الخميس، 21 أبريل 2016

عالميّة جبران

عالميّة جبران
د. طارق شدياق
رئيس لجنة جبران الوطنيّة
( كلمتي في لقاء تكريم الأعلام – بشرّي، 23 نيسان 2016)

أودّ أوّلاً أن أشكر جمعية "معاً نعيد البناء" لمبادرتها النبيلة هذه، وأن أقدّم التهنئة القلبية للمكرّمين، الأصدقاء، بعد أن ألمس هدب عباءة البطريرك عريضة كما كنعانيّة ذلك الزمان، وأن أنحني أمام عالميّة جبران وأنا بصدد الحديث عنها الآن.
*
... ونتّفق حتماً على أنّ عالميّة جبران المتحقّقة يوماً بعد يوم قد خرجت من دائرة السجال. لا نقاش حولها، ولا داعي لإثباتها، لا بالشواهد ولا حتى بمعسول الكلام. عالميّة جبران حقيقة تنقّت حتى أصبحت مُسَلَّمَة عند أكثر من لسان وفي أكثر من مكان. ولكن ... العالميّة كما البساطة، هي ذروةٌ وليس بدءُ طريق. قمّة الجبل ذروة ولا شكّ، لكن السفح هو الذي يحمل تراكمات الخبرات، السقطات منها والقيامة والمتابعات حتى الوصول إليها. هكذا هي العالميّة بالضبط وهكذا هي البساطة.
عالميّة جبران قمّة سفحها مسيرة طويلة، اليوم ندرك بدايتها. إنّها ولا شكّ تقوم على ثلاثيّة الوادي المقدّس وبشرّي والأرز. هذا الثالوث هو، عندي، سرّ جبران. بالطبع المسألة بحاجة لشرح يطول، وشواهد تاريخيّة وحتى جغرافيّة، ولكنّ الأمر حتميّ إذا ما أدركنا مختزنات الوادي الإنسانيّة، وأسرار خلود الأرزة، وموقع بشرّي الفاتحة ذراعيها لكي تمسك بالطرفين. من هذا المعين الدسم غرف جبران أفكاره ودعوته، تطرّفه ولينه، تهديمه وبناؤه. من هذا المعين أخذ جبران كلّ إشكاليّاته الكثيرة في كلّ ما كتب.
الإشكاليّات نعم، لأنّها دافع ثابت لعالميّة جبران. الإشكاليّة من حيث ماهيّتها، تجذب المع كما الضدّ لتبقى ويبقى صاحبها. وسأحاول للتوضيح، أن أشير الى ثلاث إشكاليّات من إشكاليّات جبران العديدة الوافرة:
أوّلاً، إثر وفاة جبران، أرادت شقيقته ماريانا أن تأتي بجثّته من نيويوك الى بوسطن لتقيم قداساً لراحة نفسه، يعاونها في ذلك كاهنان لبنانيّان هما: الأب إسطفان الدويهي والأب يواكيم مبارك. وإذ لم يكن يوجد في ذلك الزمن أبرشيّة مارونيّة كان الكاهنان يخضعان لسلطة كاردينال كاثوليكي هو الكاردينال أوكونور. وجاء من يقول له أنّه لا يجوز أن يقام قدّاساً لراحة نفس جبران لأنّه رفض أن يتناول القربان المقدّس. فاستدعى الكاردينال الكاهنين وسألهما عن الأمر. أنكرا بالطبع. وراح الأب الدويهي ليكتب شهادة يوقّعها باسمه، وعاد الأب مبارك الى نيويورك ليأتي بشهادة من رئيسة مستشفى "سانت فينسانت" حيث توفّي جبران، الراهبة الكاثوليكيّة هي الأخرى، تفيد بتناول جبران للقربان المقدّس، وذلك بطلب من الكاردينال. وأقيم القدّاس. ولكنّ الإشكاليّة كانت قد وجدت مكاناً لها: هل جبران مؤمن أم ملحد؟ وهل إيمانه الكبير المعروف بيسوع المسيح هو غير إيمانه بطقوس كنيسته؟ لقد جذبت هذه الإشكاليّة المع والضدّ لتبقى ويبقى جبران.
هذه الإشكاليّة قدمت مع جثّة جبران الى لبنان. فعند وصول الموكب الى بشرّي، حمل النعش "شباب بشرّي" الذي من فرط حماسته كان قد كتب على لوحة خشبيّة لتعلّق فوق المدفن في دير مار سركيس عبارة: " هنا يرقد نبيّنا جبران". كان مع الجثة وفد كبير يضمّ رسمّيين ومنهم "المسوي كلو"  (Monsieur Clou) عن سلطة الإنتداب، والمطران بولس عقل مطران المنطقة في ذلك الوقت. عند ساعة الدفن رفض المطران الصلاة على الجثّة بحجّة ورود كلمة "نبيّنا" على اللوخة المشار إليها. فالكنيسة بعد المسيح لا تعترف بنبيّ. ومسألة النبوّة تبدّلت وتغيّر معناها. وطال الأمر، المطران مصرّ والشباب مصرّ أيضاً والمسيو كلو يلعن الساعة التي قدم بها الى بشرّي.  ولكن الأمر عاد فسوّي. لقد تبدّلت أمكنة النقاط في كلمة نبيّنا لتصبح "بيننا"، وتصبح العبارة: هنا يرقد بيننا جبران بدلاّ من نبيّنا جبران. ولكن الإشكاليّة بقيت، بل تحوّلت من مسألة هل جبران مؤمن أم ملحد، الى مسألة أين نضع جبران مرتبةً بين قمم أهل الفكر العالمي؟ هل هو أديب، أم مصلح إجتماعي، أمّ مفكّر أم فيلسوف أم حتى نبيّ؟ ولقد جذبت هذه الإشكاليّة، مرّة بعد، المع والضدّ لتبقى ويبقى جبران. هذه الإشكاليّة ما زالت حتى اليوم فاعلة في الولايات المتّحدة الأميريكيّة، وقد لمستها حقيقةً في المؤتمر العالمي الثاني للدراسات الجبرانيّة الذي أقيم في جامعة ماريلاند حيث كرسي جبران. نشير هنا الى أنّنا في لبنان قد وجدنا حلاّ لهذه المسألة بقولنا جبران الشاعر. جبران شاعر ولتذهب هذه الإشكاليّة الى الجحيم. الشرق، على كلّ حال، لا يطيق ان يجهد في حلّ الإشكاليّات.
أشير أيضاً الى إشكاليّة أخرى متمثّلة بما يلي: أن يستطيع جبران أن يُخرِجَ من "الدعارة" شيئاً من الطهارة أو من القداسة كما في قصةّ مرتا البانيّة، فنلك إشكاليّة موصوفة. هذا ما جعل الأديبة اللبنانيّة ميّ زيادة، بالرغم من محبّتها لجبران وتبشيرها بأفكاره، أن تبعث له برسالة تقول له فيها ما معناه أنّها لم تستطع هضم إشكاليّة مرتا البانيّة.
إشكاليّة بعد: في قصل الزواج من كتاب النبي، يقول جبران بضرورة أن يبقي الزوجان على مسافة فاصلة بينهما. يقول " ... فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات بينكم. ... لا تشربوا من كأس واحدة... لا تأكلوا من الرغيف الواحد... فليكن كل منكم وحده، كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده ولكنها جميعاً تخرج نغماً واحداً". وهذه إشكاليّة واضحة وإن بدت إشكاليّة خاصّة مع الكنيسة. إنّها الشعرة التي قصمت ظهر البعير مع الكنيسة التي تعلّم: كونا جسداً واحداً فما جمعه الله لا يفرّقه إنسان. مع جبران، ليس هنالك من جسدٍ واحدٍ في الزواج بل ثمّة جسدين منفصلين تماماً.
*
وإشكاليّات كثيرة غيرها. أمّا المحصّلة فكانت أن جبران ما زال الى اليوم مالئ الدنيا وشاغل الناس على مدى العالم كلّه. العالم كلّه نعم: فجبران حاضر بقوّة في:

- أميركا اللاتينيّة، في معظم دولها. مؤخّراً، وتحديداً في العام 2014 تمّ تدشين ساحة بإسمه في بوليفيا. كما جرى ترجمة كتاب النبي الى لغة " البابيامنتو" (Papiamento) المحكيّة في جزيرة كوراساو في الكاراييب في السنة نفسها. في البرازيل له ساحات وشوارع ومدارس بإسمه ونصُب تذكاريّة عديدة. وله أيضاً في دار بلديّة ساو باولو لوحة تذكاريّة بالمعرض الذي أقمناه في العام 2013...
- في ألمكسيك وجوده أضحى بارزاً مع متحف سميّا إبنة رجل الأعمال اللبناني كارلوس سليم، والذي يحتوي على أكثر من مئة لوحة له كما على العديد من أشيائه الشخصيّة.
- في أميركا الشماليّة، حاضر بقوّة، إن كان في مدن أوتاوا وفانكوفر الكنديّة، أو في أكثر من ولاية من الولايات المتّحدة الأميركيّة. حديقته في بوسطن مليئة بأقواله. أمّا ولاية ماريلاند فتحمل كرسيّ جامعي بإسمه في جامعتها وتحت أقسام كلّية العلوم الإجتماعيّة فيها، وقد ترأّسه البروفسور سهيل بشروئي حتى وفاته، ومعها أقمنا المؤتمر العالمي الثاني للدراسات الجبرانيّة في العام 2012.
- في أوروبا، هو حاضر أيضاً في معظم دولها. لقد احتفظت الحكومة الفرنسيّة بالأستوديو الذي كان يعيش فيه أيّام دراسته فنّ الرسم في أكاديميّة جوليان مع صديقه يوسف الحويّك كذكرى لمكوثه سنتين فيه. وكان للجنة جبران تعاون وثيق مع مؤسّسة العالم العربي في باريس حيث أقمنا وشاركنا في عدّة معارض هناك. هذه السنة سيزور جبران فرنسا مرّة أخرى في فصل الخريف، كما سيعرّج من هناك الى لندن في معرض يضمّ حوالي الثلاثين لوحة.
- في الشرق الأقصى و أوستراليا، هو أيضاً حاضر بقوّة قد تفاجئنا في بعض محطّاتها. والمعرض الذي أقمناه في أوستراليا في بدايات العام 2011 شاهد على ذلك، حيث أمّه أكثر من خمسين ألف زائر في مدّة لا تتجاوز الشهرين. في اليابان والصين تقام الدراسات الأكاديميّة المعمقّة في فكره وأدبه في أكثر من جامعة. وكنّا قد أقمنا في الجامعة الوطنيّة الصينيّة في العاصمة "بيجين" يوماً جبرانياً طويلاً في منتصف العام 2015. أمّا حضوره الذي يدعو الى العجب فهو ولا شكّ في أندونيسيا. فهو في تلك البلاد الشاسعة تماماً كما أنشتاين عندنا. فإذا ما بدا على فتى من فتيانهم بعض علامات النبوغ أو التفوّق يطلقون عليه إسم جبران.
- في الشرق الأوسط، من المفيد أن نعلم أنّ أكثر الكتب الأجنبيّة المقروءة في إيران هي كتاب النبيّ لجبران. وهو حاضر وإن بخجل في سوريا ومصر، وأقلّ من ذلك في الأردن والعراق. ولكنه حاضر في تونس عبر الأطروحات الأدبيّة الباحثة في أدبه وفكره على ما أطلعتنا عليه الدكتورة فاطمة الساسي والتي التقيناه في ماريلاند، وهي أستاذة الأداب العربيّة في جامعة تونس الوطنيّة.
- أمّا في لبنان، فحضوره الأهم هو في بشرّي حيث متحفه الذي يحتوي ثلثي الإرث الجبراني في العالم. كما هو حاضر في العاصمة من خلال ساحة بإسمه مقابل مبنى الإسكوا، وفي العديد من الشوارع والساحات التي تحمل إسمه. وهنا لا بدّ أن نسجّل للجان جبران المتعاقبة دوراً أساسيّاً لهذا الحضور.
*
وبعد، هذا باختصار مدخل متواضع الى عالميّة جبران. واللجنة الآن بصدد تجميع ما تملك من معلومات عن حضوره المنتشر أين مكان لنشرها في كتاب خاصّ.

وفي النهاية، أكرّر تهنئتي لجمعيّة معاً نعيد البناء، وللمكرّمين الأصدقاء، والشكر لكم. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق