الخميس، 5 فبراير 2015

معجزتان!


معجزتان!
(بتصرّف عن قصّة لميخائيل نعيمة)


اسمه " فليكس"، سعيد، لكنّه كان غريباً عن اسمه، حتّى أنّه كره والديه بسبب هذا الإسم.  شقيّ، بائس، ما تعرّف فمه طوال سنين على ابتسامة، وما كانت أفكار السوء لتهدأ في رأسه حتّى عندما كان ينجز عمله كما يرغب ويشتهي. عمله!، نعم، كان " السرقة".
لم يبتسم في حياته، ولكنّه أيضاً لم يبكِ. أكثر من نصف قرن من الغربة عن الله، عن الراحة، قضاها في كلّ مكان. وأكثر من نصف هذا الزمن قضاه في السجون التي ما إن يخرج من ظلماتها حتى يمسك بقضبانها من جديد. بائس هو حتّى الانزواء القاتل. الكلّ أعداؤه، أمّا السرقة فغارات غزو على هذا الكلّ. قاطع علاقة مع الآخرين كما مع الله. يبغضهم لأنّهم، هكذا يظنّ، يبغضونه. ولماذا يحبّونه؟ هم أحسن حالاً منه. بعضهم يبخلون حتّى بالنظر إليه، يرمقونه بعين تأنف حتّى النظرة السريعة. وهو، يعاملهم بالمثل، يقرف منهم، يسرق أموالهم ومقتنياتهم، والبادئ أظلم.
سارق إذاً هو.  محترف، خبر كلّ القساوة وعدم الاطمئنان في حياته الشقيّة.
لكن " سرقة" البارحة كانت غيرها كلّ السرقات. لقد أفرغ كلّ ما في عينيه من دموع حبستها السنين. دموع ما زالت آثار حرقتها على وجنتيه، وقد رسمت خطوطاً حمراء لا تمّحي. ما يعزّيه اليوم، أنّ بطرس الرسول بكى حتّى كاد يختنق. بطرس أنكر المسيح ثلاثاً، فما أهمّية بكائه هو، وقد أنكره طوال العمر الّذي مضى.  ما أدهشه وما زال، أنّ من دعاه الى تذكّر الربّ فتاة عمياء، صغيرة، و ... مؤمنة. أمّا يد يسوع فكانت حاضرة. ولأنّها كذلك، ما كان يستطيع أن يتوقّف عن البكاء.
*
إختراق الغرفة في ذلك المنزل الهادئ، لم يكن صعباً، أين منه اختراقات الأيام الغابرة.  الشرفة منخفضة، وقفزة بسيطة، رشيقة، تجعله يقف كالرمح، منصتاً، وراء الحائط الأبيض الّذي يفصله عن الداخل. لم يكن هنالك من صوت، حتّى ولا حركة هواء. المنزل خالٍ، وهذا ما هو مطلوب. جرّ باب الغرفة بخفّة الخبير، ودخل بخطى خفيفة متوجّهاً الى حيث الخزانة، كأنّه، ولا عجب، يعرف مكانها. الخزائن، على أيّ حال، هدف كلّ السارقين. فتح بابها بتأنّي الطبيب الجرّاح، ثمّ وقف ينظر محرّكاً عينيه ذات اليمين وذات السار، يفتّش عن طريدة هذا المساء، دون أن يحرّك رأسه الجامد كما الصنم.
وفجأة، سمع صوتها. صوت ناعم، غامر بفرح الشوق. نعومته أرشدته على أنّ صاحبته لم تتجاوز بعد سنين المراهقة. كان يتخيّلها تبتسم. سعيدة، كأنّها، بوجوده، غير خائفة، بل إنّ في صوتها بحّة حنان وعطف تأخذه الى عالم جديد، لا يعرفه.  أخذته الدهشة فتسمّر مكانه. لم يعد يستطيع الحراك.  وعاد الصوت: " كنت متأكّدة بأنّك ستأتي". يا لهذا الصوت الدافئ! أراد لو يهرب، لو يطير، لو يختفي عن هذه الدنيا. عاجز كأنّه عن المواجهة، هو الّذي واجه صعاباً أقسى ممّا يواجه الآن.  لكنّه ما عاد يشعر بقدميه، لقد غابت عنه وكأنّها لم تكن. تمثّل له أنّه عارٍ تماماً وسط عيون جاحظة، وما أكثرها، لا يرفّ لها جفن. لم يكن يستطيع سوى النظر الى الأرض، الى الأسفل، مستسلماً لكلّ احتمال.  أدرك أنّ الفتاة تقوم من سريرها وتتّجه نحوه، فازداد صمتاً. عندما وضعت يدها في يده، لم يعد يرى شيئاً. لقد استسلم كاملاً، عاجزاً حتى عن إزاحة يده.  سمعها تخاطبه:
- " أعلم أنّك أتيت من أجلي. كنت على ثقة بأني متى سأنتهي من صلاتي ستكون حاضراً أمامي. وها أنت هنا الآن".
وازداد صمتاً. ولكنّ أفكاره راحت تتخبّط كأمواج تتضارب وسط أعصار كبير، خيّل إليه أنّه لن يستكين. صلاة! وأيّ صلاة؟ وهل في الدنيا من، بعد، يصلّي! ثمّ كيف أنّه عاجز عن الحركة وهو أمام طفلة ضعيفة، واهنة؟
- " ماذا؟  ألن تقول شيئاً؟"
وماذا يقول؟ يودّ لو يهرب، لو يصبح وقوداً لأتون هذه الأرض الّتي لا يستطيع أن يشيح النظر عنها. ولكنّ هذه الفتاة لا تنفكّ عن دفق حنان يشعر به لأوّل مرّة. وها هي تقبّل يده القذرة الحاملة كلّ أنواع السرقات.
- "أنت تعلم، أنّي ضريرة منذ ولادتي. لا أرى سوى الظلام. إن كان غيري أكثر حاجة منّي للشفاء فلتكن مشيئتك، فأنا أتدبّر أمري. إنّي معك أعيش بنور القلب. ولكنّي متأكّدة أنّك هنا لشفائي. قل كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط، وسأكون في النور ... صلّيت لك كثيراً، وسأبقى. أنت ملاذي الأخير. وكم طلبت شفاعة أمّنا العذراء، ألا أستحقّ كلمة واحدة منك ...".
لم تدعه يطيل صمته:
  - " في الإنجيل أنّك كنت تقول لمن تشفيه، إيمانك خلّصك. وكان يشفى من عاهته للفور. وإيماني كبير، كبير جدّاً، أنت تعلم ذلك. قل لي إذاً هذا الكلام. أنا أعلم أنّك هنا لهذا الغرض. ليتني أستطيع أن أرى وجهك ... سأراه حتماً، أليس كذلك؟ فأنت هنا لتعيد لعينيّ النظر".
وشعر بالدفء للمرّة الأولى. لقد راحت، منذ ذلك الحين، الدموع تتساقط من عينيه. لأوّل مرّة صلّى: " اشفها يا ربّ، كما شفيتني الآن". لأوّل مرّة شعر أنّ الحياة قصيرة، قد لا تكفي لتوبة صادقة. لقد مرّ شريط حياته سريعاً أمام ناظريه. أدرك كم كان يعيش في القذارة، كما أدرك كم كان الله رحيماً معه، وأدرك أيضاً، كم كان بعيداً، هو، عن محبّته الفائقة. نظر الى وجه الفتاة المغمضة العينين، ووضع يده على رأسها، وراح يداعب شعرها الأملس. أمسكت الفتاة يده، وشعرت بدمعة حارّة تسقط على يدها الصغيرة.
*
           عندما رحل من الشرفة، كما دخل، لم تستطع الفتاة رؤية وجهه، لكنّها أصبحت ترى كلّ شيء. أمّا هو، فلقد رحل مسرعاً، رحل الى البكاء المرّ. لكنّه، هو أيضاً، أصبح يرى كلّ شيء.
           معجزتان! إيمان أكيد، وحضور للربّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق