الجمعة، 22 مايو 2015

الجسد الممجّد - رسالة الى المهندسّ شربل فخري.


الجسد الممجّد على طريق عمّاوس.


كلمة الى المهندس شربل فخري.
 

 


أخي شربل ...

بفرح كبير قرأت ما خصصتني به من كتابات لك رائعة، عن رجائنا الحيّ الى الأبد، يسوع المسيح ربّنا وإلهنا، الذي بادر فأحبّنا أوّلاً وأعادنا الى حضن الثالوث الدافئ، وضمن لنا مكاناً في منازل الآب الكثيرة.

وقد أرجعني ما كتبته بالزمن سنوات، وإن قليلة، يوم كانت مسألة الجسد الممجّد تضغط على عقلي الصغير ... الصغير، الصغير ... أمام الحقيقة الإلهيّة الأزليّة الواحدة، الثابتة التي لا تتبدّل، والتي لن ندركها إلاّ معه هناك يوم نقف أمام الجالس على العرش ننتظر رحمته. هل من الضروري أن أقول لك كم من علامة استفهامٍ حول المسألة رسمتها أمام ناظريّ منذ ذلك الوقت؟ وكم من علامة تعجّب نثرتها هنا وهناك وأنا أقلب شفتيّي وأرفع حاجبيّي اندهاشاً؟ ربّما كنت في ذلك الزمن قليل الإيمان وكثير التفكير. أو ربّما أردت إرضاء عقلي الذي من طبيعته أنّه يروم منطق الأمور. ولكنّي لن أكتمك سرّاً إن قلت، بأنّك لو سألتني اليوم عن المسألة نفسها، بعد زمن تأمّلات وصلوات وقراءات ومشورة عارفين، فلن يكون جوابي سوى الردّ عينه الذي كان في جعبتي يومذاك، والذي استقيته من بولس الرسول يوم تحدّث عنها في رسالته الى أهل قورنتس[1].

ومع هذا أرغب لو نتشارك في بعض الأفكار التي كوّنتها عن الموضوع، والتي بدا أنّ توافقاً عليها حصل مع مجموعة من اللاهوتيّين[2].

لنتّفق أوّلاً، أنّ قيامة المسيح ليست مجرّد إحياء جثّة. ففعل "قام"، في قولنا "قام من بين الأموات"، يعني اًلإستيقاظ أو النهوض[3]. فكما نحن عندما نستفيق وننهض من نومنا، كذلك قام المسيح[4]. وهكذا تكون القيامة تحوّل كامل للقائم، بحيث يصبح الجسد روحانيّاً وممجّداً، وهو تحوّل لا يستطيع الإنسان إدراكه بعقله[5].

ولنتّفق ثانياً، أنّ المسيح هو من يبادر فيظهر نفسه لمن يشاء[6]. وبهذا المعنى لا تكون ترائيات المسيح من دون هدف، أو كما يدعوها البعض أحداثاً حياديّة[7]. فشاهد الترائي يتسلّم مهمّة إعلان القيامة على الأقلّ. أمّا ما أودّ ذكره لاحقاً، فيبدو مختلفاً عمّا قرأته فيما كتبت أنت في " على طريق عمّاوس"، ولكنّه يسير في الإتّجاه عينه. وإنّي أبادر وأعلن أنّي لا أتشبّث برأيي ولا أدّعي معرفة. وأنّ كلّ ما أفعله ما هو إلاّ تدوين لقناعاتي وحسب، تلك التي كوّنتها مع الزمن.

صحيح أنّ المسيح القائم من بين الأموات لم يعد ينتمي الى عالمنا، بل الى عالم الله. وصحيح أنّ اختباره كحقيقة من حقائق العالم المحسوس أمرٌ مستحيل. ولكنّ من يراه، من يظهر المسيح له نفسه، يراه بعينيه الجسديّتين. وهو – أيّ الرائي – يتمتّع برؤية بصريّة كاملة[8]. ... هل فجّرت قنبلة! ... سأوضح.

المسيح تراءى لبطرس ويوحنّا وآخرين على شاطئ بحيرة طبريّا فلم يعرفوه للتوّ. بل بعد أن أشار إليهم بإلقاء الشبكة الى يمين السفينة[9].  (مسألة اليمين مسألة جدّ مهمّة قد نتناولها فيما بعد). وتراءى لمريم المجدليّة فظنّت أنّه البستاني، ولم تعرفه إلاّ بعد أن سمعت صوته إذ ناداها[10]. وتراءى للتلاميذ وكان توما معهم الذي بعد أن عاين جروحاته آمن به. أمّا التلاميذ فظنّوا أنّهم يرون روحاً فأخذهم الفزع والخوف[11]. كذلك فعل مع تلميذَي عمّاوس، ولن نكرّر ما قرأناه. ما هو مهمّ فيما ذكرت، أنّ يسوع سمح لهم بلمسه كما مع توما وغيره. ولكيّ يهدّئ من روعهم سألهم طعاماً وأكله معهم وبمرأى منهم. يسوع إذاً في ترائيه لم يكن روحاً صرفاً[12]. وما طلب منهم التحقّق مّمن يرون إلاّ ليؤكّد لهم أنّ الجسد الذي صلب ومات على الصليب، وقبر في قبر يوسف الرامي، هو هو، القائم من بين الأموات. وأنّ هذا الجسد ما زال يحمل آثار جروحاته. هو إذاً جسد حقيقي[13] ولكن ...يحمل مزايا وصفات جديدة.

هذا الجسد ما عاد محدوداً في الزمان والمكان. فيمكن له أن يتراءى كما يشاء ومتى أراد لأنّه، تحديداً، بات ينتمي الى عالم الله. والحال، يمكن له أيضاً أن يظهر بأيّة هيئة يريدها، كما في ترائيه في هيئة البستاني أمام مريم المجدليّة. أمّا الهدف من كلّ ذلك، فهو تأكيد وتثبيت إيمان الرسل[14]. هل هذا يعني أنّنا، نحن البشر، عندما نلبس الجسد الممجّد إثر القيامة سنظهر كما نشاء، وبأيّة هيئة نريدها، هكذا بكلّ بساطة؟!

الجواب على هذا السؤال ليس بهذا اليسر ... عندي أنّه يجب ألا ننسى أنّ الربّ هو الإله، وأنّنا طامحون لنكون معه. وألا ننسى أنّه كان راعياً صالحاً عندما كان على الأرض، وسيبقى الراعي الصالح في كلّ زمان. والحال، سنبقى الخراف التي تعرفه ويعرفها، والتي يناديها بأسمائها. وسيبقى يريدنا على الأرض لتحقيق ملكوته، ويريدنا في السماء من أجل ملكوته. سيبقى القائد الذي يعرف كلّ شيء، وسنبقى جنوده بكامل حرّيتنا. وبالتالي سنظهر كما يشاء هو، ومتى يشاء هو، وبالهيئة التي يريدها لنا، هو. وكما على الأرض، يحرّكنا الربّ لمهمّة تحقيق ملكوته، كذلك في السماء.

شردنا؟! ... لنعُد.

إذاً، قيامة المسيح ليست عودةٌ الى الحياة الأرضيّة كما في إحياء أليعازر، أو إبنة يائيرُس. فهذه الإحياءات كانت أفعال عجائبيّة منه، وإنّ هؤلاء سيموتون من جديد. قيامة المسيح هي تحوّل كامل مليء بالروح القدس ومشارك للحياة الإلهيّة بمجده. والقدّيس بولس يقول عنه أنّه " الرجل السماوي" ... وهذا ما ينتظرنا[15].

وإذا كان ما ذكرناه صحيحاً، أيّ أنّ المسيح ظهر بجسده المجروح، الحقيقي، الذي مات فيه وقبر وقام، وإن ممجّداً، فلماذا لم يعرفه من كانوا ملاصقين له في حياته معهم؟

قد تكثر الأجوبة على هذا السؤال ... والتفتيش عنها لا يحيد عن دعوتنا للإيمان. ولكنّي وجدت أنّ من أفضل الأجوبة هو ما تقدّمه لنا حادثة تلميذَي عمّاوس نفسها، وفي آية واحدة.  لنقرأ ...

" ... وكنّا نحن نرجو أنّه هو الذي سيفتدي إسرائيل، ومع ذلك كلّه فهذا هو اليوم الثالث مذ جرت تلك الأمور ..."[16]

هذا هو السبب. وهل من سبب أوضح؟ لم يعرفوه لأنّهم ما عرفوا لماذا جاء. فبعد موته، وقبل العنصرة، كانوا ما زالوا يرجون أنّه سيفتدي إسرائيل. كان ما زال ذلك الملك الزمني الذي سيحرّرهم ويجعلهم أمّة واحدة، خالدة، تسجد أمامها الأمم. ما عرفوه مخلّصاً لهم وللبشريّة جمعاء، لذلك شكّوا ... طلبوا إثباتات، وبعضهم خاف منه. ما عرفوه ألاّ بعد أن ألقى عليهم سلامه، وسمعوا صوته، وعاينوا جروحاته. والأهمّ ... بعد أن نفخ فيهم وقال لهم " خذوا الروح القدس ..."[17]. وهل لغير المؤمن قدرة لأن يرى المسيح ويعرفه؟!

أعرف أنّي أطلت الكلام. سأنهي بأمر أخير حول هذه المسألة.

قلت بأن من رأى الربّ رآه بعينيه الجسديّتين. وهذا لا يعني بأنّه حتماً سيعرفه، إذ لن يعرفه إلاّ المؤمنين باسمه، كما جاء في بشارة يوحنّا: " وكان في العالم، وبه كان العالم، وما عرفه العالم. الى بيته جاء، فما قبله أهل بيته. أمّا الذين قبلوه، المؤمنون باسمه، فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله"[18]. ومع هذا أسارع الى القول بأنّ هذا الإختبار (ظهور يسوع) يبقى حقيقة نعجز عن التعبير عنها تعبيراً كافياً. وأنّه لا بدّ من التدخّل الإلهي القادر وحده أن ينير الحدث، وهنا يتّضح دور الإيمان الحاسم[19]. وإنّ حادثة عمّاوس تفيدنا أن اللقاء بالربّ يتمّ في كسر الخبز وفي قبول الإفخارستيّا. دعاؤنا أن: يا ربّ اجعل قلوبنا متواضعة مهيّأة لقبولِك ... أنت الوديع المتواضع القلب.


 

لكم أعجبني ما كتبته عن " رجل الواجب". لقد كان يسوع حقّاً رجل الواجب، طيلة ثلاث سنوات وبعدها في ترائيه. كذلك كان فيلبّس مع خازن ملك الحبشة. وأنّنا لقادرون أن نعدّ من رجال الواجب كثيرين. ألم يكن القدّيسون جميعاً " رجال واجب". وإنّي لأعترف لك، بأّنني عدت بعد ما قرأت كلماتَك عن هذا الأمر الى ماضيّي، وتساءلت بحسرة، هل كنت يوماً رجل واجب؟ أينني من الأنجلة والتبشير؟ لكم أوضحت لي كلماتِك تقصيري الفاضح. عزاؤنا أنّ الربّ فاتح ذراعيه، حيّ منتظر، مادد يداه.



أخيراً، إذ أدعوك وادعو نفسي لمتابعة قراءة الكتاب المقدّس، أروم أن نعرف المسيح. فلا يمكن لأحد أن يحبّ من لا يعرفه. فمتى عرفناه أحببناه وخدمناه.

سلامي لك، ولجماعة مار شربل، الأخوة في الربّ. وإنّي لأتطلّع إليكم تغزون العالم بروحانيّة ذاك الذي آلف الربّ حتى سكر به.

 

د. طارق شدياق

تشرين الأوّل 2006

 




[1]  - 1 قور 15.
[2]  - لقد أثبتت بعض المراجع في آخر كلمتي.
[3]  - دليل عربي يوناني الى ألفاظ العهد الجديد. الأب صبحي حموي اليسوعي – دار المشرق،  
     بيروت 1993.
[4]  - لعلّ أكثر ما يعبّر عن هذا الأمر هو المشهد الأخير من فيلم The passion of the Christ 
     للمخرج والممثّل Mel Gibson. لقد استفاق المسيح في القبر، نهض، نفض عن كاهله كلّ تعب،
     ووقف.
[5]  - هذا ما عناه بولس في رسالته المشار إليها سابقاً، حيث يتحدّث عن تحوّل جذري، تكون فيه
     الحياة خالية من كلّ أشكال الفساد، ومتحرّرة من الموت.
[6]  - ندرك هنا أن ظهوراته هي على غرار الظهورات الإلهيّة في العهد القديم.
[7]  - راجع قيامة المسيح، للأب صلاح أبوجوده اليسوعي دار المشرق – بيروت 2000.
[8]  -  راجع الأب اسطفان شربنتييه – "المسيح قام!"- نقله الى العربيّة الأب صبحي حموي اليسوعي
       – سلسلة دراسات في الكتاب المقدّس – رقم 4. الكبعة الثالثة. دار المشرق، بيروت 1990.
[9]  - يوحنا 21 \ 1 – 14.
[10]  - يوحنّا 20 \ 11 – 18.
[11]  - لوقا 24 \ 36 – 43.
[12]  - للتعمّق في هذا الأمر، راجع: Edward Bode; the first Easter morning. Collection Analecta biblica No 45- biblical institute press – Rome 1070.
[13]  - Cathechisme de l’eglise cathogique. F.M.A – 1994.
[14]  - Xavier Leon – Dufour: Resurrection de Jesus et message pascal ، Seuil , Paris – 1071.
[15]  - راجع كتاب الأب شربنتييه الوارد ذكره في الحاشية 8.
[16]  - لوقا 24 \ 21.
[17]  - يوحنا 20 \ 22
[18]  - يوحنا 1 \ 10 – 12.
[19]  - Gerald O’Collins: The easter Jesus. DLT . Pennsylvania 1937.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق