طاولة مستديرة مسيحيّة؟
قراءة باردة للأزمة في لبنان، من وجهة نظر مسيحيّة.
"لبنان دائماً في خطر" عبارة ما ابتدعها "ميشال
شيحا" عبثاً، ولا أراد بها زرع اليأس في قلوب أبناء هذا الوطن المتنوّعين في
أديانهم وثقافتهم، وتبصّرهم للأمور الراهنة ورؤيتهم للمستقبل حيث تكثر وجهات
النظر. هي حقيقة أراد مطلقها أن ينبّهنا الى أنّ قدرنا يكمن في مواجهة الأخطار
المحدقة دوماً بنا. ولعلّه قصد أنّ من واجبنا البقاء متيقّظين ساهرين لدرء الأخطار
من أيّة جهة أتت. والحال، قد لا يكون غريباً ما نشهده اليوم من أزمة كبرى تطال
كيان هذا البلد الذي أجمعنا على حبّه. فما نعيشه اليوم سبق أن عاشه آباءنا
وأجدادنا من قبل. وإنّ صفحات التاريخ تزخر بالأزمات والحروب والتعدّيات المختلفة و
... الإشاعات. أمّا الغريب في الأمر هو أنّنا، ومنذ مئات السنين، ما زلنا – نحن
وآباؤنا والأجداد – غرقى في مستنقع الأزمات، وما استطعنا حماية لبناننا الذي أراده
الله رسالة الى كلّ العالم. وكلّ ما فعلناه هو أنّنا صدّقنا – ببراءة طفوليّة -
أنّنا بلد الإشعاع والنور.
-1-
إنّ أقسى ما يمكن أن يقوم به عقل أحدنا في ظلّ هذه الظروف
المأساويّة التي نعيش هو قراءة باردة للوقائع المتبدّلة دوماً وفي كلّ يوم يمرّ.
"أقسى" لأنّنا لسنا بعيدين عن الأحداث بل في صلبها نتخبّط، وقد نكون
وقود نيرانها المستعرة. ثمّ كيف يمكن ترويض أحاسيسنا ومشاعرنا المختلفة وغرائزنا
وفي البلد ألف من يثير فينا جمرات الإصطفاف المتعدّد: إصطفاف طائفي، مذهبي، عقائدي
... ؟ قد تبدو كلمة "أقسى" تشاؤميّة إذا ما عدنا بالذاكرة الى الماضي
القريب، ماضي الصراعات الدامية والنزاعات العبثيّة، أو إحباطيّة إذا ما رغبنا (
وهذا أقلّ الإيمان) في استشراف المستقبل. ولكنّها الكلمة الألطف لوصف واقع الحال. هي
كذلك لأنّه إذا أضفنا إلى مأساويّة الظروف التي نعيش عصبيّتنا وتعصّبنا وميلنا الى
الإنجرار وراء الشرور ضدّ بعضنا البعض، ثمّ أضفنا غرائزنا الملتهبة حقداً وقدرتنا
الفائقة على الشتم والسباب وكراهيّتنا الدفينة وسهولة العداوة والشقاق، وأضفنا كذلك
رغبتنا، غيرةَ وحسداَ، في "تكسير بعض الرؤوس"، والدسّ الرخيص لإثارة
الحساسيّات، أيّ الشائعات التي بتنا نضاهي ببدعها أكبر شركات الإنتاج في العالم
للأفلام العلميّة-الخرافية (Science-fiction).،إذا أضفنا كلّ ذلك وأكثر ممّا فاتنا ذكره لاتّضح لنا أنّ كلمة
أقسى هي ألطف الألطف. ومع هذا تبدو لنا المحاولة –القراءة الباردة- واجبة وإن كانت
مغامرة. هي في كلّ الأحوال مغامرة المؤمن بهذا الوطن، وطن رسالة يقدّمها لكلّ
العالم، لا وطن يستقبل رسائل كلّ العالم.
-2-
بدايةً، لا بدّ من تحديد نقطة إنطلاق زمنيّة وذلك لسببين
أساسيّين: أوّلاً لوضع بداية ونهاية لقراءتنا ممّا يقصّر طول الكلام الذي وإن صيغ
بعبارات ذهبيّة يبقى من فضّة. ثانياً كي لا "نشرد" في أفكارنا التي لا
بدّ ستتّصل بوقائع سنوات الوصاية، أو سنوات الحرب، أو ما قبل ذلك بما يسمّى سنوات
الجمهوريّة الأولى، وحتى لسنوات الإنتداب والمتصرّفيّة ونظام القائمّقاميّتين،
والى عهد الإمارة وزمن الحكم العثماني، بل الى آدم نفسه، الإنسان الأوّل، فنجد
أنفسنا أمامه نحاكمه على ما فعلت بنا يديه.
أمّا البداية التي حدّدناها هي نفسها ما قد يجمع عليها كلّ
الجالدين ذواتهم بقراءة باردة للأحداث الراهنة مثلنا. عنيت بها فترة التمديد لرئيس
الجمهوريّة السابق – إميل لحّود - وما تلاه. فمنذ هذا الوقت ولأربعة أشهر تلته،
أيّ في الزمن المحصور في بدايات العام 2005، حصل انفجار هائل في لبنان تمثّل
بأحداث ثلاثة كبرى: تمديد ولاية الرئيس قسراً وإغتيال عنيف لرئيس الوزراء الأسبق
وإنسحاب سوري قسري من لبنان وبشكل دراماتيكي. هذه الأمور الثلاث تلاحقت في زمن
قصير نسبيّاً حتى ليبدو الإرتباط فيما بينها قابلاً لأن يكون حقيقيّاً أو منطقيّاً
على الأقلّ. ولكن ... منذ ذلك الوقت وحتى اليوم يكون قدّ مرّ من الزمن أكثر من ستّ
سنوات. فهل ما زالت منطقيّة ذاك الإرتباط سارية حتى الآن؟
الجواب على السؤال ليس بديهيّاً، ويقتضي للإجابة عليه الإشارة
إلى أمور أخرى.
فمنذ العام 2000، عام تحرير الجنوب وربّما قبل، لم تعد سوريا
وحدها في لبنان، وإن كانت موجودة بقوّة سياسياً وعسكريّاً ومخابرتيّاً بحيث أنّها
أوجدت أو أقامت دولة لبنانيّة موالية لها مئة في المئة. فبعد هذا العام دخلت مع
سوريا وبقوّة، إيران التي، على ذمّة البعض، أنشأت "حزب الله" في النصف
الأوّل من أعوام الثمانينات. أضف الى كلّ ذلك، أنّه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول
في الولايات المتحّدة الأميركيّة وخاصّة في العام 2004، دخل الغرب بقوّة الى ربوعنا
حتى بات لبنان حقيقة، وكما في الأزمنة الغابرة، ساحة صراع مفتوحة على مصراعيها. وعليه،
قد يتّضح أنّ الأزمة اللبنانيّة الراهنة
الناتجة عن انقسامات حادّة في النظرة الى الهويّة اللبنانيّة والمتمثّلة بمحاولة إلحاقه
في ركب الآخرين وهم كثر، لا تكمن فقط بسبب الموقف من المحكمة الدوليّة. وفي
اعتقادنا، إنّ من لا يرى سوى ذلك إنّما هو مبسّط للأمور ومسطّح لها بشكل وهمي.
فالكلّ أجمع على تبنّي إنشاء المحكمة الدوليّة (هم لا يستطيعون غير ذلك بداعي
أخلاقي على الأقلّ). والكلّ أجمع على فكرة توسيع الحكومة من أجل المشاركة (هم لا
يستطيعون غير ذلك بداعي التوافق الوطني على الأقلّ). وإنّ المعادلة التي طرحت في
زمن ليس ببعيد، والتي تقضي بمقايضة المحكمة الدوليّة بالثلث المعطّل لم تعد لتقنع
أحداً. أسباب الأزمة في وادِ آخر. فمع وجود مخابرات كلّ الدول في لبنان وبالتالي
كلّ الأفكار ووجهات النظر والتدخّلات والعقائد نرى أنّ السبب يكمن في صراع على
خيارات وطنيّة كبرى في ظلّ هذا الوجود الدولي المتصارع. وأنّ المسألة تكمن في
الإجابة على سؤال أساسي وإنّ كان قد أصبح شعار تفكهة مؤخّراً: لبنان الى أين؟
-3-
يبدو أنّه من المبكر الإجابة على هذا السؤال، ليس فقط لأنّ
الصراع ما زال في أوجّه وحسب، بل لأنّ الكلّ متردّد في حسم الخيار لمصلحته. هل
لأنّه ما زال في ضمير كلّ اللاعبين إقتناع ولو بقدر حبّة خردل، أنّ أخذ لبنان الى
محور من المحاور أو الأصح إلى محور من المحورين يفقده معنى الرسالة، وبالتالي مبرر
وجوده؟ ربّما ... نتمنّى ذلك على أيّ حال. الخيار إذاً ليس محسوماً. أمّا الدليل
على ذلك فيكمن فيما جرى في الحرب الإسرائيليّة العدوانيّة الأخيرة، وما تلاه.
إنّ صراع المحاور في هذاه الحرب واضح ولا داعي للشرح أو
للإثبات. ولكنّ الخطِر في الأمر يكمن في المفاعيل السياسيّة التي برزت بعد الحرب.
فأثناء العدوان ولأكثر من شهر، ظهرت الحكومة، كلّ الحكومة بمن فيها المستقيلين في
ذلك اليوم أو بعده بقليل، في حالة من الإنسجام والتضامن والتماسك قلّ نظيرها.
وأجمع الكلّ أنّ المشاركة الوطنيّة حقيقيّة وكاملة. والبعض من المعارضة وصفها بحكومة
المقاومة. فلماذا بدأ الإنقضاض عليها بعد الحرب؟ وما معنى كلّ كلام التخوين الذي
صدر؟ وأيّهما نصدّق، التخوين والعمالة أو التضامن والمشاركة؟ لقد انطلقت المعارضة،
وتحديداً الفريق الشيعي، من هذه الحقبة للمطالبة بالثلث المعطّل. لم تعد المعارضة
تثق بالحكومة. والحكومة بدورها فقدت كلّ ثقة بالمعارضة بعد كلّ الذي فعلته. وهدّد
الفريقان بكشف أوراقهما، أوراق الخيانة وأوراق محاضر المفاوضات التي كانت تجري.
وعدنا الى بدء. فالأزمة ليست هذه أو تلك. هي في الجواب على السؤال الوحيد: لبنان
الى أين؟ هي في الصراع الدائر على حسم الخيار الوطني الكبير. في ميثاق الجمهوريّة
الأولى وردت عبارة "لاشرق ولا غرب". يقيننا أنّها ما زالت تصلح لبقاء
هذا الوطن وحمايته، مع كلّ التعديلات التي لحظها "السينودس من أجل
لبنان" من حيث العلاقة مع قضايا هذه المنطقة من العالم.
-4-
في خضمّ المخاض الدائر حالياً لحسم هذا الصراع، جرت كلّ
الإغتيالات ومحاولات الإغتيال التي تلت استشهاد رئيس الوزراء السابق. ولكن ... لا
بدّ أن نسأل لماذا طالت الإغتيالات بنسبة كبيرة المسيحيّين؟ ( أكثر شهداء تلك
الحقبة، مع الذين نجوا من الإغتيال، مسيحيّون). هذا لا يعني أنّه لو طال الإغتيال
غير المسيحيّين لكنّا في حالة أفضل. ولكنّ السؤال مطروح. وقد تكثر الأجوبة أو
محاولات الأجوبة. في اعتقادنا أنّ المسيحيّ وحده إذا ما اغتيل لا يثير غضب شارع
عربيِّ واحد. بعكس ما هو الحال لواغتيل سنّي أو شيعي. الحديث عن هذا الأمر قد يكون
أكثر إيلاماً من وضع الأصبع على الجرح. ولكنّه واقع للأسف. في مقابل ذلك ما هو وضع
المسيحيّين اليوم؟ انشقاق بدل وحدة، واختلاف بدل تضامن. هلا وعينا هذا الأمر؟ هلا
اقتنع المسيحيّون بضرورة التماسك والتضامن ضرورة وجوديّة لا بديل عنها، بل ضرورة
وطنيّة تبقي لبنان وبالتالي تفيد الشريك الآخر أيضاً؟
في النصف الثاني للقرن التاسع عشر برز عند المسيحيّين زعيم بارز
لقبه "شيخ شباب إهدن" وهو يوسف بيك كرم الشهير. وكان أمثاله ينتخبون من
عموم الأهالي وذلك بعد ثورة الفلاّحين التي قادها في كسروان في ذلك الزمن شيخ شباب
ريفون طانيوس شاهين. وسرعان ما أصبح يوسف بيك كرم بدعم من فرنسا، زعيم الموارنة
الأوّل بل زعيم المسيحيّين الأوحد. وبالطبع لم يرق الأمر لا للدولة العثمانية ولا
لبريطانيا العظمى اللتين كان يهمّهما نجاح داود باشا أوّل متصرّف على لبنان.
فشجّعوا لمناوأته جاراً، بيك من بكوات بشرّي (جارة إهدن) المنتمين الى عائلة حنّا
الضاهر. (أظنّه راجي بيك حنّا الضاهر، إن لم تخنّي الذاكرة). واستطاع راجي بيك أن
يناوئ يوسف بيك بمساعدة "الخارج". هل من الضروري أن نذكر أنّ النتيجة
كانت وبالاً على المسيحيّين في كلّ مكان؟ للّذين لا يعرفون سبب الحساسيّة المفرطة
بين البلدتين والباقية للأسف حتى اليوم نحيلهم الى ذاك الزمن تحديداً. إنّنا
لنتساءل، لماذا لا يعيد التاريخ نفسه في كل مكان على هذه الأرض كما يعيد نفسه
عندنا؟ كنّا بين "بيكين" في كلّ حقباتنا التاريخيّة المتلاحقة ولا داعي
لذكر الأسماء. وما زلنا بين "بيكين" حتى يومنا هذا. تاريخنا تاريخ
انشقاق لم يتغيّر. أمّا السبب فلا يحيد عن تسابقنا الى الزعامة. نحن لاهثون من دون
كلل الى أمجاد السلطة وبريقها. لقد فُطمنا على ذلك، وإنّنا لنندهش إذا ما وجدنا
مسيحيّاً واحداً (وليس بالضرورة زعيماً) لا يركض لاهثاً باتّجاه الصفوف الأماميّة
حتى ولو أدّى ذلك به الى تعبِ مضنِ على مختلف الأصعدة.
هذا هو واقعنا اليوم. واقع قد يريح الآخرين ولكنّه لا يريحنا.
الأكثر إيلاماً هو سهولة انتشار الإشاعات المغرضة والمفرّقة بين من يفترض بهم أن
يكونوا موحّدين. وعلى أيّ حال متى كان المتفرّقون بحاجة لإشاعات تفرّق ما بينهم؟
ولكن لوجود هذا الكمّ من الإشاعات علامة أو إشارة لا بدّ من تسليط الضوء عليها
نصيغها بصيغة سؤال: كيف يمكن لإشاعة أن تنشر بهذه السرعة في مجتمع واعِ لمصيره
ومدرك أنّه مجتمع رسالة، مدّعِ للثقافة ومؤمن "مسيحيّاً" إلى حدّ كبير؟
يقيننا أنّ مجتمعنا سطحيٌّ في كلّ ما يدّعيه. وعيُه مسطّح كما إدراكه، وثقافته
مبسّطة كما إيمانه. وإنّنا لنعتذر عن هذا القول إذا ما أصاب كلامنا البعض القليل الواعي
منّا.
قد تبدو هذه الصفحات جافّة. وهي لكذلك. عذرنا أنّنا لا نصف فصل
الربيع على أعالي سلسلة جبال المكمل. ولكنّنا نتساءل كيف تُبتدع الإشاعة؟ ومتى؟
ومن يؤلّفها؟ وكيف لها أن تنتشر بسرعة تكاد تجتاز سرعة الضوء؟ أإلى هذا الحدّ نحن
متخلّفون؟ ... هل نعتذر مرّة أخرى؟
لنذكّر بإشاعتين سرتا في زمن الإغتيالات البائس:
إثر استشهاد الصحفي سمير قصير قيل أنّ السبب يعود إلى علاقة
غراميّة مع إحداهُنّ، وأن ذويها انتقموا منه بقتله. نسى أصحاب هذه الإشاعة
ومبدعيها نضال سمير قصير من خلال مقالاته في سبيل الحرّية والديمقراطيّة في لبنان
والعالم العربي. أرادوا تشويه سمعته ليُقتل مرّتين. من قال إذا أردت أن تقتل شخصاً
فأطلق عليه إشاعة؟!!
وإثر مقتل جبران تويني سرت إشاعة أنّه كان يعاني من أزمة ماليّة
حادّة وأنّه لم يكن ليستطيع إيفاء ديونه وديون الصحيفة التي يمتلكها من والده.
فتمّت تصفيته لهذا السبب. بقيت الصحيفة من بعده ولم يعد أحد يذكره أو يذكر
الإشاعة. أهل إلى هذا الحدّ هانت علينا أنفسنا حتى نتجرّأ على إهانة الشهادة؟
يبدو أنّنا بحاجة لتثقيف عام أكثر من غيرنا. بحاجة لأن نعرف أن
نتواضع. بحاجة لأنّ نترحّم على من قال قديماً "لا تصدّق كلّ ما تسمع، فما
أكثر الإشاعات الكاذبة"، أو من قال "من الحكمة أيضاً أن لا تصدّق كلّ ما
يقوله الناس ولا تسرع الى إفشاء ما سمِعت أو صدّقت"). هذه المرّة لن نعتذر من
أحد.
-5-
الحديث يقودنا الى النظر في احتياجاتنا نحن المسيحيّين حتى لا
نبقى في ظلامة الجهل، وأن نكون فقط شعب الربّ وغنم مرعاه لا شعب وغنم مرعى أيّ
إنسانِ آخر. بالطبع أنّنا، وعلى المدى القريب، بحاجة لمصالحات عديدة فيما بيننا
ولقاءات وحوارات صادقة. وتبيان الحقائق بعضنا لبعض والهواجس والمخاوف بصراحة حتى
ولو ظهرت وقحة. وقد تكون الكنيسة هي المهيّأة للعب هذا الدور. فهي الوحيدة القادرة
على المبادرة ولمّ الشمل.
ولكنّنا، على المدى البعيد، بحاجة لسدّ ثغرة ثقافيّة تتعلّق بنا
كشعب ومؤسّسات. ونحن قادرون على ذلك لأنّ معظمنا متعلّم ومنفتح على الحضارات
والعلوم العالميّة المتعدّدة. وقد لا "نقطف" ثمرة سدّ هذه الثغرة إلاّ
بعد حين، ولكنّنا بحاجة لأن نبدأ، لأن ندخل حقيقةً القرن الواحد والعشرين. وهنا
أيضاً للكنيسة الدور الأوّل. ما سنقترحه يصبّ في رؤيتنا أنّ الحاجة الأساسيّة تكمن
في أن نكون متماسكين متضامنين، أصحاب رؤية مستقبليّة لنا في هذا المجتمع وهذا
المكان من المنطقة. ونختصر ما نراه من حاجات بأمور ثلاثة.
أوّلاً، خلق ثقافة المؤسّسة والعمل الجماعي. (Institutionnalisation)
نحن نملك مؤسّسات كبرى. والكنيسة تملك المئات منها. هذه
المؤسّسات هي في جزء من معانيها ضامنة لوجودنا. ( مدارس، جامعات، مستشفيات ... ).
ولكنّ الفرد هو أساسها. هذه المؤسّسات بحاجة الى مأسسة أيّ الى خلق نظام يحميها
وينمّيها ويبرز فائدتها للجماعة. فلا تهتزّ عند خروج فرد منها أو دخول آخر إليها. المأسسة
تساعدها لتقوم بدورها الرؤيويّ الهادف الى تنمية الجماعة شكلاً ومضموناً. بالإضافة
الى ذلك يجب خلق ثقافة العمل الجماعي الناظر دوماً الى الرؤية إن كان في المؤسّسات
أو في الجماعات. أيّ خلق ثقافة العمل الفريقي بمعنى (Team) وليس بمعنى (Group). فالمعنى الأوّل (Team) يفيد وحدانيّة الأهداف وليس فقط توزيع
الأدوار كما في (Group). فإذا زلّت قدم
أحدنا بادر الجميع لمساندته. وهكذا نستطيع تحقيق الكثير ونحن سائرون الى الهدف.
هذه الثقافة هي ثقافة مسيحيّة بامتياز إذ تقوم على نكران الذات وبعد النظر والإبتعاد
عن الغرور، فنعود جميعاً الى تواضع المسيح. ولنتذكّر دائماً أنّ الله عندنا ليس
فرداً، إنّه ثالوث. والمسيح ما عمل وحده بل مع إثني عشر. والخاطئ من بيننا تنتشله
الكنيسة في كرسي الإعتراف وسرّ التوبة وتعيده الى الجماعة. و ... أعمال المجمع
الماروني الأخير كانت أعمال فريق.
ثانياً، خلق ثقافة حسن المشورة.
ونعني بهذا ثقافتين متلازمتين: ثقافة التواصل وثقافة حل
النزاعات. التواصل يزيل كلمة مقاطعة من قواميسنا. ولا يثير المشاعر في النفوس. ويزيل
من عقولنا مبدأ اللإقناع بالقوّة. لسنا أغراباً بعضنا عن بعض وكلّنا نجهد في مركب
واحد، في بحر ندر ما كان هادئاً. ثمّ إنّ وجودنا دائماً معرّض للخطر. إنّها
الحقيقة التي منها يجب أن ننطلق. هذه الثقافة يجب أن تقوم حتى في داخل البيوت ومع
أفراد العائلة بين الأهل والأولاد أوّلاً. عندها قد لا نسمع في وسائل الإعلام
تراشقاً مخجلاً في أكثر الأحيان بين سياسيّينا. ثمّ لنتعلّم من الغرب المتمدّن
ثقافة حلّ النزاعات. ثقافة استيعاب غضب الآخر وكبر النفس وكبر العقل. إنّ ثقافة
حلّ النزاعات تشبه الى حدّ كبير تقاسم قالب الحلوى بشكل يظنّ كلّ واحد أنّه حاز
على القطعة الأكبر. مؤسف أن تكون بعض نزاعاتنا دمويّة ولكنّه مخجل أنّنا لم نسعى
بعد لحلّها.
ثالثاً، خلق ثقافة القائد الرؤيوي.
لسنا بحاجة الى مديرين. فالمديرون كثيرون. نحن بحاجة الى قادة.
الفرق هو أنّ القائد يملك رؤية ويجهد ليصل بشعبه إليها كهدف. فالرؤية تؤسّس لقيم
مشتركة بين أعضاء الفريق. وهذا عمل القائد. ولا تخشى من التغييرات لو وجب
اعتمادها. وهذا عمل القائد أيضاً. القائد متواضع صادق أمين. هو مخطّط ومنظّم، مشارك
مع الآخر، يلهث وراء المشورة ويقبل بمبدأ المساءلة. القائد لا يعتقد أنّ "
الله خلقه وكسر القالب".
إن خلق هذه الثقافات بات ضروريّاً. ومثلها كمثل من يزرع شجرة
الزيتون، عليه الإنتظار بصبر لسنوات ليأكل منها. لكن ... يجب أن نبدأ. ونقطة
البداية لا نراها إلاّ من خلال إعلام مسيحي واعِ ومدركِ ورؤيوي، كذلك من خلال
مؤسّساتنا التربويّة. وندرك أنّ ما ذكرناه بحاجة للكثير من التوضيح وجمع الآراء
والأفكار (brainstorming)، وبالتالي للكثير
من الإجتماعات من المهتمّين على طريقة الطاولة المستديرة.
في 1\9\2007