15\8\2010
1
-
ما أحزنني قطّ
أنّك تعلم بوضوح أنّه لن يعطى لك أن تخرج " جبران المجنون" الى المبصرين في
"عتمة اليوم"[1].
وعكس ذلك، لكان أحرقني بنحيب غصص اللوعة. ذلك أنّ ما تعلمه بوضوح الرؤيوي، يا ناسك
المتحف، أدركته، أنا، من جعبتي بخسارة من غاص رغماً عنه في لظى حضارة الإستهلاك
ونفاياتها المعولمة. وأسباب عدم هذا الإخراج – إخراج "جبران المجنون" - كثيرة كما قلت، لكنّي أستميحك العذر أن أنتقي
واحداً منها فأنفث فيه غضباً مكبوتاً، وأكسر عنق صبابتي التي قد تروي وإن لم تكن
غيلاً.
السبب الذي
انتقيته ... هو أنّنا لم نعد في زمن العمالقة.
لقد رحلت ال
"بيضاء بياض الثلج"[2]
وما بقي سوى الأقزام. أنظر الى الفنّ المتلفز، فبين الخبر والخبر رقصة أجساد نحيلة
تحار كيف تلتقط رأسها لخفّة وزنه، تقوم على إيقاع بطنِ أملس، لا سَبَد له ولا لَبَد،
إبتلع من المال الأخضر حتى التخمة، فغرغر وعرعر واشتدّ وانتصب، وساد وماد وهاج
وماج، ثمّ اهتزّ ووقف يتلقّى الشكر بتصفيق حادّ من مراهق جمُدت فروة رأسه، وما
تحتها، بصمغ "السبايكي". لا ... لم نعد في زمن العمالقة. وما الزمن
زمنك، ومسرحيّتك قد لا تراها على خشبة. وفي زمن اللاعمالقة يصبح رقصك الإيحائي
- ذلك الذي رسمته على إيقاع نبضات قلبِك
حيث عبيط الدم يخرج الجهد من جبهتِك قطرات هي نجوم المبدع – حجّة عليك، وجبرانك
المجنون أكثر جنوناً. ولكن ...
أنا أعلم، وأنت
تعلم، أنّ نبح الكلاب لا يضرّ بالسحاب، وأنّ البئر أبقى من الرشاء ... ولهذا رغبتُ
وقلمي أن نصل الى وجه المصطفى من بوّابة "جبران المجنون" حيث الغرق الى
قاع الذات شرط وصول. قلت رغبت ولن أحيد
عنها كلمة. ليس لتواضع منّي بل لأنّه إذا كانت الذات الإنسانيّة واحدة، فذات جبران
وذاتك وذاتي واحدة. ولا يكمن الفرق إلاّ بشفافيّة المعرفة، وهي بلّورية عندكما، أمّا
عندي فما زالت مادّتها كثيفة بعض الشيء، وهي ما زالت قابعة على بلاطة غير قادرة
على التحليق، وإن كانت تملك نعمة النظر الى فوق حيث المحلّقين.
هل نبدأ؟ ...
...
سنبدأ ...
2
–
أنا أقول ما تقوله
أنت من أنّ الحياة "لاتترقّى بضلع واحد"[3]،
وأنّ التخلّف كما الترقّي عام. وربّما أزايد مردّداً بأنّ سرعة القافلة لا تقاس
إلاّ بسرعة أبطأ بعير فيها. ولهذا أدرك كم هي شاسعة المسافة التي تفصلني - أنا على
الأقلّ- عن جبران. فأغبطه على تفلّته "منّا" وإن جهد أن لا يقطع الحبل
الذي كان يربطه بالقطيع ... الدليل وصيّته. جبران المجنون إذاً هو حقّاً مختلف،
وقد يبدأ هذا الإختلاف من تفلّته هذا بالتحديد. قلت يبدأ لأنّ هذا الإختلاف
سيتعاظم في "جوّانيّته"، كما توضح، بفعل "انعكاس قوى الطبيعة الديناميّة
من لا وعيه على وعيه"، حتى مع هذا الإنعكاس يروح يتحوّل .[4]
وإذ أتبعك فأتعرّف
على طبيعة تمرحل جبران أردّد من ورائك، وإنّ باختصار شديد، "أنّه ومن عمليّة
استبطانه الدائمة، يكتشف حياة ومبادئ الطبيعة - قوّتها وحركتها الديناميّة –
فيستقرئ قدرتها السامية، ويتعرّف على ذاته، ويحرّر وعيه فتنبثق حكمته"[5]
... هل تسمح لي أن أختصر مستعيناً بِك بعد فأكرّر إنّه من " التوق
المتواصل" للحكمة يغتنى حكمةً؟
ولكنّي أسأل: هل
المسألة هي فقط مسألة انعكاس قوى الطبيعة من اللاوعي الى الوعي؟ أعني هل هي فقط
هكذا؟ لماذا إذاً لا يصيب هذا "التوق المتواصل" كلّ الناس؟ وسأعيد
السؤال بعد، وإن برزت أنانيّتي من تحت قشرة البصل. لماذا جبران خليل جبران وليس
أنا؟ لماذا شربل مخلوف وليس أنا؟ لماذا ... ليس أنا؟ ...... هل المسألة هي مسألة
إرادة لا أملكها؟ ... هل تسمح لي بأن أجيبَك بجواب المؤمن؟! وقد يكون الجواب
الأفضل، والأشدّ إقناعاً ، وسأترك لقلمي أن يرميه على هذه الورقة بسرعة...
المسألة عندي هي
مسألة نعمة تؤتى من فوق.
قد لا توافقني ...
أعلم ... عل أيّ حال، يمكنك أن تفسّر هذا الفوق كما تشاء، ولكنّها نعمة. وإذ هي
كذلك، ما يكون فضل المنعم عليه؟ لا فضل له ربّما، سوى بتلقّفه هذه النعمة أو سوى
بحملِه الصليب في الشهادة لناس عصره بما أُنعِم عليه. هو شاهد لعصره إذاً، شاهد
لنعمته، معلّمُ، مؤثّرُ، مثالُ ... ولكنّه مختار، وقعت في قلبه نعمة. من هذه
الزاوية أنا أرى جبران حيّاً ... مجنوناً. لقد أظهر نعمته نوراً يضيئ في زمن اللهث
وراء كلّ شيء إلاّ النور. هو غيره العالم، تماماً كما الكثير من فلاسفة الألمان
النهضويّين مثلاً، أو "البير كامو" في إنسانه هذا المجهول، والذي ما وجد
له حلاً ليواجه به قدره، بل ويتحدّاه، سوى التضامن مع أخيه الإنسان ومحبّته،
وغيرهم. بل تماماً كما القدّيسين في أعين المنغمسين في خيرات هذه الدنيا، فشربل
مخلوف مجنون لمن حكمة الصليب عنده جهالة، كذلك القدّيس فرنسيس الأسيزي الذي ما
همّه عراءه الذي أحرج به الناظرين إليه، فكان مجنوناً آخراً. بل المسيح نفسه، عند البعض، مجنون حمل في قلبه
بارانويا خلاص العالم فعُلِّق على خشبة ... جبران المجنون وهو واحد من هؤلاء
المجانين في أعين الجاهلين "كان أقرب الى ذاته الحقّة" الجوّانيّة، الى
"الحوريّة"[6]
التي غاص فيها ليصبحا معاً جسداً واحداً وروحاً واحدة، الى الحقيقة، الى كلّ
الحقيقة ... فاقتضى منك خلق واحد وعشرين شخصاً من المدينة المباركة وقفوا على خشبة المسرح ليجسّدوا هذا القرب
الجبراني من ذاته ... هذه النعمة ... بل اقتضى منك أن تتدخّل في الإخراج. فما نسيت
النور وتلاعبه، ولا الأصوات إنّ أنّت أو هتفت، ولا الموسيقى التي أظهرت هيبتها جلالاً
كما مع فاغنر، أو صخباً على الطريقة السترافنسكيّة، أو قدرة تمثّل حركة مع بيتهوفن
...
الى هذا الحدّ جعلتني
أفتخر بجنون جبران يا رجل.
-3-
أستميحك الآن
العذر لأدخل الى المسرح، فمسرحيّتُك بدأت.
... وأخذتني رهبة
المشهد الأوّل. كنت أحدّق بالخشبة وأنا أسير لأجلس في أيّ مكان ... وأظنّني جلست
على ... الأرض. ما أرهبتني الأعين المقلوعة أو الأيدي المقطوعة، ولا بقع الدم
تحتها وفوقها. ولا صخب الموسيقى المرافقة أو بحّة الناي الحزينة. ولكنّ الفجأة
سكنت نفسي وأنا أقرأ ما جاء في الكتاب، "إذا كانت عينُك اليُمنى تشكّكك
... وإذا شكّكتك يدك اليمنى ... "[7].
هذه الكتابات
بالحرف الأسود العريض وردت في الأناجيل الإزائيّة كلّها على لسان قائلها يسوع
المسيح[8]. ولكنّي
تذكّرت أيضاً ما قاله بولس في إحدى رسائله[9] من
أنّ الروح تحيّي أما الحرف فيقتل. وأنّنا تحرّرنا مع يسوع من الشريعة ... حتى
نعبُد الله بالروح لا بالحرف. وهذا يعني أنّ التقيُّد بالحرف مميت وأنّه يجب أن
نفهم بالروح تعاليم الربّ وبالروح نطبّقها. فما بال هذا الجيل من أجيال المدينة
المباركة يحمل ما قطعه من جسده ليلقي به في الحفرة؟ هل هو عابد حرف؟
وعدت وأقنعت نفسي
بأنّ جبران – عفواً عبد الله – متى أتى المدينة قاصداً الكنيسة سيثور عمّا سيراه.
لقد اختلف مع رجال الكنيسة، هذا صحيح، لكنّه لم يختلف مع يسوع.
أقنعتُ نفسي وتيقّنت
ممّا فكّرت به عندما رأيت حيرته الموجعة في المشهد الثاني، وما فعله بالكتابات
والحفرتين في المشهد الثالث. وأظنّ نفسي ارتاحت مع رقاد عبدالله ورؤياه للموت، أو
أنّها اعتبرت أنّ صحوة عبدالله ستكون من دون حيرة وارتباك. وأنّه متى صحا سيخرج من
الخشبة مبتسماً بهزء، هزء ممّا رأى وهزء من نفسه. ولكن هذه حال من لن يصبح مجنوناً
قطّ. وأنت أردته أن يصبح كذلك. أنا أيضاً. وهو نفسه.
سيستيقظ إذاً أشدّ
حيرة:
من صور الموت
والأمومة المتناقضة، من واقع أبناء المدينة المذري في ما يخصّ المعرفة واليقين،
والمقرف (دعني أستعمل هذه الكلمة) في ما يخصّ الشكوك التي تجعلهم لا يشعرون بوجود
الأمومة والتي تؤدّي الى الموت، موتهم. والحيرة الأكبر من ذاته وقدرتها على فعل
شيء ما[10].
الأهمّ أنّ السؤال انطرح (سوأل جبران لذاته): "هل يستطيع فعل شيء ما"؟!
وعندي أنّ السؤال هو من المسرحيّة لبّها، لا بلّ هو سبب وجودها. فلو رفض عبد الله
فقط، الإلتصاق بالأرض، وأن يكون رسمةً من رسوم الأرض بقايا البشر، وأن يهوي من
الحياة، وأن يختنق بغصص اليأس والخوف واللوعة، لو فعل كلّ ذلك فقط من دون أن يطرح
السؤال على ذاته إن كانت قادرة على فعل شيء أو لا لما أبدعت مسرحاً، ولا أظنّك كنت
قد كتبتها.
"هل أستطيع
فعل شيء"؟! كم تساءلها كبار قبل! ...
شهداء صيدا يوم
حاصرها الإسكندر فأحرقوا أنفسهم والمدينة.
علاّقة أمير صور
يوم أراد الإستقلال لمدينته... فسُلِخ
حيّاً. سليمان الحكيم في كلّ كبيرة وصغيرة ما توقّف عن ذكرها. هيرودس يوم التقى
المجوس... فقتل أطفال بيت لحم. يوسف البتول يوم تمسّك ببرارته... فأتى بإمرأته الى
بيته. الأمير فخر الدين يوم أراد بناء وطن ... فنُفي. يوسف مخلوف يوم رام خلاص
نفسه والعالم ... فتنسّك. الأم تريزا يوم عشقت يسوع... فالتقته في كلّ معوز. حتى
الثالوث الإلهي سألها يوم عظمت خطايا البشر... فتجسّد الإله.
ولكن ...
عندما سأل عبد
الله السؤال بدأ يتلمّس جسده وثيابه وكأنّ كائناً يهمّ بالإنبثاق من صدره[11].
لا أدري لما توقّعت أن تسبق هذه الحركة فترة صمت غير قصيرة، يكون فيها عبدالله
جامِداً، جاحظ العينين كمن يفكّر، وجامعاً قبضتيه كمن يهمّ على حركة تصرّف ما. لا
بدّ أنّه قبل أن شعر بانبثاق ذاك الكائن من ذاته، غاص في الفكر والتأمّل. ... فكر
وتأمّل إذاً فترة صمت.
-4-
قبل ذلك، أيقظت
الأمومة المندسّة في ظلمة المسرح عبدالله من سباته، بلمسة من يدها الحنون لجبهته.
فأشرق نور قويّ بدا وكأنّه يدخل ذات النائم. الأمومة، كأنّها أدخلت في ذات عبدالله
وعياً علويّاً وإن على طريقة النتح[12].
هل أكرّر بأنّ المسألة هي مسألة نعمة منذ البدء؟ ...
وعيّ بالتأكيد ...
سمح له أن يذدري الأرضيّ الثقيل محدّقاً بالشمس الواعدة في تلك السماء الزرقاء،
وأن يسمح لقوى الطبيعة أن تتفاعل في ذاته وقت رام النور المطبوع دائرةً في وسط
المسرح[13]. قوى
الطبيعة ... ذلك العملاق! طبيعة نعم ... ترفض هذا العبد وكلّ عبد.
و ... (الواو الأولى)
" اللي
بتملكو بيملكك وهو الّلي بيخوّفك ... ول ما بيحرم نفسو من ل بيملكو بيضلّ عبدو ...
والعبد بيحبس الناس باليملكو ويملكُن ... وهن بيملكوه ... لما بيحرّر ذاتو من أهلو
والناس والورتو بيضلّ أضعف منُن ...هنّ بيموتو. وهو بيضلّ عبدُن وعبد عتايقُن
..."[14].
و ... (الواو
الثانية)
" إجمعوا لكم
كنوزاً في السماء حيث لا يُفسِد السوس والصدأ أيّ شيء ... لا يقدر أحد أن يخدم
سيّدين فأنتم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال ... لا يهمّكم لحياتِكم ما تأكلون
وما تشربون، ولا للجسد ما تلبسون[15]
... من أحبّ أباه أو أمّه ... إبنه أو ابنته أكثر ممّا يحبّني، فلا يستحقّني... من حفظ حياته يخسرها[16]
... تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم[17]".
ال"واوان"
تذدريان الأرضيّ الثقيل، خلاصتهما بضع كلمات: تحرّر من كلّ شيء. لكن شتّان ما بين الأولى والثانية. مع الأولى
تخرج من ذاتَك فتصبح مجنوناً ( طلاع من عبدالله وصير مجنون ... عيش لو، صير متل ما
هو بدّو وبتلاقي حبيبتَك الحوريّه ... لم بتبلّش تجنّ بتبلّش تشوف الحوريّه ...
وتعرفا"[18].
أمّا مع الثانية
فإذ تخرج من ذاتِك تشهر قداستَك. فأنت نور مدينة لا تخفى على جبل. تحيا له, لله,
لنبع المحبّة، ويأتي وابنه (من على الصليب) ليتناولا معك العشاء. عندما تبدأ
قداستَك تراه ... وتعرفه.
صاحبنا اختار
الواو الأولى، اختار الجنون ... اختار الحوريّة الأقوى من الموت ... فهي "لا
تموت ولا تخلّف موت" ... وسيخرج من ذاته ويسافر معها[19].
بل سيخرج من كلّ أرضيّ ثقيل بإغلاقه باب منزله بقوّة، وسيخلع عنه ما كوّمته عليه
الدنيا، ذاته الأولى والثانية والثالثة.
وسيقف عرياناً ليلتحف نور الشمس وسط فرح وتعجّب وتقليد أولاده له. يرفع
يديه ورأسه للإنعتاق من الأدنى الجاذب، الى الأعلى الخفيف[20].
عبدالله أصبح مجنوناً. هو أراد ذلك، الحوريّه، العملاق، النعمة من فوق.
-5-
صورة المجتمع كما
جسّدتها على خشبة المسرح جعلتني أهزّ الرأس بحسرةِ، موافِقاً بالطبع. هذا هو
مجتمعنا بالضبط. منّا من هو مقيّد بشخص متعبُ بذهبه، ومنّا بفكرة، يحملها آخر
برأسُ متعجرف[21].
الشخصان حاقدان على بعضهما البعض مع أنّ هدفهما واحد: إستعباد الخليقة. والخليقة
لا تفعل إلاّ الدوران ... حولهما. وهكذا يمضي العمر تحدٍّ ثمّ استرخاء بعد تعب،
فغطيط في نومِ عميق[22].
ثمّ ... يحدّثونَك عن الرأي العام. فإن تجرّأت على الضحك أو حتى على رسم ابتسامة
يتّهمونَك بالجنون. هؤلاء المجانين يقولون أنّك مجنون! ... مجانين ...
وقدِم عبدالله
وأولاده، شبه عراة، محاوِلاً إيقاظ المدينة. وهو يستطيع المحاولة على أيّ حال،
والمدينة لن ترفضه، عذره أنّه مجنون.
"يا ناس، يا ناس، رجّال مجنون جايي عا المدينة"[23]
... وسيقبل عبد الله العذر مقتنعاً ... "سقط آخر قناع. تعرّيت. صرت حالي[24]".
وسيبدأ برقصة اليقظة. رقصة رائعة كما تخيّلتها في قراءتي لما دوّنته من ملامح لها[25].
ولكن ... لم تفلح. فعبدالله أدرك أنّه عاجزُ "عن إيقاظ الراقدين ومواجهة
الظلمة"[26]. وإذ
تعب من الرقص استراح على حجر.
يقيني أنّه لن
يستطيع مطلقاً إيقاظ الناس وإنارة الظلمة. ولن أكتمَك سرّاً بأنّي رحت أُزايد في
التحدّي أنّه لن يستطيع. عذري السبعة آلاف سنة الأخيرة. فتاريخها مدوّن، وكثرُ
كانوا الراقصين على أنغام غطيط الراقدين الذين ما زالوا راقدين. ولم يكن شبح الموت
إلاّ ملازماً لهم، مهدّداً برفرفة من جناحيه. ما همّ إن تألّم عبدالله ومسك رأسه
بيديه بقوّة. فكم من عبدالله تألّم على مرّ السبعة آلاف سنة؟! لا لن يستطيع ...
أتحدّى ...
وانبثقت الحوريّة
من عبدالله[27] ...
ومعه، راحت ترقص
وترقص ... وراح يرقص معها ويرقص ... فأيقظا المدينة بعد جهد ليبتلعها النور. أعلم
أنّي متسرّعُ بعض الشيء. هل كان لي أن أتحدّى؟! ... لماذا فعلت؟ ... ما عزّى غروري
هو هذا "البعد جهد[28]".
فالإيقاظ لم يتمّ بسرعة النور.
أغلقت الكتاب
قليلاً ورحت أفكّر بهذه الحوريّة. يا لقدرتِها على الإيقاظ! أتدري بماذا تمثّلتها؟...لقد
تمثّلتها "عطر الليل" كما في مسرحيّة فخر الدين للرحابنة، بل كما في كلّ
مسرحيّات الرحابنة. المدينة استيقظت، الناس جميعاً. اندهشوا وتساءلوا ... ورقصوا
ورقصوا ... وفرحوا حتى شكّلوا كأساً لا أخاله غير مقدّس، تحت صورة وجه المصطفى.
لقد انتهت
المسرحيّة[29] ... لقد
انتهيت من المسرحيّة ... أعادني نور الشمس إلى واقعي حيثّ ترّهات جمّة عليّ
معالجتها.
[28] - " بعد بضع دورات يقوم بها المجنون
والحوريّة يبدي المقيّدون بعض ليونة". المشهد الخامس من الفصل الثاني. صفحة
75.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق