بعد رصاصة الرحمة، هل من قيامة؟
من صفات النفس أنّها "أمّارة
بالسوء" وهي بذلك تظهر صورة الضعف البشري بجلاء. ومن صفاتها أيضاً أنّها لاهثة
وراء الحقيقة بالفطرة بالرغم من أنّ الحقيقة، تجرح في أكثر الأحيان كما يقال.
ولهذا يمكننا، على الأقلّ، أن نصف كتاب "رصاصة
الرحمة" للإعلامي المميّز الأستاذ "كلوفيس شويفاتي" بأنّه كتاب
جارح، يخلق غصصاً في الحلق وأسفاً في قلب قارئه. وقد يبدو للوهلة الأولى أنّه يندرج
ضمن خانة الكتب التاريخيّة. فهو يصف بدقّة مرحلة الحرب الشرسة التي اندلعت بين "أبناء
الخندق الواحد"، أيّ بين الجيش اللبناني بقيادة الجنرال ميشال عون، رئيس
الحكومة العسكريّة في ذلك الوقت، والقوّات اللبنانيّة بقيادة الدكتور سمير جعجع.
وقد استند الكاتب على الكثير من المراجع الموثوقة والشهادات الحيّة، وراجع تقارير
إعلاميّة كثيرة ليقترب من حقيقة الأمور التي بدت جارحة بجلاء ما بعده جلاء، ووضوح
كاد أن يكون كلّ الوضوح. وللحق لا يبتعد الكتاب من أن يكون مرجعاً تاريخيّاً عندما
تأتي الساعة ويحين الوقت الذي لم يحن بعد، ولكنّه الآن هو عمل أرشيفيّ وتوثيقيّ
بامتياز. ولأنّه كذلك وُجب التنويه بجهد الكاتب الكبير، ومتابعته ومثابرته وصبره
الذي يشهد له، متخطّياً الغصص من مرارته وحزنه على كلّ ما جرى، مرارة وحزن إبن هذا
الوطن وديمومته وتاريخه وحامل إرث الأجداد المتراكم من مئات السنين.
لن نأتِ على مسألة التعرّف على الكتاب بذكر
مضمونه، ليس لأنّه مكتنز وحسب بل، لأن اختصاره في عجالة كما هي عجالتي هذه ضرب
جنون لن يفي بأيّ غرض. فالكتاب يحوي من يوميّات الحرب، بل من ساعاتها، الشيء
الكثير ممّا يفرض على المهتمّ بتلك الأحداث أن يقرأه بتمعّن ذهنيّ وهدوء فكريّ،
وأن يتحلّى بسلام داخلي وصبر العالم لكي يستطيع الإحاطة بمفاصله. عندها فقط يمكنه
أن يأخذ العبر التي من أجلها كان الكتاب. وهكذا، يمكننا أن نتعرّف على صورة الحرب التي
جرت، على بشاعتها وبؤسها، وعلى النفق التي زجت فيه أناساً أبرياء لا ناقة لهم ولا
جمل ممّا حصل.
والحال، فلنسجّل بعض الملاحظات من وثائق
الكتاب نفسه:
أوّلاً، وبحسب الكتاب، يبدو إن مصالح القادة
الذاتيّة، في ذلك الوقت، هي التي كانت فوق كلّ اعتبار وليس أيّ أمر آخر. فالرئيس
الجميل أعطى أوامره للجيش، وهو القائد الأعلى، للتصدّي لدخول جماعة
"حبيقة" المناطق الشرقيّة في العام 1986، ولم يعطِ أمراً مماثلاً
للتدخّل في حرب الجبل، وإن فقط فصلاً بين المتقاتلين، والتي وقعت قبل ذلك بثلاث
سنوات تقريباً.
ثانياً، المناطق الشرقيّة، كما كانت تعرف
أيّام الحرب، كانت فعلاً تفتقر لقادة يستهيبون الحرب الداخلية، الحرب فيما بينهم،
تماماً كما كان الرئيس شمعون يستهيبها يوم وحدّ الشيخ بشير البندقيّة المسيحيّة،
وقضى على ميليشيا حزب الوطنيّين الأحرار في نهار واحد.
ثالثاً، ودائماً بحسب الكتاب، لم تحرّك
الحكومة العسكريّة ساكناً يوم أجبر الرئيس الجميل على مغادرة لبنان بعد أن سيطرت
"القوات اللبنانيّة" على قضاء المتن عسكريّاً، إذ لا ضير من إبعاد منافس
سياسي من أمامها.
رابعاً، بدا واضحاً من السياق العام للكتاب
أن الجنرال عون صمّم على إنهاء القوّات إذ أورد الكتاب أنّه استمهل البطريرك مهلة
زمنيّة بعد لتحقيق مبتغاه.
خامساً، بدا واضحاً أيضاً أن الحقد الدفين في
القلوب ظهر في الأفعال. لقد اتّصل أحد القادة العسكريّين بالأباتي
"نعمان" وهدّده قائلاً بأنّه إذا تابعت القوّات قصف الجيش في
"القليعات" بمدفعيّة ال 240 فسيقصف بكركي ويدمّرها، ممّا جعل الأخير
يستشيط غيظاً ويهينه واصفاً المتقاتلين بأبشع النعوت أقلّها "المجانين".
سادساً، ومن جنون ذلك الوقت أنّ أحد القادة
فضّل قصف موقعاً فيه جنوده بشكل هستيري وعندما سئل عن السبب قال: "أفضّل قصف
موقعنا ولو أصبت رفاقي من أن يقع الموقع في اليد المقابلة".
سابعاً، ومن الجنون أيضاً، أن مقاتلاً سأل
قائده متى تنتهي هذه الحرب فأجاب، عندما يدخل السوريّون المناطق الشرقيّة.
ثامناً، ألمقلب الآخر من الوطن أيّد كلاميّاً
الجيش، فألوية الجيش في مناطق الإحتلال أصدرت بيانات تدعم رفقائها في السلاح في
حربهم ضدّ القوّات اللبنانيّة. كذلك فعل بعض السياسيّين ( الرئيس الحصّ، عبدالله
الراسي، حركة أمل...) تماماً كما فعلت وسائل الإعلام السوريّة. لكن هؤلاء لم
يؤيّدوا رفاق السلاح في حرب التحرير. وحده وليد جنبلاط عبّر من مكنونات القلوب يوم
وصف ما يجري بأنّ "الذئاب تأكل بعضها".
ولكن... كان واضحاً أيضاً أنّ في حرب التحرير
ساندت القوّات الجيش. فالخصم مشترك. حتى إذا ما غاب الخصم فلن يعود هنالك شيء
مشترك.
وهكذا، تكون المصلحة الذاتيّة هي الغالبة،
وأنّ الكره للقوّات اللبنانيّة من الجميع تقريباُ هو السائد ممّا يستدعي سؤآلاً عن
الأسباب الكامنة ورائه.
ولكن ما لنا ولهذا الأمر الآن؟ فإذا أردنا أن
نرتجي ممّا حصل دروساً وعبر وجب علينا التوقّف عند النقاط التالية وقد أشار إليها
الكتاب صراحةً.
أوّلاً مراجعة الذات:
وهذا لا يعني مطلقاً ما يعرف بالنقد الذاتي. الأمر
مختلف تماماً. ذلك أنّ الإنطلاق لا بدّ أن
يكون من عتبة مفادها أنّ الكلّ أخطأ. إنّه اعتراف صريح بالخطأ مرتكز على النتيجة
التي وصلنا إليها، وهو ليس نقداً ذاتيّاً يحتمل المناقشة. "لقد أخطأنا"،
هي العبارة الواجب الإنطلاق منها في عمليّة التصحيح البنيوي، الكياني والوجودي
للجماعة التي ننتمي إليها. وسيتبعها حتماً سؤآلاً بديهيّاً عن "بماذا أخطأنا؟
وبحقّ من؟" ومهما تعدّدت أماكن الخطأ وظروفه فلا بدّ أن تتّجه الآراء لتتجمّع
في خطأ أساسي يتناول وجود الجماعة. "لقد أخطأنا" إذاً بحقّ الناس. ولا
يتشدّقنّ أحد علينا أن حياته كانت على كفّ عفريت، فقد كانت حياة الناس جميعاً على
كفّ عفريت. فعندما كان الناس يخبّئون رؤوسهم في أشباه الملاجئ، تماماً كما تخبّئ
النعامة رأسها في الرمل، كانوا يترقّبون الموت في كلّ حين. إنّ لبنان المحاذي
لإسرائيل والغارق في حروب معها، ما فكّر سياسيّوه يوماً ببناء ملاجئ للناس. مراجعة
الذات إذاً تقتضي رؤية كلّ الشوائب والإعتراف بالخطأ العام، واللامبالاة التي ما
انفكّت تدكّ مضاجعنا جميعاً الى يومنا هذا.
ثانياً تنقية الذاكرة:
في ذاكرتنا جميعاً بشاعات قد تفوق الجمالات
التي فيها. أن أكون واعياً على ما في ذاكرتي يعني بالضبط أن أقوم بغربلة مضمونها،
فأتعرّف على ما فيها وأجمع المماثلات كلّ على حدة. بعدها يصار الى طرح البشاعات
خارجاً لتدوسها الأرجل أو تحرق في النار. إنّ عمليّة الطرح هذه هي ما نعنيه بعبارة
تنقية الذاكرة. فكلّ بشاعة يجب أن نزيلها، وأن نحاول أن ننساها، وأن لا نعود
نتحدّث عنها. فنبقي على الجمالات حيث الحديث عنها يقرّبنا بعضنا من بعض، ويحيي
محبّتنا المتبادلة، ويعيدنا الى إنسانيّتنا التي يرضى عنها الله، لا الى غرائزنا
التي يستند عليها الشيطان. تنقية الذاكرة، تعني أن نضع وراء ظهرنا كلّ تصرّف نخجل
أنّنا فعلناه، وأن نسامح ونغفر لكلّ فعل أثار حقدنا وغضبنا تجاه الآخر. فنبدأ
بعلاقة جديدة، وبولادة جديدة، مع الآخر الذي نجهدُ، تماماً كما هو يجهدُ، لكسب
سلام داخلي ضروري لكلّ ترقّي على جميع الأصعدة، خاصة الصعيد الوطني. تنقية الذاكرة
هي عمليّة مشتركة ولا يمكن أن تكون أحاديّة، إذ ذاك فهي عرضة للسقوط.
ثالثاً السير الى الأمام:
إذ بدأنا عجالتنا هذه بأنّ النفس أمّارة بالسوء،
فمن الواضح أن إزالة الحقد، وهي شرط أساسي للرقيّ والتقدّم، مسألة تبدو، للوهلة
الأولى، صعبة بمكان. ولكن، لا بدّ لملكة النسيان الإنسانيّة أن تلعب دورها في هذا
الأمر. وهي لن تفعل فعلها الإيجابي إلاّ إذا كان لدينا ما هو أبعد وأعمق وأجدى من
الحقد، وهو الوجود بذاته. إنّ وجودنا يحتّم علينا العمل على إزالة كلّ حقد وبغض
وحسد وأنانيّة وغرور. ووجودنا، وهو دائماً مهدّد، مسألة قائمة في هذا الشرق منذ
أجيال، وهي دائماً بحاجة لإعادة نظر وتفكير وبناء. فالوجود وهو، في عقلنا وفي
قلبنا، في مرتبة أعلى من أيّ شعور آخر، وحده كفيل بأن ينسينا الحقد بعضنا على بعض.
إنّ إزالة الحقد تقتضي التفكير دائماً بتثبيت الوجود وصيانته. وإذ تجثم مسألة
وجودنا في عقلنا وقلبنا ووجداننا، لا بدّ أن ترافقها رغبة صادقة بالسير الى
الأمام. والعلم مفتاح تثبيت هذا الوجود. ثمّ إنّ إرادتنا في رفع شأن هذا الوطن
تقتضي الإستفادة من العلم للعودة الى ما كنّا عليه، الى الجودة والإتقان عمليّاً
وإجتماعيّاً ونفسيّاً. إنّ مثالنا في ذلك هي شعوب سبقتنا في تطبيق ما نقول: الشعب
الألمانيّ استطاع بصراعه للبقاء وإرادته في الوجود بعد الحرب العالميّة الثانيّة،
بعد أن تمّ تقسيمه وتقسيم بلاده شرّ تقسيم، أن يزيل كلّ الشوائب والإحباط واليأس
ويغدو أكبر قوّة إقتصاديّة في أوروبا. الشعب البولندي لا يقلّ عنه بأساً. فيوم
حاولت كلّ من ألمانيا النازية، ثمّ الإتّحاد السوفياتي على محو بلاده من خارطة
أوروبا تمسّك بوجوده وأفشل المحاولتين. أمّا نحن فلم ينقصنا شيء في الماضي ولن ينقصنا شيء الآن، سوى تلك الرغبة والإرادة
في البقاء على عزّة وشموخ.
هل لنا أن نذكّر بالإرشاد الرسولي وقد جهّز
لأجلنا؟! هل يذكره أحد من الذين تسلّموا المقدّرات؟
وبعد... كلّ هذه الثوابت – الركائز موجودة في
كتاب الأستاذ كلوفيس شويفاتي، رصاصة الرحمة، وإن بين السطور. وقديماً قيل ويل
لكاتب لا يرى أبعد من كلمته، وويل لقارئ لا يقرأ بين السطور. فبحقّ الجهد
الذي بذل لإتمام هذا العمل المفيد لا بدّ لنا من
ملاقاة المضمون بالرغبة الصادقة في تغيير كلّ نهج غير سويّ لا يتعارض مع
تاريخ طويل على هذه الأرض هو كلّ الهويّة.
الجدير ذكره أنّ للكاتب مؤلّفات أخرى بات من
المهمّ الإطلاع على مضمونها. فالأمر يستحقّ والمستقبل بات أسرع من سنينه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق