في رحاب العصر الشيطاني.
كشفت الحالة التي يعيشها الشرق الأوسط،
تحديداً الدول العربيّة منه، عن انتقال العالم الى عصر جديد أقلّ ما يقال فيه أنّه
عصر الفساد والكذب. ولكلّ عصر هدف كان يسعى إليه وكان يسمّى به: عصر النهضة،
الأنوار، الحداثة، ما بعد الحداثة، العولمة ... الخ. ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نلاحظه
في وصف عمل هذا العصر وهدفه، هو أنّه يعمل، وبشكل ممنهج، على تعمية الحقائق
وتوريتها ثمّ دفنها واستبدالها بكذب يخدم الفساد ويثبّته صفة لهذه المرحلة من
الزمن. وإذا كانت الأديان المختلفة وجماعاتها من جهة، واللادينيّين وجماعاتهم من
ملحدين أو غير آبهين أو معنيّين من جهة أخرى، يتّفقون على أنّ الكذب والفساد هي من
أعمال الشيطان، فيكون هذا العصر هو عصر شيطانيّ بامتياز. للتنبيه، نحن لا نبحث هنا
في مسألة وجود الشيطان أو عدم وجوده، فنحن نتحدّث عن صفة لهذا العصر الذي نعيش،
والقائم على الكذب والفساد. وقد تكون أوضح صورة لتجلّيات هذا العصر الشيطانيّ، الكاذب،
الفاسد، هي ما نعيشه نحن تحديداً في الشرق الأوسط.
من صور هذا الزمان الفاضحة، ومن مسائله
المالئة الدنيا والشاغلة الناس، هي صورة الإرهاب الضارب أين مكان. وهي صورة يتناطح
قادة هذا العالم وحكّامه للوقوف في وجهها وجذّها من جذورها، ومحاربتها بقصد
إزالتها من الوجود، وإراحة العالم منها. وقد فاق عدد الدول المتحالفة للتصدّي
للإرهاب المتمثّل بما يعرف بداعش الستّين دولة. ولكن، لماذا هذا الشعور العام
بأنّهم كاذبون، وأنّهم يهتمّون بمصالحهم التي قد نستنتج بعضها من دون أن نتفهّمها
بالكامل، نحن الذين نريد أن نعيش في عالمٍ هادئٍ، مستقرٍ، مسالمٍ، إنسانيّ بكلّ ما للكلمة من معنى؟ لماذا نرتاب في مسألة صدقهم فيما يعلنون؟ هل باتت حياة الناس الى هذا الحدّ رخيصة، بحيث نراها تساق الى الموت
من دون أن نأبه لا لطريقة هذا السوق المزرية ولا لطريقة الموت البشعة عينها؟
تقول دول التحالف ضدّ الإرهاب، وعلى لسان من يتراّسها، أنّها بحاجة
لما لا يقلّ عن سنتين ونصف للقضاء على دولة داعش. لما كلّ هذا الوقت؟ يكفي وقف
الإمدادات لداعش حتى تنهار. إذا ما أغلق العالم ذاته عن داعش فكيف لها أن تستمر؟ أمّا أن تصمد لسنتين في ظلّ قصف الطيران المركز على وحداتها فهذا يعني
أنّ الإمدادات لداعش مستمرّة. إن تعمية هذه الحقيقة لن تجعل القضاء على داعش أمراً
مفعولاً. قد يكون الأجدى أن يتمّ البحث فيمن يموّل داعش ويمدّها بما يمكّنها من
الاستمرار، وأن يتمّ التفاوض معه لإقناعه بالعدول عن فعلته، أو اتّخاذ الإجراءات
الرادعة لذلك (حظر إقتصادي مثلاً). والأمر سهلٌ بالتأكيد إذا ما كان العالم كلّه
متضامن ضدّ الإرهاب، وعل الأقلّ هو سهلٌ بالنسبة لدول التحالف الستّين. ولكنّ
الأمر لا يحدث بهذه البساطة التي نتحدّث عنها الآن. السبب قد يكون، كما يشاع،
مصالح الدول وإن على حساب مئات آلاف القتلى، أو النفط وهو قوّة إقتصاديّة كبرى، أو
إسرائيل وخدمتها ومصالحها الإقليميّة ... أمّا النتيجة فواحدة: فساد وكذب وتعمية
حقيقة.
"داعش ليس من الإسلام بشيء"، هذا لسان كلّ قادة الدول
العربيّة تقريباً، فهي– داعش-تمارس على الأقلّ، فهماً خاطئاً لدين الإسلام. لما
إذاً لا تعلن ذلك صراحةً وعلى الملأ، المرجعيّات الإسلاميّة المعتمدة؟ وفي الإسلام
أيضاً مسألة الردّة. والمرتدّ هو من يخرج عن الدين الإسلامي، سواء لدين آخر أو
للإلحاد. هذا الأمر مرفوض من المسلمين وعاقبته وخيمة تصل الى حدّ القتل. ونسأل، هل
الردّة تعني فقط الخروج عن الدين سواء الى دين آخر أو الى الإلحاد فتستوجب عقوبة،
وأنّ البقاء في الدين وممارسة أحكامه بشكل خاطئ ذبحاً وإرهاباً وتهجيراً لا يعني
ردّةً؟ ألا تعتبر الممارسة الخاطئة، كما هي حال "داعش"، خروجاً عن الدين
الصحيح؟ ألا تستوجب على الأقلّ عقوبة ما؟ أم إنّ "داعش"، كما نقرأ على
لسان بعد الأقلام، لا تفعل سوى تطبيق النصّ الديني الإسلامي؟ أو أنّ في الأمر فساد
ما على مستوى الفهم الديني، أو كذب ما لغرضٍ في نفس يعقوب، أو تعمية حقيقة؟
كان العام 2011 عام ما عُرف بالربيع العربي في أكثر من دولة عربيّة،
(تونس، مصر، اليمن، البحرين، سوريا ...). وكانت المطالب الرئيسيّة لهذا الحراك
محدّدة بإثنين واضحين: الحرّية والديمقراطيّة. في ذلك الزمن ما كانت
"داعش" قد وجدت بعد. وصمت العالم في البدء وقد كان يدرس، ربّما، هذا
الحراك ليتّخذ منه الموقف المناسب. بعد ذلك صدّر العالم للربيع العربي كلاماً
مؤيّداً. والكلام بقي كلاماً. لم يرتقِ الى مستوى الفعل والتأييد العملي والمساعدة
الفعليّة. وفي المحصّلة العامّة، لم يدعم العالم هذا الحراك، لم يدعم مسألة
الديمقراطيّة والحرّية هدفي هذا الحراك. إنّ واحداً من أسباب سقوط الربيع العربي
في بعض الدول، وظهور داعش، كان عدم الدعم العالمي له. فساد عالميّ منتشر، وكذب
خبيث فاضح، ومصالح لا تقبل بدول ديمقراطيّة في هذه البقعة من العالم وتالياً ...
تعمية حقائق.
سبب آخر واضح لسقوط ذلك الربيع الذي لم يزهر بعد، والذي حمّل آمالاً
كبيرة. إنّه التعصّب المذهبي. ونسأل: هل الخلاف السنّي – الشيعيّ قائم فعلاً في
هذه البقعة العربيّة، على الأقلّ، من العالم الإسلامي؟ أم إنّ الأمر مجرّد مقولة
لا أساس لها كما يحلو للبعض تأكيده؟ نحن لا نرى صراعاً دمويّاً وحروباً أهليّة
يمارس فيها أقسى أنواع الجرائم إلاّ في الدول المختلطة من مثل اليمن، البحرين،
العراق، سوريا ... في تلك الدول، الصراع السنّي الشيعي واضح جليّ. لم نره في تونس
مثلاً ولا في مصر، أمّا مسألة وجود داعش في ليبيا فالأمر لا ينفي وجود الصراع
المذكور. في لبنان الصراع هذا ممسوك حتى الآن، وهو يمارس في المجال السياسي
ومحاولات السيطرة على الحكم من دون اللجوء الى العنف الظاهر. والكلّ متّفق على
إبعاد الانفجار الذي إن حصل سيعيدنا الى الأيّام السوداء التي كنّا فيها. لما إذاً
يتمّ تجاهل هذه الحقيقة، من قبل الإقليميّين والدوليّين على حدّ سواء؟ لما
إخفائها؟ وكيف السبيل الى التصدّي لها إذا ما تمّ تجاهلها؟ متى كانت تعمية الحقائق،
على مرّ العصور، نافعٌ؟ ثمّ، لما كلّ هذا الكذب، ولأجل من؟
بعد سنوات فاقت الأربع على بدء هذا الصراع الدموي، لا يبدو أنّ حلاًّ
حوارياً، سياسيّاً، يرتسم في الأفق. مئات آلاف القتلى، بدا، أنّها غير كافية
للجلوس على طاولة حوار والبدء في إيجاد الحلول الناجعة للحالة التي نعيشها جميعاً.
ذلك أنّ كلّ فريق من الأفرقاء المتصارعين يعتقد أنّه من القوّة والأحقّية بمكان
بحيث أنّه متأكّد من الإنتصار وإن طال الزمن، فلما إذاً التفاوض؟ الحلّ سيكون
حتماً جذريّاً. والكلّ يعتقد أنّه سيكون لصالحه. جذريّة الحلول هذه ستعمي الأبصار
عن الخسائر والدمار الذي قد لا يعوّض متى ما أصاب التاريخ، والبيئة، والتراث،
والعادات ... الخ. ثمّ أنّ فيها من المكابرة والتعالي ما يحزن ويحبط في آن، ومن
الضعف ما يثير الشفقة. جذريّة الحلول فيها من التعصّب والجهل الشيء الكثير. وما
كان يوماً التعصّب والجهل بنّاء مجتمعات.
صحيح أنّنا في لبنان متّفقون على استمرار الاستقرار الأمني، وبهذا قد
نكون مختلفين عن الآخرين، ولكنّنا لا نبدو أنّ متحرّرين من مسألة جذريّة الحلول
بدليل أنّنا لا نعطي مسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة أهميّتها الحقيقيّة. الكلّ
يعتقد بأنّه الأقوى وسينتصر ... فلما التوافق إذاً؟ ... ولكن ... إذا كان المطلوب
هو العمل على التصدّي لهذا العصر الشيطانيّ بالتفكّر، والهدوء، والصدق وروح
المسؤوليّة مقابل كذب وفساد هذا الزمن وتعمية الحقيقة الممنهج، فماذا يمكن أن يكون
عليه دور المسيحيّين في لبنان وهم المعنيّون مباشرة بمسألة انتخاب رئيس
لجمهوريّتهم؟
يتبع
27\2\2015
د. طارق الشدياق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق