من قال أنّ الثقافة عامّة هي براء من
ثقافة الدين؟!
قد تنوجد في حديث
" ثقافة"، مع نخبة من الناس عمقت معرفتهم وتوسّعت في كلّ اتجاه، فنهلوا من
تاريخ الإبداع البشري معلومات وافرة واثقة عن مبدعين قمم، أغنوا تاريخهم والناس روائع
لا تنسى. فتسمعهم يتحدّثون عن كبار رحلوا، ويغرقون في تفاصيل حياتهم، تلك غير المعروفة،
ليؤكّدوا شموليّة معرفتهم. وإذ يرومون تثبيت ثقافتهم، يغوصون في طفولة المبدعين.
يتحدّثون عن رسّام
عظيم رحل، وما رحلت إبداعاته. يشرّحون لوحاته، الواحدة تلو الأخرى، فيحلّلون الرسم
بذاته، ويكتشفون أسرار هذا المبدع من دراسة مستفيضة عن الألوان التي مزجها على قماشته،
والرسوم التي خطّها بريشته السحريّة. ولكلّ لون رمز، وفي كلّ رمز رسالة يُظهر إبداعها
الهدف منها. ولكي يكملوا إبراز ثقافتهم، يعودون إليه طفلاً. لقد كان لا ينفكّ عن التقاط
وريقة، يرسم عليها بقلم الرصاص ما يعجز عن فعله رسّامو اليوم. ويؤكّدون أن هذا، ما
كان سوى دلالة على عبقريّة فذّة ستظهر فيما بعد. عبقريّة ستكون محطّ أحاديث العالم
المشدوه. البرهان: ها هم، كما الكلّ، يتحدّثون عنه.
وقد يأتون على ذكر
نحّات كبير، فيلقون به وبأعماله على طاولة ثقافتهم. وإذ يلتقطون مباضعهم، يشبعون أذنيك
بما لا تعرفه عن هفوات طفولته. فكم من مرّة رآه الّذين حوله، يحمل في يده حجراً ويحدّق
به طويلاً، كأنّه الحبيبة منفوشة الشعر، تنتظر تسريحة الجنّية المجنّحة. وكان لا يمضي
النهار حتى يحوّل حجره الى رائعة فنّية بأدوات المنزل البدائيّة، سكاكين المطبخ الصغيرة.
وكم من مرّة جرح يده الصغيرة، فسالت منها دماء الإبداعات. لقد ولدت عبقريّته يوم ولد. وقد لا يغيب عن ذكرهم أن يؤكّدوا أنّ أمّه، تلك
العظيمة، التي لولاها، لولا دعمها وتشجيعها له، لما احتلّ عبقريّنا عرشه على القمّة. لقد كانت تراه مراراً يتكلّم مع الأحجار في يديه،
أثناء نشرها للغسيل على حبال مصطبة البيت.
وذاك الموسيقي،
الواسع الشهرة، الّذي كان ينسغ، وهو بعد طفلاً، من هدوء الطبيعة وتناغم سكونها، ألحانها
الشجيّة. ثمّ ينزوي في غرفته المنفردة ليستعيد
النغمات، التي التقطتها أذنه، عزفاً على مطّاط سرواله. وكم أزعج الجيران بعزفه على
جدران المنزل لكمات بيديه، تهدر إبداعاً وعبقريّة.
أمّا ذاك الشاعر
الصغير، وما كان قد دخل بعد في سنّ المراهقة، فكان، منذ انفجار الصبح، يجلس على صخرة
الوادي ليحاكي الطبيعة، ويرسم على أوراقه حواره الصامت معها أبياتاً خالدة... ويقرأون
قصيدة من إبداعاته، تلك التي نظمها وهو رضيع، ثمّ يهزّون الرأس دهشةً واستغراباً، ومنهم
من يسبّح الله تعالى إعجاباً بما سمع.
وإذ يتابعون، تأخذك
الدهشة من ثقافة واسعة متناثرة، يؤكّدون صدقها بمراجع ومؤلّفات، فيذكرون إثباتاتهم
فصولاً وصفحات. ولكن ...
إيّاك أن تتكلّم
عن طفولة قدّيس. لا ماذا كان يفعل، ولا ماذا كان يقول. فأنت إذذاك، مدعاة لنظرة استغراب
أو لابتسامة ساخرة، ومنهم من يقلب شفتيه. يحكمون أنّك خارج هذا الزمن، وهم فيه اللّب
والجوهر. ويحكمون عليك أنّك ناقص ثقافة وعلو، ولكنّهم لا يفقهون أنّهم، شيئاً فشيئاً
يخرجون عن الدين الحق.
فهناك، عندهم، دلالات
عبقريّة وإبداع. أمّا هنا، فإشارات القرب من الله طيبةً وتواضعاً ونقاوة قلب لا يعرفونها.
وشتّان ما بين كبرياء النفس ووداعة القداسة، وما بين إبداعات العقل وطهارة القلوب.
فالطفل الحامل قلم رصاص، والمنحني على ورقته الصغيرة غيره الطفل الحامل السبحة والساجد
على ركبتيه، رافعاً رأسه الى الأعلى. مع الأوّل ثقافة، هكذا يدّعون، ومع الآخر إشاحة
وجه! ولكن، من قال أنّ الثقافة عامّة هي براء من ثقافة الدين؟! من القادر على تحمّل
مسؤوليّة هذا القول؟ وكيف لا يكون للقدّيسين، وهم كثر، حصّة في تاريخ الإبداع البشري؟
وما كانوا طارئين أو غرباء عن مجتمعاتهم، بل كانوا فيها محبّة صرفه، تجلّت في لجان
وجمعيّات ما دامت إلاّ بالعناية الإلهيّة المباشرة.
فللكلّ بداية، وفي كلّ بداية علامات دالّة
على شيء مختلف. وقد تكون علامات القداسة هي الأوضح في بدايات القدّيسين، وفي المسيرة
الإنسانيّة المستمرّة. وهي، من بين كلّ علامات المبدعين، الأصدق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق