الصحف اللبنانيّة الى زوال؟
نحن نعيش ثقافة
الحواس، ثقافة الإستهلاك. لم نعد نشعر إلاّ بأعيننا وبآذاننا. أمّا العين فلا تعرف
شبعاً ممّا ترى، لا ولا الأذن ممّا تسمع. ولهذا نحن لم نعد نشعر كما يجب أن نفعل. هناك
علاقة جدليّة بين المعرفة والإحساس. فإذا انتفت الأولى غيّرت الثانية من سيرها
الطبيعي وتاهت في كلّ اتّجاه. فأنت لا تعرف كيف تشعر إذا لم تتّصل بثقافات الغير
وبآرائهم وبخبراتهم، بل سيبقى شعورك فطريّاً، بدائيّاً، ضيّقاً، مائلاً الى
الغرائزيّة. أمّا باب الولوج الى المعرفة فما هو إلاّ القراءة وهي أوّل وسيلة
للتعلّم الذاتي ولكسب المهارات ولنمو الشخصيّة بالإتّصال بالثقافات المتعدّدة.
إقرأ إذاً، لتواكب العصر، لتعرف أن تميّز فتناقش بعلم، لتطوّر مدارك عقلك وقدرات
فكرك، لتساهم في بناء حضارة مجتمعك والعالم.
كلّ ما يحيط بنا اليوم يعزّز من ثقافة الحواس، وأهمّ هذا الكلّ وسائل الإعلام
المرئيّة عندنا. وعليه نسأل أين البرامج الثقافيّة أو حتى المعرفيّة على شاشاتنا؟
إن تلفزيونات اليوم وعلى مدى سنين غيّبت الحسّ الثقافي المعرفي عن جيل اليوم
واستبدلته بما تسمّيه المنوّعات الترفيهية لتساير المنطق الإستهلاكيّ التي نتخبّط
به. أمّا أثر هذا التغييب فكان في تدنّي نسبة القرّاء وعدولهم عن المعرفة الفكريّة
بالمشاهدة العينيّة لكلّ ما هو برّاق. لا أعلم إذا ما كانت التلفزيونات تدرك أنّها
تساهم في هبوط الرقي الاجتماعي بما تقدّم من برامج برّاقة للعين دون العقل، ولكنّي
أعتقد أنّها كانت سبباً في إحجام الجيل الشاب عن القراءة وبالتالي ساهمت في دفع دور
النشر، نشر الكتب والصحف والمجلاّت، الى التفكير في الإحتجاب. وسأضرب في ذلك
مثلين:
الأوّل، يتعلّق بصدور شريط مصوّر أنتجه على ما عرفنا أحد التلفزيونات
يتناول أغنية مبتذلة، جنسيّة الإيحاء، بقصد التوعية الى سخافة ما ينتج اليوم. وكان
العنوان المعطى لهذا العمل شعار ثقافي بامتياز: " بلا سخافة، عيشوا الثقافة
". المفارقة أنّ هذا التلفزيون نفسه، كباقي التلفزيونات، لا يفسح في برامجه
مجالاً لبرنامج ثقافي واحد ولو في الشهر. الأشدّ مفارقة أنّ نسبة مشاهدة هذا
الشريط بلغت أكثر من نصف مليون مشاهدة في أقلّ من أسبوع. حتى في محاربة الإبتذال
ننحدر الى الإبتذال نفسه. أمّا المضحك، فكان في مقابلة لبطلة الشريط تنصحنا بقراءة
كتاب ولو واحد في الشهر بدلاً من مشاهدة شريطها المصوّر وأمثاله.
الثاني، هو استذكار للبرنامج الفرنسي "Apostrophe"، المتخصص في عالم الكُتَّاب والكتب، والذي
كان يجمع أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد كل أسبوع، والذي توقّف عن البثّ منذ حوالي
الثلاثين عامًا، وإن لم يتوقّف الحديث عنه حتى الآن. لقد دخلت هذه البرامج في خانة
النوستالجيا، والحنين إلى "الزمن الجميل". هذا النوع من البرامج
الثقافيّة كان يطمح لخلق نقاش ثقافي وفكري متواصل، وإثارة الفضول المعرفي، والدفع إلى
التفكير والتأمل، فيزيد من الإبتكارات الثقافيّة وصناعتها.
والحال، ليس من العجب أن تحتجب بعض الصحف أو دور النشر عن العمل في زمن
يعتمد على الصورة الجريئة التي مهما بلغت جرأتها لن تشبع الناظر إليها، وعلى
الإنتاج الإستهلاكي الذي يعود بالنفع المادّي لصاحبه على حساب تطوّر مجتمع ورقيّه.
أعلم أنّ الثقافة كانت ولمّا تزل جهداً شخصيّاً ذاتيّاً بالدرجة الأولى، ولهذا قد
يكون الوقت قد حان للثورة على الذات.