إفتتاح الحديقة العامّة في "مار جرجس - بشرّي".
أيّها الحضور
"سرّ إلى الأمام ولا تقف البتّة، فالأمام هو الكمال.
سرّ ولا تخش أشواك السبيل، فهي لا تستبيح إلاّ الدماء الفاسدة. سرّ فالوقوف جبانة والنظر
إلى مدينة الماضي جهالة".
على هديَ هذه الكلمات الجبرانيّة كانت حماستنا الكبرى في
لجنة جبران يوم أقدمنا في لحظة مباركة مع مؤسّسة جبل الأرز على مشروع بناء هذه
الحديقة. حماسةٌ مآلها أحلام ورديّة مفادها أن ملكاً لنا جامدٌ كما الصخر فيه، أبكمٌ
كما عشبه اليابس، أصمّ ولا صمم رمل البوادي، سيصبح فسحة جماليّة، فرصة تعارف، حديقة
لقاء، تعجّ بالطبيعة الخضراء. فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن. ثمّ
أنّ في الغصن المزهر ما ليس في غابة يابسة. والحال، كنّا ننتظر هذا اليوم بفارغ
الصبر، لأنّ حماستنا كانت بركاناً ما نبتت على قمّته أعشاب التردّد. كنّا واثقين
بأنّنا ومؤسّسة جبل الأرز نفي بما نعد، لأنّ قناعتينا هما في أنّ النهر يظلّ جادّاً
نحو البحر إنكسر دولاب المطحنة أم لم ينكسر.
ها الحديقة إذاً في مكانها الصحيح. وسنرى فيها الأزهار
والنباتات والأشجار لتظهر فيها جمال الطبيعة على يد الإنسان الذي يدرك أنّ الثلوج المتراكمة
لا تميت البذور الحيّة. سنرى إذاً تلك الزهرة التي لن تكتسب عطرها وحياتها إلاّ من
تراب هذه الأرض، أرضكم. ولكنّنا أيضاً سنرى في هذه الحديقة بعين بصيرتنا لا في
عيننا المجرّدة زهرةً مخفيّة هي المحبّة. فالمحبّة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت وتنمو
بغير معاونة الفصول. ولأنّ هذه الزهرة ثابتة وموجودة في قلوبنا وقلوب مؤسّسة جبل
الأرز كانت الحديقة وفي مكانها الصحيح.
ولا بدّ أن سعادة النوّاب وأعضاء المؤسّستين يذكرون ولا
شكّ، أنّ لقاءاتِ طويلة واجتماعاتِ متلاحقة بنقاشات مختلفة كانت تعقدُ هناك في
الصالة البيضاء في القلعة التي لم تسقط، لدرس كلّ التفاصيل والبتّ بشأنها: نوع
الأشجار، المزروعات، الإضاءة، الدروب الداخليّة، مواعيد البدء بالعمل، الإستعانة
بالخبراء، ثمّ رصد المال واستثماره في مكانه، هو الذي أتى من فاضل كبير
"كارلوس سليم" على يد صديق كبير "الدكتور زياد حايك". وهما
العالمان بأنّ المال كالحبّ يميت من يضنّ به ويحيي واهبه.
وإذ لست هنا لأدخل في كلّ هذه التفاصيل، تاركاً الأمر
للمختصّين، العلميّين، المهندسين، التقنيّين الذين نفّذوا المشروع، أرغب فقط أن
أؤكّد على ثابتة إيمانيّة فأشارككم بها. الثابتة هذه مفادها أن "ليس التقدّم بتحسين
ما كان بل بالسير نحو ما سيكون". وفي هذا السير رؤى وطموح وتفاؤل أكيد. رؤى
لأنّ الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمراً. وطموحٌ لأنّ العيش نزوع ومرام. وتفاؤل
أكيد لأنّ المتشائم لا يرى من الحياة إلاّ ظلّها. الحديقة هذه ما تمّت إلاّ من ضمن
هذه الثابتة الإيمانيّة. وكلّ كلمة خارج هذه الثابتة لن تكون بنّاءة. ونحن على أيّ
حال لا نتوقّف عندها، ذلك أنّ المحدود من الناس مطبوع على حبّ المحدود من الحياة،
وأنّه من الظلم أن نطلب الخمر من الحصرم.
أيّها الحضور، إذا تساءل أحدنا: هل هذه الحديقة هي آخر
المشاريع عندنا، فالجواب على تساؤله إنّما هو عندكم. لن يتوقّف إنماء في بشرّي، لا
عند مؤسّسة جبل الأرز ولا عند لجنة جبران، ولا عند أيّة لجنة أخرى أو مؤسّسة أخرى،
ليس فقط لأنّ في الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والإندثار، وليس فقط لأنّ الموت
قنوطٌ وسقام، بل لأنّ من يخمد نار نفسه بيده يكون كافراً بالسماء التي أوقدتها.
هنيئاً لنا إذاً هذه الحديقة، هنيئاً لبشرّي والقضاء.
أمّا لكّل من ساهم في إنشائها، في مؤسّسة جبل الأرز وخارجها، وفي لجنة جبران
الوطنيّة وخارجها، فأقول: إنّ أتعابكم أثمرت حقيقة واقعة ثابتة موجودة وممتدّة.
وإن كنّا لا نستطيع مكافأتكم كما يجب، فثقوا بأنّ الأتعاب التي قد لا نكافأ عليها الآن
ستحيا معنا وتذيع مجدنا.
23\8\2014
الد. طارق الشدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة.