كلمة الى الأستاذ شربل فخري ...
"لا يجوز ان يؤخذ خبز البنين ويرمى للكلاب" (مرقص ٧/٢٧)
بين الأمل والرجاء
وهذا موضوع ... نعم.
لقد أرجعتني لأتذوّق طعم الإيمان يا رجل ... ولأشهد معك أنّ الأمميّين
قد يكونون أقرب للخلاص من اليهود (كلّ أمميّين وفي أيّ زمن). وأنّ عندهم رحمة كما في
مثل لعازار والغني (لوقا ١٦/ 19-34). وأنّ التلاميذ فيما حدث مع المرأة الكنعانية لم
يشفقوا عليها، بل أبدوا انزعاجا كبيراً من صياحها وطلبوا من يسوع ان يصرفها. أمّا أن
نقف عند حدّ أنّ يسوع استغنم الفرصة ليمتحن ايمان المرأة الكنعانية وهو القادر أن يسبر
ما في داخلها من دون امتحان من جهة، (لنقل أنّه كان يريد أن يري إيمانها للرسل)، أو
ليبرهن لتلاميذه ان الوثنيّين ينالون الخلاص بفضل إيمانهم الذي في غالبية الأحيان فاق
إيمان اليهود بدرجات كبيرة ... وهو الذي، من جهة أخرى، لم يكن بحاجة لرمي المرأة المسكينة
بما يشبه الشتيمة "لا يجوز ان يؤخذ خبز البنين ويرمى للكلاب" ليبرهن لتلاميذه
أنّ إيمان المرء شرط لخلاصه كائن من كان هذا المرء، فمسألة فيها مراجعة. الأمر، نعم،
قد يكون أكبر وأبعد من هذا الحدّ.
وعليه، وبمحبّة وبكثير من تواضع المؤمن، كما في كلّ مرّة، فإن عندي ما
أقوله في هذا الموضوع ...
أوّلاً، متّفقان نحن على أنّ ما من أمر، ما من حادثة، ما من قول في الأناجيل
عن يسوع وأعماله إلاّ ومن ورائه درس معرفيّ به، وعبرة إيمانيّة بخلاصه. كلّ ما جرى
مع الربّ أراد منه أن يفهمنا أمراً عن خلاصنا وعن الملكوت الذي ننتظره. ولا تشذّ حادثة
المرأة الكنعانيّة عن الأمر. فما الدرس الإيمانيّ هنا؟ يقيني أن يسوع أراد أن يعطينا
بهذه الحادثة درساً بليغاً في "الرجاء"، كما سأحاول أن أبيّنه فيما يلي.
وأشير الى حادثة أخرى، توضح هذا الدرس، بل تكرّسه وتوضحه، عنيت بها حادثة شفاء أو قيامة
إبنة يائيرس (مرقص 5\22 – 43).
ولكن قبل، إسمح لي أوّلاً أن أحاول أنّ أحدّد الفرق ما بين الأمل والرجاء
من ناحية، وأضيء على العلاقة التي تربطهما من ناحية أخرى:
الأمل بشريّ أيّ من صنع الإنسان وقدراته. فإذا ما واجهتني مشكلة في عملي
أو عائلتي أو مجتمعي، فسأحاول إيجاد حلٍّ لها مستنداً على قدراتي، معرفتي، خبرتي، علومي
... الخ. إنّي إذاً أمام كلّ مشكلة آمل أن أجد لها حلاً، بقدرتي الذاتيّة. أمّا الرجاء
فلا شأن لي به مطلقاً. إنّه استسلام للربّ، ولقدرته على حلّ كلّ المشاكل متى أراد وبالشكل
الذي يريده، وفي الوقت الذي يراه مناسباً. ولا ننسى أنّ عمق إيماننا يقاس بهذا الرجاء
ولا يقاس أبداً بالأمل. إيماننا لا يقاس بمدى اقتناعنا بوجود الربّ، الخالق، القادر،
القويّ والذي لا يموت فحسب، ذلك أنّ الشيطان أيضاً يؤمن بكلّ هذه القناعات. فهو يؤمن
ويعرف أنّ الله موجود وهو قادر خالق قويّ ولا يموت. ولكنّه لم يضع رجاءه بالربّ، بل
اعتمد على الأمل، أيّ على قدرته الذاتيّة. هذا في عرفي الفرق، كلّ الفرق، ما بين الأمل
والرجاء. وافترض معي الآن أنّني أمام مشكلة وقد عجزت عن حلّها. وأنّ الأيام كانت تمرّ،
يوماً بعد يوم، وأنا عاجز حتى أن أجد ثغرة في مشكلتي لحلٍّ ما. إذ ذاك سيضعف أملي،
وسيتلاشى يوماً بعد يوم. وبعد وقتٍ طويل سأقف أمام مفترق طرق: إمّا أن أغرق في اليأس،
أو أن يتملكّني الغضب إذا لم أكن مؤمناً، وإمّا أن أدرك تواضع قدراتي وأضع رجائي في
الله. ولا ننسى أنّ الثبات في التواضع هو مفتاح البلوغ الى الرجاء الحقيقي. وعليه،
فإنّ العلاقة التي تربط الأمل بالرجاء عند المؤمن هي علاقة تناسب عكسي، (inversement
proportionnelle). فكلّما صغر الأمل كبر الرجاء، والعكس صحيح. ولكن هذا لا يعني أنّ نسلّم
الى الله لأيجاد الحلول من دون جهد منّا. فالأمر سيوصلنا حتماً الى كسلِ روحي، لا يقبله
الروح القدس المساعد. ولا يعني أيضاً أن نؤلّه قدراتنا البشريّة بنوع من الشعور المتكبّر
حيث لا يمكن للرجاء أن ينمو أو حتى أن ينوجد بحسب العلاقة مع الأمل التي حاولت شرحها
الآن. فالله سيتدخّل عندما نعجز نحن، إمّا عن طريق الروح القدس وإلهاماته، أو حتى عن
طريق تدخّله الشخصي، كما في الأعجوبة مثلاً. (راجع لهذا الأمر رسالة بولس الثانية الى
قورنتس (قور 5\1 – 8)
إنّ كلّ ما قلته الآن موجود وبوضوح في حادثة المرأة الكنعنانيّة، كما
هو موجود وبوضوح أكبر في حادثة شفاء إبنة يائيرس، التي أدعوك لقراءتها واستيضاح الأمر
من جديد.
لنعد إذاً الى حادثة المرأة الكنعانيّة ...
كان، في البداية، لها كل الأمل، في أن يسوع سيستجيب لطلبها. هي تعلم أنّه
قادر. لا بدّ أنّها سمعت عنه وعن أفعاله. فصرخت: "يا ابن داود ارحمني". بالنسبة
للرسل، لا بدّ لهم، وفي سرّهم، من طرح العديد من الأسئلة: ما هي درجة إيمان هذه المرأة؟
من هو يسوع في نظرها؟ أمجرّد شافي أو صانع أعاجيب؟ تناديه بابن داود ولكن ما تعني لها
هذه العبارة وهي الأجنبيّة عن شعب إسرائيل؟ فكان على الربّ أن يربّي (فيها) وفيهم الرجاء
بحيث يعرفوا الى أيّة درجة من الإيمان والتواضع يمكن هذه المرأة أن تبلغ. فلم يجبها
في البداية. المسألة إذاً ليست بالسهولة التي فكّرت بها. أملها الذي كان في القمّة،
انخفضت نسبته قليلاً. ولكنّها صمّمت فما تبقى من الأمل ليس قليلاً. فصرخت من جديد:
"يا ابن داود ارحمني". فأبدى الرسل انزعاجا كبيراً من صياحها وطلبوا من يسوع
إمّا أن يجيبها الى طلبها أو يصرفها. وبقي يسوع على صمته. فها رفاق يسوع يعلمونها بطريقتهم
الفظّة بعض الشيء أن من الحسن لو تنصرف. وانخفض أملها أكثر فأكثر. ولكنّها أصرّت:
"يا ابن داود ارحمني". فما كان منه إلاّ أن قال لها: "ما جئت إلاّ للخراف
الضالّة من بني إسرائيل". وهذا يعني، لا تتأملّي بعد يا امرأة. ما جاء يسوع لكِ
ولأمثالِكِ من الأمميّين. سيعمل هناك، في بني إسرائيل وليس فيكم. كان يمكن للمرأة أن
تقف هنا وتعود أدراجها. ولكنّها اعتمدت مرّة بعد على ما تبقّى عندها من أمل وهو قليل،
وصرخت للمرّة الأخيرة: "يا ابن داود ارحمني". فكان الردّ الأقسى، المميت:
"لا يجوز لخبز البنين أن يرمى للكلاب".
فهل بعد من أمل عند هذه المرأة؟ قطعاً لا... ولكن ... عندما يفقد الأمل
سينمو الرجاء، بحسب العلاقة ما بينهما. وبرجاء ردّت: "حتى الكلاب يمكن لها أن
تقتات من خبز البنين". هل من رجاء أكبر؟ هذه المرّة صرخ يسوع: "لم أرى في
كلّ إسرائيل إيمان أعظم من إيمان هذه المرأة". أيّ إيمان يتحدّث عنه الربّ؟ الإيمان
المبني على الرجاء لا على أيّ شيء آخر، لا القدرة ولا القوّة ولا الجبروت. لقد أقام
يسوع في وجه الكنعانيّة أربعة حواجز متتالية ليرفع أملها الى مستوى الرجاء الفائق الطبيعة.
وفي الوقت نفسه استفاد الرسل من الدرس، ومن بعدهم، ومن خلالهم، نحن.
مرّة بعد إنّ شفاء إبنة يائيرس مثال آخر على الإيمان برجاء. فمن المفيد
قراءتها بهذا المنحى.
سلامي لك يا سائراً على الدرب، درب الربّ المتّجه حكماً الى النور.
طارق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق