العلمي بامتياز والمتصالح مع شعوبه بالحرّية والديمقراطيّة والمساواة والرافع باستمرار شرعة حقوق الإنسان فوق الراحات.

 الأبرز في زوايا نقد الفيلم هو غياب، أو خفوت، الكلام عن الحقيقة الإيمانيّة التي يريد إيصالها للعالم. نحن لا نتكلّم الآن عن اللاهوتيّين أو رجال الدين الذين تعمّقوا، بل خبروا فقه تجسّد المسيح. هؤلاء ولا شك، ترافقوا والإيمان في مشاهدتهم للفيلم. سبب هذا الخفوت عند البعض، يكمن في ضخامة الحملة اليهوديّة وقوّتها في الإعلام الغربي ( وإن خفتت الآن بعض الشيء، مدركة عقمها أمام نجاح الفيلم) بحيث أنّها استطاعت طمس المظهر الإيماني والهدف الروحي من عذابات وآلام ثمّ موت السيّد المسيح. وقد يكمن أيضاً في محاولة استغلال الفيلم لأغراض متباينة ولمصالح ذاتيّة من كلّ صوب، ممّا أشاح النظر عن رسالته التي لا تختلف في شيء عن رسالة الفيلم الديني من حيث المبدأ. ولكنّ البعض يتحدّث عن سبب آخر كامن في الفيلم نفسه. إنّه العنف. لسان حالهم إنّ القسوة الممارسة منذ اعتقال يسوع في بستان الزيتون ثمّ اللطم واللكم والركل ثمّ الجلد العنيف وتفاصيل الصلب والموت ( بعين واحدة تقريباً)، حبس كلّ الأنظار في هذه الصورة الدمويّة المؤذية ( هكذا على أكثر من لسان) للحواس والأحاسيس والمشاعر، والتي صرفت النظر عن الرسالة الروحيّة المفترض إيصالها الى كلّ مشاهد. أكثر هؤلاء مؤمنين. لا ينفع معهم الرجم الكلامي بكل نعت أو صفة. وهم يقرّون بأنّ نقدهم هذا لا يعني أنّ المسيح لم يعامل بقسوة، أو أنّ في الفيلم تزوير أو محاولة. إنّهم فقط يعتقدون أنّ إيصال الرسالة كهدف أخير لم يدرس جيّداً. كثيرون منهم أحزنتهم دموع مريم الصامتة أكثر من العنف الممارس على ابن الإنسان. يردّدون أنّ هذه الطريقة الوحشيّة، الهوليوديّة بامتياز، تثير الإشمئزاز أكثر ممّا تثير الحزن. وهم بصورة آليّة، يقارنون ما شاهدوه مع مشاهد فيلم آخر لحياة المسيح، شهير هو الآخر، لزفيريلّلي: يسوع الناصري. عندهم أن مسيح زفيريلّلي يجذب حتى بنظراته الهادئة القلوب فيدعو المشاهد الى الصلاة. وهذا ما لم يشعروا به مع مسيح جيبسون. هم، في الفيلم الحاضر، تحت تأثير اللمسات الهوليوديّة، أمّا مع زفيريلّلي ( الغير مؤمن) فيرون أنفسهم أمام رسالة واضحة إن ببساطتها أو هدوئها. وبصرف النظر عن إن كان ما يقولونه صحيحاً أم خطأ فالتوضيح من جانهم واجب. وإن كان مطلوباً التعمق بالإيمان والعقيدة المسيحيّة من كل مؤمن فمطلوب أيضاً من المولجين بهذا التوضيح أمور كثيرة.

ندعو هؤلاء المنتقدين الى التساؤل عن سبب تشجيع الكنيسة للفيلم. فقد يلقون جواباً شافياً. عندي أنّ المسألة لاهوتيّة بامتياز. لا شكّ أنّ الكنيسة ترى الضلال الذي يسود العالم اليوم وتعاين تعلّق البشر بالمادّيات والمغريات على اختلافها. وكم جاز لنفسه ذلك اللاهث وراء مصالحه أن يسلك سبيل الشرّ. فإذا كان كلّ واحد منّا يصلب المسيح ثانية بشرّه وعمله الفاسد والمفسد، فلنحصي بعضنا وشرورنا وعدد ضربات سياطنا على جسد المسيح. ولنتخيّل القسوة التي نعامل بها مفتدينا، تلك التي نرفعه بها على خشبة العار ونقتله من جديد. إنّه عنف أين منه عنف فيلم جيبسون.  لقد قال الفيلسوف الفرنسي باسكال عن آلام المسيح ما يفيد هذه الحقيقة: المسيح الذي نازع في بستان الزيتون ما زال ينازع حتى اليوم وسيبقى الى النهاية. بهذا المعنى، ما زال المسيح في دار المحاكمة وما زال يجلد ويهان، وهو باقٍ على الصليب وسيبقى حتى النهاية. وعندما سئل مِل جيبسون عن اعتقاده أنّ اليهود هم الذين قتلوا المسيح ردّ سريعاً: هم وأنا.

لست من يعطي دروساً في اللاهوت والإيمان لأحد. كان كلّ همّي أن أعاين روحانيّة الفيلم. وأن أنفي صحّة المعادلة الحسابيّة المنتشرة اليوم ومفادها: حملة يهوديّة عنيفة ضدّ الفيلم مع ترحيب عربي زائد تأييد فاتيكاني له، النتيجة نجاحه. علّني أصبت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق