مقدّمة ديوان "يوم راقصني المطر"
للشاعرة "راشيل الشدياق"
راقص المطر واشرب نخبه
عندما تقف صباحاً أمام ورقة نديّة لنبتة خضراء، وتمسح من عليها، بإصبعك،
قطرة ندى تلمع، وتشعر ببرودتها تجري في ثنايا أعماقك، ثمّ تقف لا تفكّر إلاّ بجمال
الطبيعة الأخّاذ، بالحبّ، بالحنين، بالحرّية التي فيك، بالتمرّد الذي كان منذ بدء
الخليقة، تكون قد اقتربت من إدراك سرّ الإبداع في هذا الديوان، إذ ستدع المطر
يراقصك حتى تنتشي. أمّا أنا فانتشيت مرّتين، الثانية يوم كرّمتني الشاعرة بكتابة
مقدّمة له.
فرحي ما كان لأنّ "راشيل" صديقة ونسيبة وزوجة الأحبّ إلى
قلوب عارفيه وحسب، بل لأنّها جذبتني إلى جزيرتها التي صاغت مضاربها بخيوط من نور:
أزرق لتَلِج بك إلى عمق أعماق الحبّ، وأحمر لتذكّرك بجذوة التمرّد الوهّاجة في
داخلك، وأبيض شفّاف ليعود بك إلى الحنين الى الزمن الأوّل، إلى الطفولة، إلى
الأصالة. فإذا شعرت مثلي، يا من سيرقص مع المطر يوم ستقرأ الديوان بانقباض في
داخلك، أو بلوعة في قلبك فاعلم أنّك بتّ تسكن جزيرة "راشيل" وأنّك بتّ
تقبض على كلّ هذه الأنوار.
شاعرةُ الأحاسيس
الصادقة هي، كما في براءة طفلة، راقية في صياغة الكلمة كما معلّمة الأجيال، مبدعة
في رسم عالمها الذي لن تفقده مهما تراكمت أيّام عمرها... " أنا يا أبي لم
أكبر ... في بالي بعدُ طفلةٌ على أرجوحةٍ
... فستانُها أحمرُ وجدائلُ غادةٍ... ". حديث لأبيها فيه كلّ عبق
الإحترام، وحديث لأمّها فيه كلّ جمال الذكريات، وفي الحديثين لوعة حنين لمسقط
رأسها حيث تبثّ له الشوق الدفين: " أغمسُ قلبي في خابيةِ شوقي ... فينهمرُ
الدّمعُ ... ويولدُ حِبري". عالمها براءة سلام وحبّ وحنين، لا يعرف شعارات الحقد تلك التي في
وطنها الذي " ما فُطم بعد عن ثدي الطائفيّة "، يمجّد براءة أطفال
غزّة ويغضب على شرقٍ هامدٍ خامد ... " أفِقْ يا شرقُ، يا شرقُ أفِقْ، فما
أتعسَ من جَهْلِكْ إلّا عُرْبٌ مِعراج ُ... "
وشاعرة العنفوان هي، كما في روحٍ متمرّدة، حاسمة في أخذ القرار متى
وجب الأخذ، صلبة الإرادة كما في أبيات عشقها للحرّية. الأبهى أنّ كلّ تمرّدها،
عنفوانها والحسم، وقرارها والعناد، ما هي إلاّ أوراق في خدمة الحبيب، لبقائه
وثباته والسير خلف رأسه المرفوع: " ...
أعلنُ على اللّغةِ عصياني، متمرّدةٌ أنا، أريدُ تفجيرها، نسفَ قواعدِها،
بسطَها على سهلِ مدٍّ لا يخفيكَ ... لا يرسمكَ حلماً ". عندها لا حياء
في الحبّ. هو نبضة القلبِ المحيية، فليُسمع النبض إذاً: " ... تجرّإي فالحبّ قُدسٌ واللّحنُ همسٌ
... تجرّإي ... فلا أروعَ من امرأةٍ بجنونِ الفراشةِ تعشقْ ... " لكن لا يخطرنّ على بال أحدٍ أنّ جذوة عنفوانها
لن تشعّ، وعزّة نفس المرأة فيها لن تنتفض إنْ كرامتها في خطر: " ... إرحلْ!
إجمعْ شتاتك،َ بداءتك،َ غرائزك،َ وكلَّ شهواتك وارحلْ!... واحمل خطاياكَ، وبذاءةَ نواياكَ، وكلَّ
آثامِكَ إلى غيري... لن أترجّاكَ ... أميرةٌ أنا، شرقيّةٌ أنا، وهذا العنفوانُ
السّاطعُ أنا ... إرحلْ !". هي العزّة تملكها، كما كبر الذات ونبل
القلوب. ترفع الرأس يوم الحبّ صدقاً، وتشرئب منتفضة يوم كان أكذوبةً: " قد
قالَ لي أنّهُ بالحبِّ سخيٌّ ملك ... قلتُ لهُ: أأسمرُ ... إن كانتْ بين نسائكَ
أميرةٌ، فعلى صُدَفِ الفوارسِ عندي ملك ". أمّا أقدس ما في كلماتها فتلك التي رسمت
عشقها للحرّية. أفي تاريخ أجدادها سبب؟ أم في عروقها شعلة من بأس؟ إلتصقت بها
الحرّية، لأنّها التصقت بمكانها، بناسها، بموطنها: " ... حرّةٌ صارخةٌ في دنياكَ أنا ... سَلْ عن موطني
يا حبُّ تَعرفْ من أنا!"
أجمل الأجمل ما فاض عن الديوان وما زال يفيض: الحبّ، حبّها.
سجينة
الحبّ راضية، سعيدة، لا تقبل تبدّلاً. أسيرة الهوى يدركها في كلّ ما ترى، في
الموقد، في الحطبة، في النار، في كلّ أغاني المطر، في الندى ينعش أزاهير الحقول،
في الليل وشعاع القمر، ونتف النجمات، في غفوة الزنبق، في الشوك، في العطر، في
العنب، في الكأس، في صوت النايات، في العبقِ، في الشبق، وأيضاً في فنجان قهوتها.
" ... أليومَ سأشتاقُكَ، سأرسُمُ لي
صورتَكَ تنيرُ فنجانيَ الأسودْ، وسأعانقكَ ...". ويسألها " كيفَ يكون
العشقُ ديواناً؟ ". أيتحدّى؟ ... ما نظرت إلاّ إلى العنق وبصمت: " ...
إنتفضَ النّبضُ في العرقِ فإذا هوَ دونَ أن يدري أوّلُ بيتٍ من نصّي ".
إلى هذا الحدّ هي سعيدة في الحبّ سجّانها، تستحيل ناراً في موقده، وتدرك
هويّة قلبها النبيل، كما حبّها، كما حنينها، كما العنفوان: " مُذْ أنتَ. ما عدتُ أفتّشُ عنّي في
انعكاسِ المرايا... مُذْ أنتَ بتُّ أنا، عِشتُ أنا، أحببتُ أنا ". فهل
عجبٌ إن سألته أن يغدق عليها من حبّه، من جنونه، " والحبّ في حضنه غاية
الكبر؟"
راقص
المطر يا من سيقرأ الديوان واشرب نخبه، وعُد إلى تلك الطفلة التي " راقصت
الحمم ... حبلت على درب شجن، وأنجبت للكأس خمراً، نديماً، أسمته ... المطر".
د. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة
14/2/2015