مدرسة
الحياة.
كلمتي في
حفل تخريج طلاّب مدرسة السيّدة – حصرون. 2012.
من ساحة
ماري هاسكل – متحف جبران
أيّها
الحضور،
هي
المرّة الأولى التي تكون فيها هذه الساحة، ساحة ماري هاسكل في حرم متحف جبران، مكان
احتفال لتخريج طلاّب أحبّاء، أنهوا دراستهم الثانويّة في مدرسة عريقة، كما هي عليه
مدرسة السيّدة للآباء الأنطونيّين في حصرون. ولكنّها مرّة من مثيلات لها عديدة
نشعر بها أنّنا الأقرب الى فكر جبران ومحبّته الإنسانيّة الكبرى، بل ومن روح
وصيّته التي نجهد، كما جاهدت اللجان السابقة، لتحقيقها منذ ما يناهز الثمانين سنة
وحتى الآن. فنحن ننظر بعين الى كلّ عمل نقوم به بقصد إنجاحه، وننظر بالعين الأخرى
الى وصيّة جبران ذاتها بقصد تحقيقها. نفعل هذا في كلّ نشاط نقوم به، في المعارض
داخل لبنان وخارجه، في بيروت وأستراليا كما مؤخّراً، وفي أعمالنا المشتركة مع
الناشر الأميركي، ومؤخّراً مع الشركة الهوليوديّة التي وقّعنا معها عقداً لإنتاج
فيلم خاص بكتاب النبي. ولن أكتمك سرّاً، بأنّنا كنّا نحثّ العاملين بهذا المشروع
لكي يسرعوا بتجهيز العقد، ذلك أنّنا ما كنّا لنصدّق أنّ فيلماً أمريكيا يمكن أن
يتناول كتاب النبيّ مادّة أساسيّة له، وهو الكتاب الذي لا يحوي من عناصر الدراما
حتى على النذر القليل. تلك العناصر التي تشدّ روّاد الصالات لحضوره. ولكن التمويل
اكتمل وفاق الاثني عشر مليوناً من الدولارات، والسيناريو اكتمل وتمّ وقد اطّلعنا
عليه لإبداء الرأي، وها إنّي أبشرّكم بأنكم سترون الفيلم، وستعجبون بطريقة إخراجه
وإنتاجه. لقد فعلها أولئك المجانين الذي قال جبران عنهم مرّة: "لا يكسر
الشرائع البشريّة إلاّ إثنين، المجنون والعبقري، وهما أقرب الناس الى قلب
الله".
ولكن، ما
لي أحدّثكم الآن عن شؤون وشجون اللجنة ونحن في حضرة طلاّب تنضح جباههم وتشعّ
عيونهم برؤى المستقبل؟ نحن معاً لنتشارك ليس فقط فرحة النجاح، وهي الفرحة الأعمق
في تاريخ البشريّة، بل لنتخطّى حتى هذه الفرحة الى فرحة تثبيت الخطوة الأولى، خطوة
الدراسة الثانويّة بشهادتها الأخيرة، وبدء الخطوة القادمة حيث شهادة جامعيّة أخيرة
تنتظرهم، وبعدها خطوة الدخول الى مدرسة من نوع آخر، هي مدرسة الحياة، التي تحوي
الكثير من الشهادات والدرجات، ولكنّها، حتماً لا تحوي شهادة أخيرة.
أيّها
الأحبّاء،
أتوجّه
الآن إليكم بكلمة من القلب، إذ لا يمكن أن تمرّ هذه المناسبة من دون أن أوجّه
محبّتي الى قلوبكم، وكلمتي الى عقولكم، وأن أخبركم عمّا أنشده لكم من مستقبل.
ستدخلون عاجلاً أم آجلاً مدرسة الحياة التي حدّثتكم عنها، وهي مدرسة واحدة عمرها
آلاف السنين. فهي سلسلة تراكمات من تجارب ومحن ومعارف وسقطات ووقفات قام بها
أباؤكم وأجدادكم والسلف الغابر. وهي مدرسة العمالقة الذين حالفهم الحظّ فما غاصوا
كما نفعل نحن وإن رغماً عنّا، في لظى حضارة الاستهلاك ونفاياتها المعولمة. أدعوكم
الى الدخول الى هذه المدرسة من بابها الواسع، ولا تصدّقوا الأقزام الذين يدعونكم
الى مدارس من نوع آخر. فمدرسة الحياة واحدة وليس لها أيّ فرع آخر. صحيح أنّنا لم
نعد في زمن العمالقة، فالبيضاء بياض الثلج رحلت وما بقي سوى الأقزام. فلا تصدّقوا
الأقزام مهما قدّموا لكم من إغراءات. هم صغار ومهما علت أصواتهم لن تتخطّى رنين
الصنج. عودوا الى المدرسة الحقّ، مدرسة السلف المارد العملاق وانهلوا من تجاربه
ومعارفه. وتذكّروا دائماً أنّ نبح الكلاب لا يضرّ بالسحاب، فكونوا السحاب، وأنّ
البئر دائماً أبقى من الرشاء، والرشاء هو هو المدرسة الواحدة، مدرسة الحياة التي
أتابع الحديث عنها.
مثالنا
في هذه المدرسة واضح جليّ. إنّه جبران نفسه. فجبران ما ضيّع وقتاً ولهذا بقي حيّاً
بعد ثمانين سنة من وفاته. لقد أظهر النعمة التي تلقّاها نوراً يضيء في زمن اللهث
وراء كلّ شيء إلاّ النور. هو غيره العالم، تماماً كما الكثير من الفلاسفة
النهضويّين، الألمان أو الفرنسيّين، من أمثال ألبير كامو الذي ما وجد حلاّ لإنسانه
هذا المجهول ليواجه به قدره، بل ويتحدّاه، سوى التضامن مع أخيه الإنسان ومحبّته.
عن هذه المدرسة أحدّثكم أيّها الأحبّاء.
ولكي
ندرك كنه مدرسة الحياة انظروا حواليكم الى هذا الجبل. انظروا الى الجلالي التي
صنعها الأجداد لاستغلالٍ أكبر للأرض. لقد ذكرت لنا كتب التاريخ عن عظمة هذا
الفلاّح ما ذكرت، ولكنّها نست أن تقول لنا أّنّه ليس ابن سهل. ففي السهول لا يوجد
جلالي. وهو ليس ابن ساحل، فلا جلالي أيضاً في الساحل. إنّه ابن جبل، ابن جرد.
إنّهم أيّها الأحبّاء يتكلّمون عن أجدادكم. ونسوا أيضاً أن يقولوا لنا في كتب
التاريخ أنّ الجبل ليس قطعةً معلّقة في الهواء. وليس صحيحاً أنّ أهمّ ما فيه هي
قمّته. بل الجبل في سفحه الواسع وفي واديه. فلا جبل من دون وادٍ، ولا القمّة سوى
مكان الراحة بعد جرأة الخروج من الوادي وعناء تسلّق السفح. ولهذا الجبل من حولنا
وادٍ سحيق، واسع، عريض، فاغرً فاه كما المبخرة، هو وادي قنّوبين. وفيه قبع شعب، هم
أجدادكم، مدّة أربعمئة سنة حينما كانت الحروب تدور من حولهم. حروب طائفيّة
ومذهبيّة وأصوليّة. بقي هذا الشعب مقبوعاً في هذا الوادي حتى ليخيّل للناظر الى
المشهد عن بعد أنّه انقطع عن العالم، وانعزل عنه. ولكن الأعجوبة الكبيرة التي خطّط
لها أن تحصل، هي أنّ هذا الشعب خرج من واديه حاملاً مشعل النهضة منذ أكثر من مئة
وخمسين سنة. عن هذه المدرسة أحدّثكم أيّها الأحبّاء، مدرسة الحياة الفريدة التي لا
شريك لها.
أيّها
الطلاّب الأحبّاء،
يخيّل
إليّ أنّ التاريخ يعيد نفسه بظروف مختلفة. فهو، في وسط ما يدور حولنا من ثورات وحروب
واستفزازات مذهبيّة، يدعونا لحمل مشعل النهضة من جديد. فلنحمله جميعاً ولنعيد
مبادئ الأجداد من عدالة ومساواة واحترام للآخر وحرّية التعبير وحرّية المعتقد
والحقوق الإنسانيّة والاجتماعية والتربويّة، من مثل مجّانية التعليم وإلزاميّته. ولندعو
كما فعل الأجداد بكلّ هذه المبادئ ليس لنا فقط بل لكلّ الناس. انضموا إذاً أيّها
الأحبّاء الى هذه المدرسة، مدرسة الحياة. واختاروا هدفكم بما ترغبون أن تصلوا
إليه. فليس قيمة الأنسان بما يبلغ إليه بل بما يتوق للبلوغ إليه. ولا تخافوا من
عدم إيجاد الهدف. فالهدف سيأتي لا محالة إذ، كلّ تنّين يلد مار جرجس ليقتله.
أكرّر
التهنئة لكم، باسمي واسم الأعضاء في لجنة جبران الوطنيّة، ونكرّر التهنئة لمدرستكم
العريقة ولكلّ الهيئة التعليميّة التي أعطتكم من محبّتها وإيمانها. والتهنئة
مكرّرة أيضاً لأهاليكم، علّنا نلتقي معاً بعد حين في إنجازاتكم المستقبليّة.
د. طارق
شدياق.
تمّوز
2011