الحبر الأسود أسود [1]
الحزن، لأنّ الله كتب للبعض منّا أن يعي
حالةً، أو وضعاً نعيشه جميعاً. فطوبى للذي لم يصبه هذا الوعي بعد. ولأنّ الوقت
الذي يمرّ يؤكّد بمروره أنّنا عاجزون عن فعل أيّ أمر تصحيحيّ ينتشلنا من هذا الدرك
الذي نحن فيه. فالزمن ليس زمن العقل ولا الأخلاق ولا القيم. إنّه زمن الحروب
العصبيّة، الحاقدة، اللاإنسانيّة. زمن الموت الرخيص، الإبادة البشريّة، زمن العصر
الحجري حيث لا رادع إلاّ ما يسمّى توازن الرعب. زمن الكذب على الذات وعلى الآخرين،
على المسؤولين أنفسهم وعلى إعلام المسؤولين. إنّه حزن عميق، مرارة قاتلة، ألم دفين،
وجع قلب وعقل، فما نمرّ به ليس بالأمر البسيط، المؤقّت، إذ يبدو أنّ الإطار قد تعب
من كثرة الدوران فتوقّف هو لنحزن نحن.
ما عاد حلم الزمن الأوّل قائماً. جماعة ذلك
الزمن، أرادوا أن يجعلوا من هذا الوطن منارة قيم ومبادئ وطنيّة، وثوابت هي أعمدة
تثبته قويّاً قائماً بذاته وتثبت ناسه المؤمنين بها. أرادوه منارةً هي من ثقافته
لبّها، ومن تعدّده وتنوّعه غنى. وطن حرّيات وقانون وعدالة، وطن الإختلاف الفكري،
الثقافي وحتى الحضاري. لم يعد هذا الحلم قائماً. لقد استبدل بحلم آخر، حلم لمن
ستكون الغلبة. وغلبة على من؟ غلبة على الذين إذا تغلّبت عليهم فقدت الوطن، وألحقته
بنوع من الأوطان أراد بوعيٍ أن يختلف عنها. أرادوا، أولائك الأقدمون، أن يثبتوا
لبنان على الخريطة السياسيّة العالميّة وأن يثبتوا ناسه أنّهم لبنانيّون مستقلّون
أسياد متميّزون، فأصبحنا كلّ شيء إلاّ لبنانيّين. أصبحنا كلّ الشعوب، كلّ المصالح،
كلّ العصبيّات إلاّ لبنانيّين لنا مصالحنا المميّزة المشروعة، ولنا عصبيّتنا
الوطنيّة المحدّدة، ولنا حلمنا برسالة للعالم كلّه، هي أقدس كلّ الرسالات. هل
نستطيع أن نتصوّر بلداً لا يحترم مسؤولوه شعبه، دستوره، قضاءه، قواه الذاتيّة؟ هل
نستطيع أن نتصوّر بلداً لا يرى حلاً لأزمة إقتصاديّة أوقع نفسه فيها لغياب العقل
إلاّ زيادةً في الضرائب؟ هل نستطيع أن نتصوّر بلداً غارق في الفساد الذي نحن فيه
ويرفض العمل على الخروج من غرقه بسبب غياب الحسّ بالمسؤوليّة، والوطنيّة؟ هل
نستطيع أن نتصوّر وطناً يقوده مسؤولوه الى الهاوية بسرعة قاتلة وهم غير مبالين؟
لماذا أصبحنا على هذه الحال؟ أين ثقافتنا التي طالما تغنّينا بها؟ أين عقلنا
المشعّ المنير وقد حسبنا أنّنا بلد الإشعاع والنور؟
نحن من أوصلنا أنفسنا الى هذا الوضع. هل
تناسينا أنّنا في زمن البلاشفة كنّا بلشفيّين أكثر منهم؟ شيوعيّين أكثر من ماركس
نفسه؟ وفي زمن تشي غيفارا كنّا غيفاريّين أكثر منه؟ وفي زمن عبد الناصر كنّا
ناصريّين أكثر منه؟ وكنّا عرفاتيّين وفتحويّين وجبهويّين، وفي الزمن الأخير
أسديّين وخمينيّين. وفي كلّ ما كنّاه، لم نكن أبداً لبنانيّين. وما زلنا الى الان
كلّ هؤلاء.
في
الأمس القريب، يوم كان لبنان ذو وجه عربي، كان الجدل في مسألة هويتنا شديداً. جدل
طال مختلف الفئات. هل لبنان دولة عربيّة أم لا؟ اليوم يبدو الجواب أوضح من الأمس.
نحن دولة أكثر عربيّة من أيّ دولة عربيّة أخرى. نحن لا نحترم شعبنا ، ولا دستورنا
ولا قضاءنا ولا جيشنا. نحن لا نفهم العمل السياسي إلاّ ممارسة كيديّة بعضنا على
بعض. نحن الأشدّ فساداً. لقد حسم الجدل. فهنيئاً لكم يا من لم تعوا بعد، هنيئاً
لكم جهالتكم، والحزن لنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق