السبت، 8 فبراير 2014

يا مار مارون

نشرت في جريدة الجمهوريّة بمناسبة عيد مار مارون في 8\2\2014.


يــــــــــــــــا مار مارون!


أناديك من عرين جماعتك، من أوديّة نسّاكك، من قلب لبنان.  أتوجّه إليك من منبت رجالك، بيدِ تخفي نصف وجهي خجلاً أو... مهابةً أو ... كهاربِ من فعلةٍ شنعاء.  وأحدّق بك بالنصف الآخر علّني أرى سمات وجهك فأدرك أحاسيسك، مرارتك أو رِضاك، وأنت تنظر إلينا. وإذ أتمثّلك واقف في العراء، تحدّق بغصنَي الصليب أمامك، لا أرى سوى عصاك، وقد نَعُمت فيها العِقَدُ من عرق يديك وهي تقبض بقوّة عليها، فأتيقّن، مرّة بعد، من مدى صلابتك وعمق ثباتك. ها إنّي أقف أمامك مصغياً أودّ لو تتكلّم ، لا فرق إن باركت أبناءك الذين صمدوا أمام المحَن وناضلوا للخير يوماً، أوغضبت من أبناء أبنائك الذين نسوا الرسالة واستجابوا لأنانيّتهم أيّاماً. مصغياً أنا، لأنّي في حضرتِك أطمح أن لا أكون إلاّ أذُن صاغية. ولكنّي أعلم أنّك قليل الكلام، كثير الصلاة. فاسمع إذن شكواي.
لا بدّ أنّك تودّ تذكيري بالسنين الغابرات، وهي سنوات اضطهاد طويلة رسّخت شعبك، صلواته والرجاء، عناده والصمود، صبره والرؤية. ورسّخت في أذهاننا صورة لرهبانك والجماعة عائدون من محاكاة الأرض بترنيمات المدائح والتسبيح والشكر، يعاهدونك بها إكمال المسيرة. يومها كان الثلج، كما قلوبهم، أكثر بياضاً، وخضرة جنائنهم المدرّجة، كما أياديهم، تنضح بركات. ارتوت الأرض، ونحن قابعون عليها اليوم، من دماء أياديهم وأقدامهم وشهدائهم، فتقدّست بهم أعمالاً وفكراً وشهادة حقّ، وعبقت بروائح بخورهم أودية قدّيسين، ومغاور حبساء، وشهداء حقيقة. ويومها التصقوا بكنيستهم، لا يفارقونها ولا تفارقهم، فارتضوا لها ما ارتضوه لأنفسهم، وكبروا بها وكبُرت بهم، وحدّقوا معاً إلى البعيد بأعين لا ترتجف.
أمّا اليوم ... يـــــا مار مارون!
يبدو أنّ أنفسنا قد هانت علينا لنعرف أنّ اللون ألأبيض الطاهر الثابت  القديم عند جماعتك  أصبح قديماً بالفعل، رجعيّاً في هذا الزمن البائس، وأنّه استبدل بألوان قوس القزح علامة تقدّم مزيّف؟ ومتى كان التلوّن تقدّماً؟ وما معنى "فليكن كلامكم نعم نعم أولا لا، وما زاد عن ذلك فهو من الشرّير"؟.
اليوم، أبناؤك متفرّقون، متباعدون ولا من يقرّب بينهم. متروكون  لحقدهم وغيّهم وشرّهم وأنانيّتهم الوقحة. مبادؤنا الأخلاقيّة تحوّلت إلى فقط أمنيات. فبإسم الحرّية غضضنا الطرف عن شهوة العين، وبإسم العلم  سمحنا لشهوة المال أن تمتلكنا، وبإسم حبّ الوطن تمسّكنا بشهوة السلطة. والحريّة والعلم وحبّ الوطن براءٌ من أحابيلنا والترّهات ومن خبثنا والنفاق، وهي ما كانت يوماً عائقاً متى كنّا روّاد النهضة في هذا المشرق الحبيب. مؤسّساتنا التربويّة والصحيّة بارعة في إدارتها الماليّة، "تشنّف" آذاننا بخساراتها كلّ سنة خدمةً للأبناء، و"تبهر" عيوننا بإقامة بناء تضيفه على أبنيتها كلّ سنة، وخدمةً أيضاً للأبناء. برامج شاشاتنا مبتذلة لأنّ العملة الخضراء باتت أهمّ من الترقّي. كتّابنا استسهلوا الآهات وأدخلوها بين دفّتيّ كتاب وأسموها أدباً حديثاً. انكببنا على الخدمات مؤكّدين حضارة الإستهلاك، وأهملنا الزراعة والصناعة وتطبيق العلوم. ورحنا نبكي كيف أنّنا نفقد الوطن الذي أولدناه من رحم معاناة قرون.   
أمّا قادتنا والمسؤولون فقابعون على بلاطة عروشهم الثقيلة ولا من يحاسب. مشطورون هم إلى نصفين، يفصل بينهما مستنقع الكراهية.  نصفان نحن جماعتك يا رجل الله. وكلّ نصفٍ يحسب نفسه الكلّ. متهافتون على كرسيٍّ باتت بسبب التهافت عليها كرسيّ من قشّ. يقاتلون حتى الله من أجل مصالحهم الفرديّة ولو اخترب البلد. الأسوء أنّهم يعملون، سواء أأدركوا ذلك أم لا، على تأسيس واقع جديد في جماعتك أساسه الحقد والكراهيّة. نصفان نحن، لا نتهادن ولا نتسالم، لا نتحاور ولا نتفاهم، بل نكره بعضنا البعض وندّعي أنّنا أتباع ملك السلام والحبّ. وهل بعد ذلك السوء سوء؟ ... بلى، واحدة فقط: الكلّ يتلقّى التصفيق الحاد من جماعته حتى يحمرّ الكفّان، وذلك على قاعدة إنّ كنّا لا نستطيع أن نحاسب فنحن نستطيع أن نصفّق.
يـــــــا مار مارون! ...
أعلم أنّك قد استمعت إليّ. وأعلم أنّك، بعد كلّ ما سمعته، ستدعوني إلى الصلاة. ولكنّي في ذكرى عيدك أريدك أن تعلم أنّي أدعوك لأن تضرب الأرض التي تقف عليه بعصاك، عصا الرعاية. فنحن بحاجة إلى صدمة زلزال تعيدنا إلى الرشد.
د. طارق الشدياق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق